بعد عشرة أيام تقريباً من الآن، تحلُّ الذكرى الخامسة لكارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي غيّرت دون شك مجرى التاريخ في الشرق الأوسط، وترتب عليها زوال أنظمة سياسية، وقيام أنظمة سياسية جديدة في أفغانستان والعراق وفلسطين، وأخيراً في لبنان. كما ترتب على هذه الكارثة تموضع جديد للاتحاد الأوروبي ولأمريكا التي أصبحت الشغل الشاغل لدول وشعوب وكتّاب الشرق الأوسط، بما حاولت أن تفعله خلال هذه السنوات الخمس من تاريخ الكارثة الفظيعة.

كارثة الكوارث
لقد اعتبر كثير من المؤرخين حتى الآن، أن أثر هذه الكارثة أكبر بكثير من كارثة quot;بيرل هاربرquot; 1942 ، التي ذهب ضحيتها مئات الجنود الأمريكيين، وغرق عدد من الغواصات الأمريكية. ولعل من شاهد فيلم المخرج الأمريكي الفذ أوليفر ستون الأخير (مركز التجارة العالمي) سوف يدرك ما فعلته هذه الكارثة بالشعب الأمريكي على وجه الخصوص من مآسٍ وكوارث وأحزان.
بعد هذه الكارثة قررت الإدارة الأمريكية، أن تنقل البيت الأبيض من واشنطن إلى بغداد، وأن تنقل الكونجرس من الكابيتول هيل في واشنطن إلى ساحة الفردوس في بغداد، لكي تنشر من هنا مبادئ الحرية والديمقراطية التي اعتقدت الإدارة الأمريكية بأنها الحلُّ الأمثل والدواء البلسم للقضاء على الارهاب الديني الأصولي في الشرق الأوسط، مُتمثلةً بالتجربة اليابانية عام 1945، التي استطاعت فيها أمريكا أن تقضي على الروح القومية اليابانية العسكرية، وعلى نظام العسكرتاريا الياباني الذي انهك الصين وكوريا وبلدان مختلفة من آسيا بحروب قاسية ومريرة وفظاعات انسانية، فاقت كل تصور وخيال، وثّقتها الكاتبة الصينية إريس جانجChang Iris في كتابها (اغتصاب نانكنج The Rape of Nanking) (دار بنجوين، 1998). ونانكنج مدينة صينية اجتاحتها القوات اليابانية عام 1937 واستباحتها، وعذّبت، واغتصبت، وقتلت ما يزيد على 300 ألف من سكانها، مما فاق عدد القتلى في هيروشيما فيما بعد، بفعل القنبلة النووية. وأثبتت الكاتبة في هذا الكتاب، أن اليابانيين في ظل ثقافة العسكرتاريا ما قبل 1945، هم أكثر شعوب الأرض والتاريخ وحشية وهمجية. وأن ما فعلوه في الصين وكوريا ومناطق أخرى من جنوب شرق آسيا، يفوق كثيراً من فعله يزيد بن معاوية، حين استباح المدينة المنورة لمدة ثلاث أيام، ويفوق كثيراً ما فعله بعد ذلك التتار في الشرق العربي، وما فعلته اسرائيل بالفلسطينيين، وما فعله صدام حسين بالأكراد في حملة الأنفال.. الخ.

البداية الخاطئة
لو كانت الإدارة الأمريكية الحالية إدارة عاقلة، لاكتفت في عام 2001 بالإطاحة بنظام طالبان، وملاحقة عناصر القاعدة في أفغانستان وباكستان، وحصرت مهمتها العسكرية في هذين البلدين. وركزت على الجهود الديبلوماسية والثقافية للإصلاح السياسي والثقافي الذي تبتغيه. وسوف نتحدث في مقال لاحق عن وسائل هذه الجهود بالتفصيل. ولكن الشعب العراقي كان محظوظاً إلى أبعد حد ممكن، حين سخّر الله له إدارة (هبلة) كالإدارة الأمريكية الحالية التي استطاعت المعارضة العراقية في الخارج أن تقنعها بأن نظام صدام حسين أخطر على أمريكا من quot;القاعدةquot; ومن طالبان نفسها. وبأن أسلحة الدمار الشامل كانت موجودة لدى صدام حسين، وربما هربها إلى إيران وسوريا قبل وقوع الغزو الأنجلو أمريكي، واستطاعت إيران أن تستفيد منها الآن في تخصيب اليورانيوم، وفي سعيها للوصول إلى امتلاك القنبلة النووية، وربما يعلن أحمدي نجاد بين يوم وآخر من نهاية هذا الشهر وبمناسبة الذكرى الأولى لتوليه الرئاسة الإيرانية، بأن إيران أصبحت رسمياً quot;قوة نوويةquot; . وربما كان هذا هو السر وراء تقديم الرد الإيراني على العرض الأوروبي في 22/8/2006 ، وليس قبل ذلك كما طلب العالم كله تقريباً من إيران.
