من شوارع عادل كمال الخلفية

quot; حبك نار.. مش عايز اطفيها quot;

دخل أحدهم المستشفى لإجراء عملية، فكان زواره من الاصدقاء والمعارف يتناوبون على زيارته، وهم يحملون له نوعا غريبا من الهدايا، التي لم تعتد عليها المستشفيات من قبل، إذ كان كل من يقوم بزيارته يدخل غرفته حاملا quot;جركان بانزينquot; تعبيرا عن المحبة، وعن التضامن معه في ازمته المرضية. النكتة هذه أطلقها الشارع العراقي، على هامش أزمة الوقود، والحلول والمعالجات التي تلتها، وهي تعكس - مع باقي التعليقات التي سنوردها - المزاج الظريف لشعب الشاكو ماكو: الشعب المترع بالجد والهزل في آن واحد، والمشهور بمعالاجاته للأزمات بفن السخرية، وإشعال فتيل الضحكة، رغما عن الدخان الكثيف للحزن الذي يغسل روحه صباح مساء، جرّاء مجانية الموت، وتحول هذا الأخير الى مواطن عراقي.. أصيل. هناك نكات اخرى ستاتيكم، لكن بعد أن نقرأ الطقس العام في الدرابين المنسية والشوارع الخلفية، فقد اعلنت وزارة التجارة عن نيتها في توزيع الحصة التموينية، لمدة شهرين متتاليين دفعة واحدة، حسب أحد الفضائيات، لأن شهر رمضان على الأبواب، ولحد ساعة كتابة هذا التقرير فإن أحدا ما لايعلم متى وكيف، كما أن مقدمات الشتاء بدأت باغنية فيروزية: quot; ورقو الاصفر شهر ايلول تحت الشبابيك quot; في بلاد الله الواسعة، أما في جنة المنسيات فهي لاتختلف عن مقدمات أي شتاء سابق، حيث الحصة التموينية، التي استلمناها هذه الايام لاتحتوي الا على السكر، العدس، زيت الطبخ، ومسحوق الغسيل، الذي نحتاجه كثيرا لغسل السماء من سخام النيران التي تشتعل في انابيب النفط، بين مرة ومرة، في أغني مدينة نفطية، تتنافس على امتلاكها الامم.
في الحقيقة نحن لانعرف حصة أي شهر استلمنا هذا الشهر، وهذا ليس لعبا على اللغة أو فيها، وماحصل في العام الماضي يحصل الآن، ولكن بدرجة أسوء، والعتب مرفوع طبعا، لأن المطلوب منا أن لانقول هذا الكلام، لئلا يحسبنا البعض من الطابور الخامس، الذي يعادي مسيرة فيدرالية quot; الملحان quot; في الجنوب، الذي يبعث من خلالها السيد عبد العزيز الحكيم عن زعامة يفتقد لمقوماتها، خاصة ونحن شعب لم يعد يطيق زعامة هذا أو ذاك، بعد سلسلة طويلة من الزعامات السياسية والقومية التي لم تترك في ارواحنا سوى ندوبا وجروحا لم نتعافى منها بعد، ويكفينا مايحصل لنا من تفريق فئوي ومناطقي، جعل منا مواطنين عراقيين على ثلاث درجات: الدرجة الذهبية، وهي الدرجة التي تشمل مواطنين يتقاضون رواتبهم بالعملة الصعبة: وزراء، مستشارين، حمايات، وبطانات تلتهم الخدمات في المنطقة الخضراء وفي مناطق اخرى من البلاد - لأول مرة اشعر بأني جبان، فلا استطيع تسميتها - اما الدرجة الثانية، فهي الدرجة الفضية التي تنعم بالعمل والعيش الرغيد في التنقل بين يدي المحتل وبين الايفادات وحل المعجزات التي تنتهي بالاختلاس والفساد، مدعومة بقوى سياسية لاهم لها سوى تحقيق الربح السريع من جمهور ساذج، من خلال بيانات لاتقل سذاجة عن جمهورها: اما الفئة الثالثة، فهي الفئة البرونزية التي تشمل الخائبات واولادهن وأزواجهن وأيتامهن، وهذه الفئة هي الحطب الذي لايرث من اشتعاله شيئا سوى الرماد.
