تلحّ ثقافتنا الأسلامية ـ بأعرافها وتقاليدها، على الأقل ـ على الرموز الفلكية؛ كالأرقام والأبراج والنجوم، مماهية إياها مع أهواء وتكوينات شخصياتنا، كما مع مسارات حيواتها ومصائرها. فلا غرو إذاً، أن تلقى خرافة تلك الرموز، الموسومة، هوىً في نفوس الجماعات الأصولية، المعاصرة؛ هيَ التي يقومُ خطابها التحريضي في رفضه للمدنية والحضارة، أساساً، على فكرة quot; القيامة quot;؛ أو فناء العالم، وفق تقدير زمنيّ محسوب، مزعوم. وعلى هذا، تصاعد ذلك التفسير الفلكي، الخرافي، مع سحب دخان الإنهيارات المريعة لبرجَيْ التجارة العالمية، في نيويورك، في يوم الثلثاء من الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، حتى كاد يغطي عليها خلال التغطية الإعلامية العربية، العتيدة، لذلك اليوم الأسود. ونكتفي، هنا، بإيراد مثاليْن على الشعوذة الفلكية، المدعية تمثلها بالعقيدة الإلهية : الثلثاء؛ كرمز للموت والفناء، عند العرب الأقدمين. والحادي عشر / 11؛ كرمز للبرجَيْن شكلاً ورقماً. إذ فات أولئك المشعوذين، إياهم، حقيقة واضحة لا لبس فيها؛ وهيَ أنه في كلا الرمزيْن، المذكوريْن، كما في الرموز الفلكية الاخرى، قد سادت إعتقادات الجاهلية وطرق تفكير أصحابها؛ الجاهلية، التي من المفترض لرسالة الدين الجديد أنها أنزلت لتدحضها وتذري أنصابها وأوهامها.

حديث الأمثلة، آنف الذكر، يسمحُ لي، على ما أفترض، إستسماحَ حلم القاريء وصبره، لإيراد مثال معاناتي الشخصية وعائلتي، إثر quot; غزوة نيويورك quot;، المشؤومة؛ وهيَ المعاناة، التي أحسبُ أنّ كل شخص مسلم، في أوروبة، قد شاركني فيها أو بعضها أو أضعافها. فمنذ quot; ثلثاء الموت quot;، ذاك، أضحينا في نظر أهل البلاد المضيفة ـ أو أكثريتهم، ربما ـ مجرد وحوش، ما من هدف لنا إلا التبشير بيوم النشر والحشر، ودفع خلق الله إليه تفجيراً وإغتيالاً وذبحاً؛ وحوش، نتلبس أشكالاً آدمية، لا همّ لنا سوى تكفير الآخرين وترويع حياتهم وتهديدها وتعكيرها. حدّ أن لفظة quot; الإرهابيّ quot;، صارت لدى أولئك الأوربيين، خصوصاً، معادلة لصفة المسلم، عربياً كان أم كردياً أم تركياً أم هندياً.. الخ. منذ الليلة المصاقبة لتلك quot; الغزوة quot;، صرنا نفيق في كل مرة وفي ساعة متأخرة، على صراخ ثاقب، مصدره حجرة إبننا. نهرع إليه، أمه وأنا، لنراه مرعوباً مرتاعاً، كأنما أصيبَ بمسّ؛ هو الطفلُ الرقيق، البريء، إبن الأعوام الخمسة وقتئذٍ. نهديء من روعه، ببسملات والدته ومداعباتي له، ونصطحبه من ثمّ إلى حجرتنا. ثلاثة أشهر، على تلك الحالة، وإبننا يزداد نحولاً وشحوباً وإضطراباً، فيما التوتر يخيم رويداً على المنزل، الذي لا أدعي أنه كان مضرب المثل بهدوئه وصفائه؛ إلا أنه كان كذلك بنظر الأهل والأصدقاء، على الأقل. إلى أن كانت إحدى الليالي، السابقة لليلة الميلاد المجيد، وصرخة إبننا تلك، المعتادة، ستضع حداً لحياة زوجية إستمرت لما يقارب الثماني سنوات؛ الإبن الذي كان ليلتئذٍ مريضاً محموماً، منكمشاً على نفسه في سريره، مشدوهاً، منكراً لنا حتى أنه إنزلق من أيدينا وفرّ في أنحاء المنزل، لا يلوي على شيء. أضحت تلك الحجرة، المشؤومة، ملاذاً لي، ريثما تنتقل العائلة إلى سكناها الجديد، بعيد قرار الإنفصال. وكان أن أفقت، بدوري، في منتصف إحدى الليالي على ما يشبه طعنة خنجر، نجلاء، في صدري، أعقبها إشتداد ضربات القلب بصورة فظيعة. أم أولادي، بادرت على الفور للإتصال بالإسعاف، مبلغة إياهم أن ذبحة صدرية، ربما، قد دهمت الرجلَ. تكررت الحالة مرة اخرى، والطبيب يطمأنني بأنه ما من شيء غير طبيعيّ في قلبي أو في ضغط دمي، وأنه على الأرجح معاناة من إرهاق أو توتر نفسي. الحقيقة، كانت غير ذلك. سيتكشف لي مباشرة بعيد إنتقال عائلتي إلى سكنها الجديد، أن الشبان الثلاثة، السويديين، الذين يقيمون في الشقة التي تعلو شقتنا، يتناوبون في كل ليلة تقريباً، على تنغيص حياتنا؛ بقيام الواحد فيهم برفع قطعة أثاث ثقيلة ثم الإنهيال بها على أرض حجرتهم، التي هيَ في الآن نفسه، سقف حجرة نومنا : بهذه الطريقة، الموصوفة، شاءَ هؤلاء السويديون، المنتمون لأعرق دولة حضارية متمدنة، راقية، إستيفاءَ حقّ الغربيين منا؛ نحن المسلمين القادمين من المشرق، الهمجيّ.

