على غير ما عُرِفتَ به من رجحان عقلٍ واتزان، فاجأتنا الأخبار بأنّ مجلس الوزراء قرّر إغلاق فضائية quot;العربيةquot; ببغداد لمدّة شهر لأنها ، في الأكثر تخرّصاً، تشجّع على العنف والطائفيّة. لم تَزِدْ تبريرات الناطق الرسميّ باسم مجلس الوزراء، الأمور إلاّ تعقيداً واكفهراراً. لقد هدّد باتخاذ إجراءات مماثلة، تجاه فضائيات أخرى في الداخل والخارج، إن هي سلكت نفس السلوك. هذا بالضبط نذير الشؤم. لا بدّ من quot;قتله في البرعمquot; كما يقول الإنكليز، قبل أن يفلت من اليد، ويصبح ديدن الأجهزة الرسمية.
لا يبرّر الوضع القائم بالعراق، على تردّيه المؤسف، إلاّ متنفس الديمقراطية. ما الذي يبقى من البلد لو كُمّمت الأفواه بالقوّة والبوليس والشمع الأحمر! مَنْ قال إن الديمقراطية سلام دائم، أو تفاهم دائم أو حتى هدنة دائمة؟ إنها حركة. ولأنها كذلك، فهي دائبة ولها مزالقها ومعاركها.أما صراعاتها فعلامتها الفارقة، الدالّة على عافيتها. لا بدّ أن نحتاط لها، ونرعاها، كما نرعى الجسم حتى لو كان في أعلى درجات السلامة، خشاة مرض غير متوقّع. مهما دار الأمر، ما من إعلامي متمرّس ويتابع الفضائيات العربية والأجنبية ويعتقد أنّ quot;العربيةquot;، لا غيرها، تثير العنف والطائفية عن عمد.
quot;العربيةquot; في نظر معظم الإعلاميين المتخصّصين مؤسسة مهنية عالية الاحتراف. استطاعت بمدّة قصيرة أن تتفوّق بمهنيّتها وموضوعيّتها على جلّ الفضائيات العربية، ولا سيّما تلك الفضائية الفالتة الأشداق: quot;الجزيرةquot;.(هل يُعقَل أن أحد مستشاريها المقربين لم يسمع بالأنفال؟)
على أية حال تشعر مع مذيعي quot;العربيةquot; سواء في قراءة الأخبار، أو في التقارير، أو المقابلات، أنّك أمام محترفين يحترمون المشاهد، مهما كانت منزلته، وهي بهذا لا تختلف عن أيّ تلفزيون أجنبي.
بالمقابل، فإنّ طاقم الجزيرة منبريّ استعلائي. المذيع، لا فضّ فوه، يتفضّل عليك تفضّلاً، لأنّك دون سنّ الرشد، في نظرهم الكابي.تتركّز طامّة الجزيرة في برامجها الحواريّة المعاكسة. يبدأ مقدّم البرنامج برشاش مفزع من الأسئلة الاستنكارية ثمّ تبدأ المحاكمة. برامج quot;الجزيرةquot; محاكمات غير أصولية وقصف ومداهمات. وهي في أحسن أحوالها فقفقة لا تجذب إليها إلاّ فقراء العقول.
فضائية quot;العربيةquot; بهذا العمر القصير، وضعت معايير قويمة في فنّ إلقاء الأخبار، وفي إدارة الحوارات السياسة الهادئة الأعصاب. يكفي quot;العربيةquot;فخراًً أنها تضمّ ثروة إعلامية عالية متمثلة بمنتهى الرمحي وغسان الخطيب وغيرهما.

عزيزي الدكتور المالكي
من أجل الديمقراطية إسحب هذا القرار على جناح السرعة حتى لو اعتقدت أنك على صواب، ولست علىصواب في هذه الحالة. قرارك سابقة. لن تجني من المنع إلاّ الضرر الآن وفي المستقبل. وإلاّ سيتعلّم طاقمك بمرور الأيام أنّ أوّل العلاج لا آخره، الكيّ.
الدكتاتورية الفردية لا تولد مع الإنسان دفعة واحدة، كما لا يخفى، ولكنّها بذرة في كلّ منا، تنمو إنْ وجدتْ بيئة ملائمة، إلى أن تبلغ درجة يعتقد معها الشخص في البداية أنّه على صواب دائماً، ثمّ سرعان ما يتطوّر هذا الشعورإلى ما يشبه الداء بأنّ كلّ رأي آخر إنما هو خطأ.
لنتذكّرْ كيف تسرطنت شخصية فولاذ في مسرحيّة quot;هل كان لإيفان إيفانوفيتش وجود؟، لنتذكّر كيف أيقن كلوديوس بإلوهيّته في مسرحية quot;أنا كلوديوسquot;. إنها طبيعة بشرية تظهر حتى في أكثر البلدان المعاصرة ديمقراطية.
هل ننسى كيف بدأت مسز ثاتشر ديمقراطية وكيف أودى بحياتها السياسية صممها عن سماع الآخرين.