اقول: المطلوب منا ان لانقول هذا الكلام، وأن نصفق مع المهرجين ليوتوبيا الطائفية أو القومية، التي ستقودنا الى الخراب الحقيقي، لأن ترويجها يجري في الزمن الخطأ، ومن قبل العقل الخطأ، الذي يتعمد عملية احراق المراحل، لنخرج من نفق جاهزين للدخول الى نفق آخر، وهكذا الى نهاية المشوار، لكننا.. خلاص: اخترنا ما اخترناه اقتداءا بجدنا غاليلو: quot; ولكنها تدور quot;، كما أننا لانعرف حصة اي شهر استلمنا هذا الشهر، وتعميقا للأزمة فإن معظم وكلاء المواد الغذائية لايكترثون لذلك: إنهم يقتطعون من البطاقة التموينية - غير الخاضعة للتزوير طبعا، الا في الانتخابات !! - الشريط الخاص بكل شهر، سواءا استلم المواطن حصته التموينية كاملة أو لم يستلمها، لكننا نتذكر شيئا هاما هو أننا لم نستلم حصتنا من مادة الشاي، منذ بداية القرن الاميركي بزعامة السفير زلماي خليل زادة: عرّاب صفقة الاحتلال في الزمن الكردستاني القديم، عندما كنا - الى حد ما - نسيجا واحدا، يختلف في الرؤى، ويتفق في الاهداف: اقرأوا الفاتحة على تلك الايام.. أو لاتقرأوها، فالأمر لايختلف كثيرا، خاصة ونحن الشعب الاكثر قراءة لسورة الفاتحة على هذه المعمورة، من بين كل الشعوب، بفضل الاخطاء الاميركية الفاضلة.
يعلـّق جارنا quot; أبو أحمد quot; على انحسار توزيع مادة الشاي غير المطبوخ بطرافة، فنضحك من دعابته وحسه الساخر الفكه: quot; أتعرفون ياجماعة: اعتقد أن الحكومة وجدت quot; دوخة quot; راس الناس من قلة تناول الشاي، أفضل حل لضمان عدم الالتفات الى quot; دوخة quot; المشاكل التي تحيط بنا،فنحن أكثر شعوب العالم ادمانا على هذا المشروب، وأقسم لكم أني، في كل رمضان، لا أشعر بعطش أو جوع، قدر ما أشعر بوجع الرأس من تأثير عدم شرب الشاي quot; يسكت لحظة، ثم يدلي بتصريحه الخطير: quot; اسمعوا.. إذا دخلت الجنة ما أريد من الحوريات بس قوري جاي quot; لكن زوجته، الجالسة غير بعيد عنا، تعترض: quot; لاعيني.. اعتقد بالجنة راح يجيبلوك ناركـَيله لأن انته ما تصوم بس عن الجكاير quot;،
كان سعر استكان الشاي، في أفضل أنواعه، هو 150 دينار، في المقاهي، أما في الشوارع والازقة، حيث البسطات السريعة، فكان سعره من 50 الى 100دينار، لكن أزمة البطاقة التموينية الحالية رفعت من سعر الاستكان الى 250 - 350 في المقاهي، فيما صار صار سعره عند أهل البسطات 250 دينار. الأمر الذي جعل أصحابنا المثقفين، ممن أدمنوا على المراهنة في لعبة الدومينو، أن يستبدلوا رهانهم بقناني البيبسي كولا، فهي أرخص من الشاي، إذ أن سعرها لبث محافظا على هيبته الذي يبلغ 200- 250 دينار، رغما عن كل الظروف. الأمر مضحك طبعا: وكأننا ننتظر أن تحصل شحة في المشروبات الغازية أيضا، مادام الماء، في بلاد النهرين، قد أصبح شحيحا.
