ثمة حروب من نوع أخرى تجري اليوم في العراق المدمى والمنهك والمشرف على أبواب المستقبل على خيارات صعبة ومتداخلة وغير مضمونة!، إنها حروب من نوع جديد تعبر عن عمق الأزمة الفكرية والمجتمعية والثقافية التي يعيشها الشعب العراقي بعد أكثر من ثلاثة سنوات على سقوط حكم البعث البائد الذي حكم البلاد والعباد لأطول فترة في تاريخه الحديث تهشمت خلالها كل القوى الإجتماعية والسياسية وتبددت فيها فرص للتقدم كانت متاحة وممكنة الإلتقاط لولا سياسات الحروب العبثية، والتثقيف الفاشي، وهيمنة القوى (المتريفة) البدائية على السلطة والقرار ومن ثم النكوص بالمجتمع العراقي صوب خيارات رجعية مهلكة كالعشائرية والطائفية والتمسح بأعتاب الخرافات وحركات الدجل والشعوذة التي عادت اليوم بقوة للشارع العراقي في ظل الفراغ السياسي والإنهيار الأمني، وفقدان الأمل وشيوع الإحباط، وتمدد اللصوص وسطوتهم للأسف على مواقع لم يكونوا ليحلموا بها فضلا عن أن يتمنوها!!، وقد عودنا تاريخ الأمم والشعوب الحية على مشاهد متكررة لأوضاع مأساوية عاشتها شعوب الدنيا أيام أزماتها، ولكن التاريخ لم يتحدث عن أمة إستوطنت فيها الخرافة وإنتعش فيها الدجل كما هو سائد اليوم في العراق!! والذي تجري فيه وحوله حروب المستقبل الستراتيجية لتقرير شكل وصورة المنطقة خلال القرن القادم، بينما قطاعات عديدة منه لا تزال تعيش على أرصفة العصور الوسطى تأبى أن تفارقها!! وفي ظل مشهد مسرحي تهريجي أو كوميدي أسود على أدق وأصح تقدير!.

هلوسات مهدوية صاخبة!!.
لقد طالعتنا أنباء الأيام الأخيرة بنمو وترعرع تيارات دينية/ فكرية / طائفية لا تخلو من الطرافة الظاهرية ولكنها في مجملها تعبر تعبيرا دقيقا عن حال ومآل الأزمة العراقية المستعصية في ظل هيمنة قبائل التخلف المريع على القرار، وفي ظل تطاحن الصراع بين المرجعيات الدينية والسياسية والتي بلغت حدودا متفجرة يعاني من شظاياها ونتائجها رجل الشارع العراقي، وتهمش في حصيلتها كل مكتسبات التقدم والحضارة، وتشير إلى تراجع فكري مهين لا يجوز بحق شعب كان في يوم ما في طليعة الشعوب المتحضرة التي تضم أعدادا هائلة من المثقفين والعلماء والأدباء وفي كل مجالات الإبداع والتميز، فمن العراق إنطلقت في الربع الأول من القرن الماضي حركات التنوير الفكرية والإجتماعية، ومن العراق إنطلقت موجة التحديث الأدبي والشعر الحر، ومن العراق إنطلقت المرأة العراقية لتمارس دورها الحضاري المغيب، ومن العراق إنبثق الأمل بتقدم إجتماعي وسياسي وثقافي مذهل، ولكن أين تلك الصورة الوردية مما نسمعه ونشاهده اليوم من مناظر مخزية بحق الفكر البشري، ومسيئة للفكر الديني، و فضائحية بحق العقل والمنطق السليم!، فلقد إنتشرت في جنوب العراق مثلا وبالتوازي مع هيمنة الأحزاب الدينية والطائفية من تكفيرية مجرمة أو (بويهية) متخلفة أفكار قديمة/ جديدة قد تصلح كأفلام كارتون، وقد تنفع في أوساط قبائل الهوتو والتوتسي و لكنها قطعا لا تصلح إطلاقا لشعب كان في يوم قريب يقف على آخر أبواب توديع الأمية!! تلك الأفكار الدينية ذات الدلالات الغيبية المتعلقة بظهور المنقذ والمخلص والتي عرفتها جميع شعوب الأرض ولكنها في الحالة العراقية الراهنة تحولت لمرض مقيم، ولحالة تخدير فكري مرعبة بل أنها قد أصبحت (أفيونا) حقيقيا يهدد بإجتياح بقايا عقل أكلته الحروب والكوارث! وإليكم الأمثلة:
فقد لجأ (أحد المعممين) مثلا لإبتداع صلاة من نوع جديد حيث تكون السجادة المخصصة لمن يؤم الصلاة فارغة ويصلي المؤمنون خلفها!! تحت زعم أن من يؤم الصلاة على السجادة الفارغة هو (الإمام المهدي المنتظر)!!! الذي إقترب وقت ظهوره ولكنه لا يظهر حاليا لأسباب ربانية!! فتأملوا المنظر؟ وكيف تكون الصلاة أوتوماتيكية؟ وكيف تتعلق الأذهان والنفوس بالسجادة الفارغة؟؟! ماذا نسمي هذه الظاهرة المبتدعة؟ ووفق أي مقياس نقيسها؟.. وإليكم مثالا آخر يعبر عن مدى خواء العقول والنفوس ولا داعي لذكر الأسماء لأن عراقيي الجنوب يعلمون جيدا من يقف وراء تلك الأفكار والحركات والتيارات:

الإمام المهدي والغطس في النهر؟
وعد أحد (المعممين) أتباعه بأنه سيوفر لهم فرصة مقابلة (الإمام المهدي) الذي يدعي بأنه يقابله بإستمرار بل ويشرب معه الشاي!!، فأخذ أتباعه في ليلة شتوية باردة صوب أحد الأنهار قائلا لهم بإن الأمام المهدي يعتذر عن مقابلة الجماعة بأسرها ولكنه سيقابله ويعود لهم بالدليل المادي لتلك المقابلة!! وفعلا فقد غطس صاحبنا المعمم في النهر ثم خرج وبيده (خلال) وهو تمر الصيف في عز الشتاء!! فكبر أتباعه وهللوا مستبشرين بمقابلة صاحبهم للإمام المهدي!!! وهنالك حكايات وروايات حقيقية هي أغرب من الخيال، وجميعها تفصح عن عمق الأزمة الفكرية في العراق، وتؤكد على حكاية : يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!!، ويبدو أن للدجل في حياة العراقيين تاريخ لا ينتهي!. ومن الطريف ذكر موقف شخصي حدث لي مع أحد (المهندسين) العراقيين في أوسلو يبين مدى تغلغل عقلية الخرافة في أوساط حتى النخب الفكرية! فبعد تفجير قبة مرقد الإمامين العسكريين في سامراء على أيدي جماعات التكفير القاعدية أكد لي ذلك (الباشمهندس) وقتها!! من أن ما حصل يمثل خطة أميركية لنسف الأضرحة الدينية ومن أجل الحصول على الحامض النووي للأئمة ومن ثم البحث عن الإمام المهدي في العراق!!!! والله العظيم هذا ما حصل؟ وشكل بالنسبة لي مفاجأة كبرى لأنه ساعتها فقط عرفت من أن العقل العراقي قد ذهب لإجازة مفتوحة قد تطول! فلا حول ولا قوة إلا بالله، والعراق كما أسلفنا قد تحول بكل تراثه لمهزلة سوداوية مرعبة.

[email protected]