خمس سنوات، كاملة، من المعاناة. ثلاثة أفواج من المستأجرين، السويديين أو الفنالنديي الأصل، تعاقبوا على الشقة التي تعلو مسكننا، دون أن تخفت معاناتي، بل تضطرد سوءاً. أضحى الطرق، ليلاً، على سطح حجرات المنزل، يكتنفه موسيقى صاخبة وعربدة أولئك الجيران وضيوفهم، السكيرين جميعاً. ثم يعقبه، نهاراً، منغصات لا تحتمل من موسيقى وجلبة وخطى الأقدام الجديرة بالفيلة، لا ببني آدم. أضحت حديقة منزلي، التي تتألق في فصول الصحو بأبهى حللها من الأزهار والورود والتعريشات، بمثابة سلة قمامة لجيراننا المحترمين، إياهم؛ حدّ أنهم في إحدى المرات، رشوها بمادة زيت السيارات : حضر البوليس إثرئذٍ، لا لكي يحقق في الأمر وإنما لكي يوبخني لأنني جرحت مشاعر جيراني، الرهيفة، حينما تكلمت معهم حول المشكلة. لم يكلف الشرطيون أنفسهم، يومئذٍ، حتى بسؤال الأصدقاء، الذين كانوا ضيوفاً لديّ. الأسوأ من كل ذلك، كانت حالتي مع ولديّ الصغيرين، وما كنت أعانيه في كل مرة يحضران فيها إليّ في منزلي. وكمثال، سأذكرُ يوماً لا يمكنني نسيانه، أبداً : كان ذلك في مستهل العام الجاري؛ الموافق عيد ميلاد إبنتي، المكملة لسنواتها الست. لقد توجهنا يومئذٍ برفقة أخيها لنشتري لها الهدايا، الموعودة. كانت إبنتي معنا في الحافلة، المتجهة إلى مركز المدينة، وفي حالة يرثى لها؛ مصفرة، باكية، تعسة، لا تني عن تذكيرنا كل مرة بكوابيس الليلة الماضية : الليلة، التي شاءت جارتنا المحترمة ـ وهيَ للمناسبة ممرضة، من ملائكة الرحمة ـ أن تشارك فيه طفلتي الصغيرة بمسرة ميلادها، وعلى الطريقة المعروفة، الموصوفة آنفاً؛ الليلة، التي زارنا فيها دفعة وراء الاخرى، البوليس ومناوبو شركة المساكن، بلامبالاتهم وإستهتاره، الروتينييْن.

خمس سنوات، كاملة، من المعاناة. لن أسترسل فيما جنيته، أيضاً، من متاعب مع زملاء العمل، في إحدى شركات الإعلان والطباعة؛ وعلى الخلفية ذاتها من آثار الحادي عشر من سبتمبر. حديث طويل من الشجون. فكلما ضرَبَ الإرهابُ هنا أو هناك، من quot; بالي quot; إلى quot; لندن quot;، دفعنا نحن مسلمو الديار الغربية ثمناً باهظاً. كلما إنبرى معتوهٌ، من دجالي quot; القاعدة quot; وأخواتها، في فتاوى التكفير والإباحة؛ سينالنا في هذا الغرب ذاته ما ينالنا من ضغوط لا تحتمل، نفسية ومعيشية. لن نكف، هنا، عن معاطاة أقداح المعاناة والمرارة، ما دام أولئك الغربيين، quot; الكفار quot;، لن ينصاعوا ـ على أغلب تقديرات وتحليلات فضائياتنا، الماجدات ـ إلى دعوة شيخنا الظواهري، الجديدة، لهم لإعتناق الإسلام، أو لدعوة رفيقه أبي حمزة المصري، القديمة، لدفع الجزية. وعلى كل حال، فمعاناتي الشخصية لم تنته وتبدو كما لو أنها مؤبدة؛ حال الحكم الغاشم، البعثي، الذي دفعني إلى مغادرة موطني والإلتجاء للغرب. فقضايا الجيران تلك، إنتقلت أضابيرها من يد البوليس، العتيد، إلى أروقة المحاكمة، المنتظرة. سينحي أقربائي وأصدقائي، في تلك الطامة، باللائمة عليّ لأنني لم أغير مسكني، بالرغم من كل تلك الأهوال. فأتذكر عندئذٍ، فوراً، ما كان من إنذار إبن لادن، رأس الإرهاب، لنا نحن المقيمين في quot; بلاد الكفر quot; بمغادرتها والعودة إلى حمى ديار الإسلام؛ الديار الفردوس، لأهل السلطة وزبانيتها من النهابين الفاسدين؛ الديار الجحيم، لأهل البلد المفتقرين المذلين المهانين.

[email protected]