فيما مضى كانت المطاعم المنتشرة هنا وهناك تتحمل سعر شاي الزبون، فهو بمثابة مكافأة أو هدية من المطعم، أما حاليا فيقتطع سعره مع الحساب الذي يدفعه الزبون. الأمر بسيط: كان الناس يبيعون قسما فائضا من حصتهم التموينية من الشاي الذي يتكدس، شهرا بعد شهر، في الاسواق الشعبية وعلى الارصفة، لوفرة حصة الفرد الواحد من الشاي، أما حاليا فكما اسلفت: لا شاي في الحصة التموينية، ولذلك فإن الشاي المتوفر في الاسواق هو المستورد من قبل التجـار، حيث يتراوح سعر الكيلو الواحد منه بين 2500 - 5000 دينار حسب النوع والجودة، فيما كان سعر كيلو شاي الحصة التموينية في الاسواق يباع بـ 1000 - 1500 دينار. يقولون: إن الأزمة ناجمة عن كون الجهة المخولة لاستيراد شاي الحصة التموينية قد استوردت شايا لايتطابق مع المواصفات، وهناك تحقيق في الموضوع، يعتقد أصحابنا، في الشوارع الخلفية، أنه لن ينتهي - التحقيق - لأن اللجنة المكلفة بالتحقيق لابد وأن تشرب الشاي، وحيث لاشاي، فإن التحقيق متعثر بسبب quot; دوخة quot; الراس التي تنجم عن الانقطاع عن تعاطيه.
واضح طبعا: quot; إن كل افراط يؤدي الى خطيئة - الكتاب المقدس quot; لكن ماذا نفعل، بل ماذا نقول، فإذا كانت شحة مشروب الشاي جعلت لجنة التحقيق في استيراد الشاي - لست العب باللغة - عاجزة عن حل ازمة الشاي، فما بالك بأزمة العلم العراقي؟ هل هناك عمى ألوان يجعلنا نقرأ بعض الفقرات في الدستور، ولانقرأ اخرى، أم هي دوخة الراس من قلة الشاي؟
هههههه.. لنضحك: إنني امزح معكم طبعا: وين ماتصير خل تصير: quot; الدنيا خربانه quot; على رأي سائق تاكسي، استأجرته وأنا أحمل معي الحصة التموينية لهذا الشهر، وحين سألته عن الاجرة - طبعا بعد وصولي الى البيت - أعطاني رقما خياليا، يفوق سعر مواد البطاقة التي استلمتها، حتى لو بعتها بالسوق السوداء، فاقترحت عليه اقتراحا عبقريا، لم يخطر في باله اطلاقا: quot; زين ليش ما تاخذ الحصة كلها، وتخلـّصني؟ quot;، فما كان منه الا أن غرق في الضحك: quot; عمي.. مو اكـَلك هيه خربانه quot; ثم أدار محرك سيارته، واختفى بسرعة، تاركا اغراضي مكانها في باب البيت، دون أن يأخذ فلسا واحدا - على فكرة: مـَن صاحب الحظ السعيد الذي يملك فلسا أصفر، من أيام زمان؟
وعلى ذكر أزمة العلم العراقي، لقد قرر بعض اصحابنا، في الشوارع الخلفية، رفع علم جمهورية الواق واق، لأنها الدولة الوحيدة التي ليست لها أجندة ومخابرات وبلاوي في جمهورية الشكو ماكو، خاصة بعد أن اكتشفنا أن الاجندة الاسرائيلية تبحث لها عن وكلاء عراقيين، في كافة انحاء البلاد، من أجل الترويج لبضاعة قمرها الاصطناعي quot; آموس quot; الذي يقال انه يمنح خدمة عالية الكفاءة وزهيدة السعر بالنسبة لمقاهي الانترنيت..