وعندما نقول بأن الشعب العراقي كان محظوظاً حظاً كبيراً في عام 2003 بأن سخّر الله الإدارة الأمريكية (الهبلة) التي اندفعت إلى العراق لتحريره من حكم صدام حسين، نعني بذلك، بأنه لولا مثل هذه الإدارة، وملياراتها وجيوشها الجرارة، لظل صدام حسين وأولاده وأحفاده يجثمون سلاطين وحاكمين على صدر الشعب العراقي إلى يوم يبعثون. ولن تستطيع قوة عراقية، أو عربية، أو اسلامية، أو عالمية، أن تخلعه كما خلعته أمريكا بتكلفة مالية عالية جداً بلغت حتى الآن أكثر من ثلاثمائة مليار دولار، وأكثر من قتل 1600 جندي أمريكي ، وإصابة أكثر من عشرين ألفاً، إضافة إلى سمعة أمريكا ومكانتها المنحطة الآن في الشرق الأوسط، بحيث لم يعد يقبل الشارع العربي من الآن فصاعداً أي مشروع تأتي به أمريكا، حتى ولو جاءت للعرب بالشمس في يمينها والقمر في يسارها.

فجرة العسل الأمريكية للعرب مسمومة، مسمومة، مسمومة، كما يعتقد معظم العرب!
وزاد الطين بلّة في العراق، ما ظنت الإدارة الأمريكية بأن ما اتبعته من استراتيجية في اليابان من تفكيك وتسريح للمؤسسة العسكرية، وتنظيمات الحزب الحاكم، وتفكيك الاستخبارات.. الخ. يصلح أن يُطبّق في العراق أيضاً. فقامت بالفعل نفسه في العراق، دون مراعاة لفرق الزمان والمكان، ودون اعتبار لطبيعة التركيبة الدينية والعرقية والسكانية للعراق. ودون اعتبار للنقص الشديد في النخب السياسية الصالحة للحكم في العراق، ودون اعتبار لجيران العراق الذين ارتعبوا من تغيير نظام الحكم العراقي، واعتبروه خطوة أولى لتغيير أنظمة الحكم في بلادهم أيضاً ، فيما لو نجحت التجربة السياسية في العراق. لذلك ، حاول هؤلاء الجيران إحباط نجاح التجربة بكل ما أوتوا من قوة وعزم. ففتحوا حدودهم لدخول الإرهابيين الأصوليين من كل فجٍ عميق، وزوّدوهم بالسلاح والمال، وبكل مساعدة ممكنة ليس لقتل المحتل الأمريكي أو البريطاني، ولكن لقتل التجربة السياسية العراقية، المتمثلة في أن يتم اسقاط نظام حكم بواسطة قوى خارجية، على النحو الذي تمّ في العراق. فكان عدد الضحايا من الشعب العراقي من المدنيين والرسميين ورجال الأمن العام أضعافاً مضاعفة لعدد الضحايا من جنود الاحتلال على مختلف جنسياتهم.
وكانت النتيجة أن فشلت التجربة الأمريكية في العراق، لأسباب أمريكية ولأسباب تتعلق بجيران العراق ولاسباب تتعلق بوضع العراق الداخلي الذي لم يولَّ أية خصوصية، أو أي اعتبار، رغم أن العراق قد حقق أهدافاً سياسية كبيرة، كإسقاط نظام الحكم الديكتاتوري، وكتابة دستور جديد وعصري، وانتخاب البرلمان العراقي، وتشكيل حكومة دائمة.. الخ. ولكنه بالمقابل عاش لمدة ثلاث سنوات حتى الآن في جو من عدم الاستقرار، وفي معاناة يومية مريرة، لأن العرب لا يريدون له إلا هذا المصير.

