تتوالى حلقات مسلسل القتل اليومي في العراق. لايكاد يمر يوم دون أن يدلف العشرات من العراقيين للقبور، ضحايا مفخخات الإرهابيين المجرمين، هدايا دول الجوار، من طالبي الحور والنحور. هناك رغم كل ذلك تخبط عراقي داخلي. نزاع وتنازع رهيب بين القوى والفصائل السياسية العراقية على المناصب والموارد. وبين كل هذه الأطلال تبدو أصابع الدول الجارة وأموالها واضحة وهي تتلاعب في مصير العراق عبر وكلاء وسماسرة من الأحزاب والقوى السياسية quot;المناضلةquot; سابقاً، من تلك التي أمسكت بزمام الحكم حالياً مستفيدة ومراهنة على خطاب الحشو والتعبئة الطائفي، والذي نجح حقاً في دفع العراقي للتخندق ضد مواطنه إلى الدرجة التي بات التوجس والخوف والتشنج فيها هو عنوان السياسة العراقية الداخلية.

ظهر ذلك في الأزمة التي إفتعلتها جهات سياسية نشئت من تحالف المتضررين من سقوط نظام صدام ضد حادثة إستبدال العلم الصدامي في كردستان بعلم ثورة 14 تموز 1958. الحملة التي قادّ لوائها كل من جماعة منظرّ الإرهاب صالح المطلق وجبهة علماء المسلمين السنيّة المتحالفة مع التكفيريين القادمين من وراء الحدود لذبح أبناء الشعب العراقي.

وكذلك النقاش الحامي حول موضوعة الفيدرالية في العراق، وبشكل خاص الدعوات المتكررة من قبل زعيم لائحة الأئتلاف العراقية عبدالعزيز الحكيم بتكوين إقليم الجنوب الذي يضم تسعة محافظات ذات أغلبية شيعية. أبناء الوسط المتضررين من سقوط النظام الصدامي، والمتحالفين مع المدة الأصولية التكفيرية/القاعديّة الناهضة في المنطقة الأن، يعارضون هذه الفيدرالية بشدة. هم كذلك يعارضون quot;فيدرالية كردستانquot; وquot;قانون إجتثاث البعثquot; وquot;تغيير العلم الصداميquot;، وأخيراً تجاسر بعضهم وجاهرّ صراحةً بوجوب إطلاق سراح صدام وأعوانه كشرط أولي للبدء بالمصالحة الوطنية!!.

الحالة العراقية الداخلية مضطربة. القوى السياسية في شحن دائم ضد بعضها البعض. حوادث القتل على الهوية التي تقوم بها ميليشيات سنيّة وشيعية نجحت في تهجير عشرات الآلاف من العوائل من مناطقها إلى مناطق quot;العمق الطائفيquot; لكل جماعة مذهبية، في الوسط أو الجنوب. تفخيخ الأسواق المكتظة وتفجير المراقد الدينية وجه قبيح من وجوه الحالة الجديدة في العراق. والحال أن الخلل يكمن في نفس العراقي الفرد، والمرء يستغرب كم هذا الحقد والعنف الذي يبديه الفرد العراقي في وجه جاره/مواطنه الذي عاشّ معه على أرض واحدة وسماء واحدة كل هذه الحقب. ذلك الحقد الذي يدفع البعض لتوزيع حلويات مسمومة على أطفال أبرياء في حواري كربلاء بغية قتلهم؟.

ثمّة نزعة عنف رهيبة تحرك العراقي وتدفعه للإنتقام من قريبه، وتذكي هذه النزعة جهات خارجية تكمن مصلحتها في تدمير العراق وجعله قاعاً صفصفاً، وتشريد العراقيين والقضاء على quot;منجز التحريرquot; من الموت الصدامي، والذي تمّ على يد دولة غريبة هي الولايات المتحدة الأميركية، التي تقول إنها تحمل مشروع تغييرٍ
إستراتيجي طويل الأمد، بدأت بالعراق أولاً في تطبيقه، وهي تنتظر نجاحه، لكي تكمل بدول أخرى تحيط بالعراق...

تركيا، إيران، وسوريا تتكالب على تخريب الأستقرار في العراق. هي تعتقد إن نجاح quot;الإنموذج العراقيquot; يعني بداية المواجهة الأميركية الفعلية معها. هناك تنسيق دائم بين هذه الدول لمراقبة الوضع العراقي، وإيران، والله الحمد، متغلغلة حتى العظم في العراق، بل وتهدد واشنطن بإستخدام quot;الورقة العراقيةquot; وتأليب حلفائها ضد قواتها في العراق، إذما فكرت في شن هجوم عسكري مباغت يستهدف برنامجها النووي. والنظام السوري بدوره يراهن على quot;عمليات المقاومة ضد المحتل الأميركي| في إلحاق الهزيمة بالمشروع الأميركي التغييري في المنطقة، ناهيك عن الدعم الأستخباراتي للقوى الملثمة التي تفجر وتقتل المدنيين هنا وهناك.

ثمّة كذلك تنسيق بين جميع الأطراف لتطويق وحصار الجانب الكردي، فقبل يومين وقعّت كل من تركيا و إيران على إتفاقية مشتركة بصدد توحيد مواقفهما من قضية كركوك.وقالت وكالة فرات الكردية للأنباء أن كل من تركيا و إيران عقدتا إجتماعين تنسيقيين في مدينتي وان و أورميه في أقليم كردستان الشرقية، لتوحيد مواقفهما إزاء مصير مدينة كركوك الكردستانية. وتابعت الوكالة الكردية أن الأتفاقية نجم عنها إتفاق الدولتين على تنسيق موقف مشترك حول كركوك، كما إتفق الطرفان على وضع خطة عمل مشتركة حول التطورات المرتقبة في المدينة الغنية بالنفط، والتي من المؤمل أن تعود في إستفتاء شعبي لحضن أقليم كردستان نهاية العام القادم. و ينص الإتفاق على تشكيل جبهة مشتركة تضم كل من الجبهة التركمانية وقوات الصدر التابعة للزعيم الشيعي العراقي المتشدد مقتدى الصدرquot;.

دول الجوار العراقي وضعت العراق على مائدتها، وهي تكثف التنسيق فيما بينها لتعجيل موت هذا البلد وفرض التمزيق عليه، لتنقض كل واحدة على شطر منه وتلتهمه. إيران تستخدم حلفائها في بعض القوى والأحزاب الشيعّية النافذة، وتركيا تحشد ربع مليون جندي على الحدود لخنق quot;كردستان المستقلةquot; في لحظة إعلانها، أو حتى ضم كركوك لها، والنظام السوري يستمر في إرسال طرود الموت من البهائم المفخخة، ويستقبل المزيد من الوجوه الكالحة من الذين يشتغلون على تهريب وإمداد جماعات الإرهاب والتفخيخ في الوسط.
وفي كل هذه المعمعة يبدو العراقي وهو مشغول بالجدال العدمي عن العلم الصدامي رمز quot;الشرف والكرامة الوطنيةquot; وبسفسطته الدستورية،التي هي ليست سوى مضيعة للوقت، في ظل كل هذا البحر من الدم المسفوك، وكل هذا الحقد الذي يتجذّر في النفوس، يوماً بعد آخر...

[email protected]