اعتبروا ماجاء اعلاه شقشقة، ولنعد الى أصل الازمة: أزمة الوقود و ارتفاع الاسعار، ليس من أجل الحرفية والمهنية، التي تطالبني بها ادارة ايلاف - فأنا غير مطيع، كما تعرفون - لكن من أجل الضحك أيضا: هناك شائعات عن مشادة حدثت بين عشيرة البانزين وعشيرة النفط الابيض، بعد أن تفاخرت عشيرة البانزين بأن مهر بناتها اغلى من مهر بنات النفط، ولحد هذه المفاخرة كان الامر هينا، لكن عشيرة البانزين تمادت بالمفاخرة، حين اعلنت، أمام عشائر المشتقات النفطية، بأنها اكثر شرفا من عشيرة النفط الابيض، كونها تقطع الشوارع بسيارات محمية من قبل الجيش والشرطة ومروحيات الاميركان، فيما النفط الابيض يمر محمولا بعربات تجرها الحمير: هذا التصريح الاخير اثار حفيظة دائرة المنتوجات النفطية، فقررت نقل النفط الابيض بسيارات حوضية، ومن أجل رد الاعتبار لهذا الاخير، تركت سعر اللتر الواحد منه لشطارة شعيط ومعيط، فسعر الدولة الرسمي يجعل ثمن البرميل الواحد 15 ألف دينار، فيما يباع هنا وهناك بسعر يتراوح بين 25- 30 الف دينار، أما في محطات تعبئة الوقود فإن هناك تلاعبا quot; خفيفا quot; بالاسعار، لكن المشكلة الحقيقية التي تواجه مستلمي النفط من هناك هي نقل براميلهم، حيث أن أبسط سعر تطلبه سيارات الحمل لنقل هذا المخلوق العجيب هي 15 الف دينار، إذا كانت المسافة اقل من 10كيلومترات، وهذا مما يؤكد أن شرف البنزين اعلى من شرف النفط، خاصة لأنه مستورد من quot; داء الشقيقة quot; - العفو: من الجارة الصديقة: ايران..
هناك أيضا أخبار عن لجنة ستبحث في مسألة رفع رواتب الموظفين، ومن الضروري أن نصدق لانصدق، لأن الأمر متساو بالنسبة لنا، فكل زيادة في الراتب تتبعها - وأحيانا تسبقها - زيادة في الاسعار، لكن مايقهر القلب هو أن لايستلم بعض المتقاعدين رواتبهم - فوق هذا كله - في موعده، مع أنهم لايستلمون الراتب الا مرة واحدة كل شهرين، لأن بعض المصارف مفلسة وليس لها رصيد، كما حصل في مصرف أطلس الشهر الماضي، إضافة الى وجع قلب غير منظور بالنسبة الى هيئة النزاهة، حيث ان بعض الدوائر تقوم باستقطاع مبلغ رمزي من كل موظف، هو مجموع تكاليف نقل رواتبهم من بغداد الى كركوك، والأمر هيـّن ياجماعة لو أن الرواتب توزع بالعدالة على الموظفين، فمنذ العصر الحجري، الذي كان فيه يحكم بول بريمر ولحد الان، يتقاضى الموظف المتزوج والموظف غير المتزوج نفس الراتب: طبعا هذا تأكيد على أن السيادة كاملة، وهي بيد العراقيين، لكن المشكلة كما يعتقد بعض الخبثاء هي أن مجلس الوزراء لديه حساسية من صرف مخصصات المهنة لبعض فئات الموظفين، فهو يوافق على صرف مخصصات بدل العدوى للاطباء البشريين مثلا، ولايصرف نفس المخصصات لباقي القطاعات الصحية، ربما لأن هذا القطاع الهام من الموظفين يتلامس بشكل مباشر مع الامراض والاوبئة المعدية، بانعدام الكادر الوسطي، فيما ينعم الاطباء البشريون بمحدودية الاحتكاك هذا، لتوفر كادر وسطي جيد: الأزمة - أزمة الكادر الوسطي - في القطاع البيطري خاصة، تؤثر بشكل ملفت للنظر في الخدمات التي يقدمها هذا القطاع الخدمي لمربي الحيوانات، خصوصا في المناطق النائية، حيث ينعدم الأمان كليا، وتتحول الخدمات الى شبه بدائية. وبالرغم من أن ازمة صرف المخصصات وتعديل سلم رواتب الموظفين أزمة عامة، الا أن ذلك يعني أن هناك عدالة في الظلم من قبل الاسلاميين، وديموقراطية حتى في الغبن من قبل العلمانيين، تماما كما كانت هناك ديموقراطية في الموت في عصر صدام، على رأي الباحث حسن العلوي.