لا آذان عربية صاغية
لم يعد الشارع العربي وحده، ومن خلال الرأي العام العربي، هو الكاره وهو الناقد بحده للمواقف الأمريكية في الشرق الأوسط، ولكن الأمر تعداه إلى النخب الأمريكية نفسها من دون الحزب الديمقراطي المنافس لحزب الإدارة الأمريكية وللرئيس بوش. فقد زادت كراهية العرب لواشنطن عما كانت عليه قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001، وقبل غزو العراق في 2003. وكان العرب وما زالوا ، يحمّلون الإدارات الأمريكية المتعاقبة وزر القضية الفلسطينية وشقاء الشعب الفلسطيني. صحيح أن القيادات الفلسطينية لم تكن على مستوى القضية الفلسطينية وضخامتها وأهميتها، ولم يوجد في تاريخ القضية الفلسطينية زعماء تاريخيون ومؤسسون، كما كان لدى اسرائيل من حجم بن غوريون وجولدا مائير ومناحيم بيجن واسحق رابين وغيرهم. ورغم هذا، كان على الإدارات الأمريكية أن تفعل شيئاً ايجابياً يجعل الفلسطينيين والعرب يثقون مستقبلاً بالقرار الأمريكي والفعل الأمريكي، حتى ولو أدى هذا إلى اغضاب اسرائيل واغضاب اللوبي الصهيوني في أمريكا. أما وقد لم تعد للعرب ndash; في مجملهم - ثقة بالقرار الأمريكي والفعل الأمريكي، فاعتقد أن على أمريكا أن تترك الشرق الأوسط لحاله وماله وباله، وتنسحب من هذا الشرق التعيس، الذي لا يرغب لا في الإصلاح ولا في حمل السلاح (سلاح الفكر والعلم)، ويريد من العالم أن يتركه وحده كما فعلت الإمبراطورية العثمانية فيه، خلال أربعة قرون من حكمها للشرق الأوسط عن طريق المراسلة والانتساب وليس الالتصاق والالتحام الفعلي. فهؤلاء العرب كما وصفهم الروائي السوري هاني الراهب مثلهم كمثل حبات الرمل، تتقارب من بعضها بعضاً، ولكنها لا تلتصق ببعضها أبداً. وهذا الشرق كالدوامة التي تبتلع الأشياء وبشكل لا نهائي. وهذا الشرق كما وصفه المفكر الكويتي الليبرالي أحمد البغدادي في مقاله ( السيد الرئيس: إنه الشرق، جريدة quot;السياسةquot;، 7/8/2006)، quot;بأنه ينتفخ ويتورَّم بفعل ابتلاع الأشياء التي تمر عليه، وهو واثق أن لا شيء يؤثر فيه. فالشرق ببساطة محصن ضد كل شي. فهو لا يتغير مهما تغيرت الدنياquot;. وأثبتت الحالة العراقية ذلك.
لقد ضاعت أموال دافعي الضرائب الاميركيين في رمال الشرق، وفي جيوب شيوخ القبائل، وحسابات الارهابيين. ويتساءل أحمد البغدادي منكراً على الإدارة الأمريكية (الهبلة) هذا الجهد الضائع في العالم العربي بقوله: ترى هل حفظ لك الكويتيون جميل تحريرهم من الاحتلال العراقي؟

العرب كالضَبِّ آخر الديناصورات
ويوجه أحمد البغدادي كلامه للرئيس بوش ويقول له:
quot;السيد الرئيس في صحراء هذا الشرق يوجد حيوان زاحف يتجاوز عمره آلاف السنين، يُسمى الضَبَّ، بشع المنظر، سميك الجلد، وسريع الحركة، لعله الحيوان الوحيد- ربما بعد التمساح- الذي يجسد أسطورة الديناصورات المنقرضة. هو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة. أتدري لماذا سيدي الرئيس? لا لشيء سوى أنه يعيش في الشرق، في الصحراء حيث شح الماء، وصعوبة الحياة، والرمال الحارقة، ولا شيء ينبت حوله. ومع كل هذه الصعوبات البيئية لا يزال يركض متحدياً القرون والتاريخ معا! لست أدعي أن الشرق قوي، بل بكل بساطة لديه جينات طبيعية لكل ما هو غير مفيد للإنسان. فهو يرفض الديمقراطية، ويرتاح مع الاستبداد. يرفض المساواة ويغرد مع الطبقية الاجتماعية, يرفض الإنسانية, ويرتاح مع الطغيان.إنه بكل بساطة يرفض الحياة الطبيعية السويةquot;.