اريد في هذه الفقرة أن اتوسع، عن إذنكم، في معاينة مناطق منسية، لاتهم الفضائيات، وهي الثروة الحيوانية لبلاد السواد، التي في سبيلها الى التدهور، نتيجة الاهتمام بالثروة النفطية، على حساب ثروات كثيرة تكتنفها هذه الارض الذهبية، كالثروة الزراعية والمعدنية، والحيوانية طبعا، ولأن الموضوع طويل، أطول من قائمة الاحتياجات للنهوض بهذه الثروة، سأتوقف عند معاناة مربي الحيوانات، السارحين في برية الله المفتوحة، متنقلين من مرعى خصب الى ارض جرداء، حسب فصول السنة، دون أن يلتفت اليهم أحد. ساذكـّر القراء، من متابعي هذه التقارير، عما كتبته العام حول مرض انلفونزا الطيور، وحول الضجة الاعلامية غير المسؤولة التي رافقته، والتي كانت تهدف الى تصوير العراق كمستنقع لإنتاج الموت والرعب، فيما كل البحوث العلمية تقول ان مرض انلفونزا الطيور سيعم الكرة الارضية، رغم كل الاجراءات الوقائية، إن استمر ايقاع انتقاله على هذه الشاكلة: من تداعيات أزمة انفلونزا الطيور كان أن حصلت مذابح لمعظم الطيور الداجنة، وفي حقول الدواجن، حتى أن سعر الطير المذبوح من الـ quot; علي شيش quot; قد بلغ ثمنه، في تلك الايام، في سوق القلعة، 3 الاف دينار، فيما كان سعر الفخذ الواحد منه، قبل الأزمة، هو 3 الاف دينار، وكان من تداعيات ايقاف الاستيراد بالنسبة للحوم البيضاء، أن ارتفع سعر اللحوم الحمراء - أي: البقر، الغنم، الماعز.. الخ - كما أدى ذلك الى ارتفاع اسعار لحوم الاسماك: لقد كان كل هذا الارتفاع في اسعار اللحوم يجري تحت انظار واسماع الحكومة، التي لم تكلف نفسها حتى في مراقبة السوق، بل تركت كاهله يقع على دخل المواطن المسكين الذي كان لازال لاحول له ولاقوة، بل أن الحكومة، ومعظم التيارات السياسية المتحالفة معها، كانت مشغولة بتصفية حساباتها، من أجل الحصول على مقاعد وزارية في الدولة، وكلكم تتذكرون الازمة التي مرت بها البلاد في مرحلة مابعد الانتخابات الاخيرة، التي انتهت بصعود السيد المالكي رئيسا للوزراء، والذي كان صعوده بمثابة النهاية لأزمة انفلونزا الطيور، التي مرت على البلاد، ولم تترك ضحايا توازي الضجة الاعلامية التي اثيرت حولها، لكن لأننا مشدودو الاعصاب نحو رعب الانفجارات وحصاد الموت البشري، فلم نلتفت الى ماجرى وقتذاك، حيث ارتفع سعر بيض المائدة المفرد من 100 دينار - قبل ازمة الانفلونزا - الى 250 دينار في الفترة التي تلتها.. وهكذا.

كان من المتوقع، في ظل زيادة اسعار اللحوم الحمراء، أن ينتعش الحال في قطاع مربي الحيوانات، لكن ذلك لم يحصل اطلاقا، نتيجة للزيادة المفاجئة التي قررتها الحكومة على اسعار المنتوجات النفطية، ومنها البنزين وزيت الغاز، اللذان يشكلان عصب الحياة بالنسبة لإولئك المنسيين في الوديان والغدران البعيدة، خاصة في نقل مواشيهم المريضة، أو في مراجعاتهم للدوائر الصحية لتلقي العلاجات واللقاحات الدورية، سيما وان الدوائر البيطرية لاتتوفر فيها خدمات النقل من والى القرى البعيدة، بل هي لا تخصص سيارات لنقل منتسبيها، وكان من نتيجة ذلك أن يستغل تجار المواشي الحال، فيتولون شراء الماشية من قرى المربين بسعر زهيد، نتيجة اقتطاع تكاليف النقل من المربين، المجبرين على القبول بالامر الواقع، في ظل ارتفاع اسعار العلف والشعير والادوية البيطرية التي يحتاجونها.
إذن فقد أمسك تجار الماشية بناصية الامور، وفرضوا سيطرتهم على سوق المنتوجات الحيوانية، التي منها اللحوم، وهكذا ارتفع سعر كيلو لحم الغنم من 3 الاف دينار الى 5 الاف دينار، فيما اصبح سعر كيلو لحم البقر بدون عظم 9 الاف دينار بعد ان كان 5 الاف دينار، أما بالنسبة الى لحوم الاسماك فإن سعر كيلو السمك العراقي الخشن يتراوح بين 5 - 7 الاف دينار، فيما يتراوح سعر الكيلو المستورد منه بين 3 - 4 الاف دينار، وهذه الاسعار هي السائدة الان في السوق، كمقدمات لرمضان كريم، مما يرجح صحة رأي أصحابنا، من هامشيي المشهد السياسي والثقافي، في الشوارع الخلفية، في أن أزمة انفلونزا الطيور كانت اشبه بالمفتعلة، وقد ضخمها الاعلام الحكومي، للفت نظر المواطن البسيط عن الازمة الحقيقية المركبة التي تمر بها البلاد، حيث الفرقاء في داخل الحكومة قرروا الاطاحة ببعضهم البعض من اجل مكاسب طائفية وقومية ضيقة، ستقود البلاد الى نفق ضيق، يحاول مشروع المصالحة الخروج منه بعصا سحرية، لأنه - مشروع المصالحة - يعتني بالفئات السياسية اكثر مما يعتني بحاجات اساسية لشعب مدمى، مقهور، ومع ذلك يقاوم كل البؤس المحيط بروح مفعمة بالأمل، اعتمادا على وجدانه الشعبي، لا على الخطب والشعارات الرنانة من هذا أو ذاك.
سينعتني المتضررون من هذا الكلام بشتى الصفات، لكن المبلّـل لايخاف المطر، ولأن الحقيقة جارحة، بل أن جرحها أشد ألما من أن يؤلم، ولذلك صارت ضحكاتنا دموعا، فجارتنا quot; ام جليل quot; عندما سمعت وكيل توزيع المواد الغذائية يقول: quot; ربما توزع الحكومة الدجاج في شهر رمضان، مع الحصة التموينية quot; أجابته ساخرة: quot; هل سيوزعونه مطبوخا أم نيئا: من فضلك قل للحكومة: اننا نريده مطبوخا، فليس في بيتنا وقود للطبخ quot;.