وبكل مرارة وحُرقة وأسى يختم البغدادي رسالته إلى الرئيس بوش يقوله:
quot; السيد الرئيس, تريد شرقاً أوسطياً جديداً؟
أقول لك بكل بساطة، ]أقبض من دبش[، و ]دبش[ هذا شخص وهمي، أوجدته المخيلة الكويتية المبدعة للتعبير عن واقع حال، لا يعرفه إلا العربي الذي لا يتعامل مع الواقع الحقيقي الذي يعيشه الناس الطبيعيون. واقع تضيع فيه الحقوق وإنسانية الإنسان، والكل مرتاح!
ماذا تستطيع أن تغير في هذا الشرق السرمدي؟
تريد إقامة ديمقراطية؟
صدقني لن تقبض سوى استبداد ديمقراطي.
تريد لهم الحرية؟
سيقولون للاستبداد يا مرحبا!
صدقني، سيموت أبناء الاميركيين على هذه الرمال، وهم يحاولون تحقيق الوهم الذي لن يتحقق أبداًquot;.
فهل وصل الغباء بالإدارة الأمريكية إلى أن تنفخ في رماد، وتصرخ في واد؟
وفروا ملياراتكم لفقرائكم
من الأجدر أن توفر الإدارة الأمريكية ملياراتها للفقراء الأمريكيين الذين ينامون تحت الجسور والطرقات السريعة في مختلف المدن الأمريكية، أو تحّسن بهذه المليارات حال مواطنيها الذين يعيشون تحت خط الفقر، أو تحسن مستوى التعليم في المدارس والجامعات الأمريكية الحكومية.
أما صرف هذه المليارات في سبيل تحرير الشعوب العربية من طغاتها، فهو كمن يدلق الماء في صحراء الربع الخالي، طمعاً في أن يزرع فيها أعناباً ونخلاً.
وها هم أعضاء من الكونجرس يوصون بالتباحث مع سوريا - وذلك أدنى درجات الانحطاط السياسي ndash; لتخليصهم من المستنقعات التي هم فيها في الشرق الأوسط!
فبئست النهاية المذلة لهذه الإمبراطورية التي أصبحت عجوزاً فعلاً ، مثلها مثل الإمبراطورية البريطانية الغابرة.
فلترحل أمريكا عن الشرق الأوسط ولتنكفئ على نفسها، لتعالج قضاياها الداخلية المتراكمة والشائكة. وتدع شعوب المنطقة تقتلع أشواكها بأيديها - إن استطاعت - وإلا فليُدمِ الشوك أيديها حتى تنتفخ وتتورم، فلا تقدر على الامساك بشيء. فليس هناك أمراً إلهياً في الكتب المقدسة الثلاثة يطلب من بوش أو من أمريكا أن تحمل مشعل الإصلاح لأمم تنعم وتسبح بحمد ما هي فيه، وما هو عليه حالها ومالها وبالها. أما امدادات النفط التي تخشى عليها أمريكا، فسوف تواصل تدفقها ما دامت أمريكا تدفع ثمنها على (داير مليم) ،كما سبق وكانت عليه الحال قبل كارثة الحادي عشر من سبتمبر، وقبل أن تصبح أمريكا حاملة مشعل الديمقراطية المكسور والمنطفئ في الشرق الأوسط بفعل مقاومة التغيير والإصلاح و (التنتيح) (من تنَّحَ. يقال: تنَّحَ الحمار؛ أي رفض السير، أو الحركة) الذي يتميز به معظم العرب، والذي لم يطلب أحد منها أن تُشعله، ما عدا حفنة محدودة من الليبراليين الضالين.

السلام عليكم.