التعليق هذا، على بلاغته، لايعني أن وزارة الدكتور الشهرستاني غير جادة في حل الازمة، فالرجل يبذل حهدا واضحا في اقناع حكومة المالكي لتخصيص اكبر قدر من التخصيصات المالية لاستيراد الوقود، لكن المشكلة الحقيقية التي يبدو لي أن الدكتور الشهرستاني يعاني منها، لاتتلخص بالصهاريج النفطية والغازية المعدة للتهريب او للتخزين للبيع في السوق السوداء، تلك التي أصبح امرها معروفا للقاصي والداني، وانما المشكلة الحقيقية هي في قطاع كبير من الكادر الوسطي التابع للوزارة، وفي الجهات التي تراقب وتتابع عمل محطات تعبئة الوقود، وفي أجندة الفساد الاداري المتشعبة في الوزارات ذات العلاقة: لاشك أن موقفنا من الاحتلال واضح، كما مر في جميع التقارير السابقة، لكن الحق يجب ان يقال، فعمل محطات تعبئة الوقود لايسير بانتظام الا في حالة حظور القوات الاميركية بآلياتها العسكرية، عندئذ يتنفس الناس الصعداء، فطابور السيارات يأخذ مساره في الدخول الى المحطات والتزود بالوقود بانسيابية، ومن دون تلاعب بالدور، وهذه نقطة تحسب لصالح الاميركان، بالرغم من أن هذه الانسيابية تتوفر الى حد ما بوجود بعض الضباط الشرفاء من العراقيين أيضا، مع أو عدم وجود الاميركان، في بعض الاحيان، لكن سرعان ما يُنقل الضابط الفلاني النزيه من عمله في محطة تعبئة وقود ما، ليحل محله آخر، دون معرفة الاسباب، فتعود حليمة الى عادتها القديمة، ودليلنا على ذلك هو ظهور جركانات بنزين السوق السوداء على الارصفة، بعد مغادرة الاميركان للمكان، والظريف في الامر أن عوائل بكاملها بدأت تعيش على هذه الظاهرة، خاصة تلك التي تقع في مدخل المدينة، حيث يقف الصبية وبعض الرجال، على جانبي الشارع ملـوّحين للسيارات المارة بإشارت متفاهم عليها بين الطرفين: لن تجدهم - وهنا الذروة في هذه الظرفة - على جانبي الشارع إن مرّ رتل عسكري اميركي، إذ إن هناك - كما يبدو - من يستمكن لهم الطريق ويتصل بهم.

يبلغ الان سعر جركان البنزين ( 20لتر ) 11 الف دينار عند هؤلاء الباعة، فيما كان سعر الجركان قبل اجراءات الاستيراد الاخيرة هو 25 - 30 الف دينار، وهذا يعني ان هناك بعض النتائج الايجابية لخطوات الدكتور الشهرستاني، وأمل أصحابنا من سواق الإجرة في أن ينخفض سعر جركان البنزين، في السوق السوداء طبعا، الى 10 الاف دينار، كي يستغنوا عن الوقوف مستجدين البنزين من محطات تعبئة الوقود الرسمية، خاصة في فصل الشتاء.

دعونا نضحك بعيدا عن هذا الغم، فقد شوهد جركان بنزين يغازل اسطوانة غاز فارغة، مغنيا quot; حبك نار quot;، وكان ذلك امرا مثيرا للاستغراب من باقي افراد العصابة، خاصة وقد قرر جركان البنزين هذا خطبة الاسطوانة والزواج منها، فما كان من جميع أصحابه الا أن استفسروا عن السبب في اختياره لإسطوانة غاز فارغة كزوجة، فأجاب موضحا الالتباس: quot; ياجماعة اسطوانة الغاز الفارغة اكثر شرفا واصالة لأنها لاتزال محافظة على عذريتها، فاسطوانة الغاز الممتلئة.. لابد وأن تكون حامل quot;

على ذكر اسطوانات الغاز، فإن سعر الاسطوانة الواحدة الفارغة يتراوح بين 40 - 50 الف دينار، أي أن من يروم أن يزيد من عدد الاسطوانات في مطبخه باضافة واحدة جديدة عليه مراجعة سوق الهرج لشرائها من هناك بهذا السعر الخيالي. أتذكر انني حين عدت الى بغداد، بعد سقوط صدام، اشتريت اسطوانة فارغة من سوق الهرج، بسعر 18 الف دينار، هي الاسطوانة الوحيدة التي املكها لحد الان، بعد أن اخذ سعر الاسطوانات يزداد يوما بعد اخر، مع تزايد الطلب عليها من قبل الاخوة المهاجرين الذين عادوا الى البلد في فترات تالية. أما سعر ملء اسطوانة الغاز الفارغة من محطات التعبئة الرسمية فهو غير ثابت، يتغير حسب الطقس المحلي، علما بأن حصة المواطن الشهرية كما هو مقرر رسميا كان اربع اسطوانات شهريا، قبل الازمة، لكن الناس لحد الان تفضل السوق السوداء، يضطرها الى ذلك التكاليف المادية الباهظة التي يتكبدها المواطن في سبيل نقل اسطوانة الغاز بعد ملئها الى بيته. يبلغ سعر ملء اسطوانة فارغة في السوق السوداء حوالي 12 - 15 الف دينار بدون قسيمة، وتباع هذه الاسطوانات بعد استبدالها بالفارغة علنا على الارصفة، وهناك بعض الحالات النادرة جدا التي تمر بها عربات تجرها الحمير في الازقة تبيع الاسطوانة بسعر يتراوح بين 3 -5 الف دينار مع القسيمة. طبعا كل ذلك لاينفي وجود بعض المحاولات الخجولة في تزويد المواطنين بالغاز باستخدام سيارات تابعة لوزارة النفط، تطل كالهلال بين مرة ومرة، فيتحول المشهد ساعتها الى مايشبه العيد، كما أن هناك تجربة في بعض المناطق تتلخص بتولي وكيل المواد بتوزيع الغاز على المواطنين المسجلين عنده، ولااعرف تفاصيل وافية عن هذا الموضوع، لكنها تجربة ناجحة لو استمرت، على ان يتوفر للوكيل مكانا لخزن هذه الاسطوانات.. وهو أمر مستبعد.
لايفوتني، وقد أطلت عليكم هذه المرة، أن أشير الى ازمة النقل عموما، التي تأخذ اشكالا متعددة، لكن - وكما هي العادة - اريد ان اشير الى بعض تداعياتها غير المنظورة، وتتلخص في كون الناس اصبحت تفضل الاسواق المحلية، الطارئة في مناطق سكناها، على الاسواق الكبيرة والمشهورة، المعروفة بتخصصها ببيع الفواكه والخضر وبرخص اسعارها، تجنبا لدفع مبالغ باهظة اضافية على مشترياتها للنقل، فمثلا إذا كان سعر الكيلو الواحد من الرقي في العلوة الشعبية يبلغ 75 دينار، فإنه يتراوح في تلك الاسواق الطارئة، القريبة والمجاورة لمناطق سكن الناس، بين 200- 250 دينار، وهكذا بالنسبة الى سعر كيلو البطيخ الذي يباع هناك بسعر 200 دينار للكيلو الواحد فيما يباع في تلك البسطات القريبة بـ 500 دينار، وهكذا أيضا بالنسبة لباقي الفواكه والخضر، فالعنب مثلا في سوق رأس الجسر يبلغ سعر الكيلو الواحد منه 500 دينار، فيما يبيعه جارنا بـ 1000 دينار، والمثل الاخير اضربه بسعر الطماطم حيث يبلغ سعر 3 كيلو منها الف دينار هناك، فيما يباع الكيلو الواحد منه بـ 750 دينار عند الجيران.
حسنا، فلنعد الى المرح مرة اخرى، إذ يقال إن الانسة شمعة رفضت الزواج من مولد كهرباء، لأنه عميل ويفتقد الى المسؤولية وحس المواطنة، ففضـّلت القبول بالسيد فانوس شريكا لها في الحياة الى الابد، لأنه استعاد وجاهته واعتباره، وأثبت وطنيته في عصر العملاء، ولأن السيد فانوس قدم لها مهرا غاليا جدا هو quot; لاله quot; تشع ليل نهار في بيت الزوجية.
هنا أيضا نتوقف عند شيء غير منظور بالنسبة الى مشكلة الكهرباء، منوها الى انني اعتبر كركوك مدينة الاسلاك الكهربائية - الوايرات - فهي اكثر مدينة رأيت فيها هذا العدد اللامتناهي من الاسلاك المتشابكة مع بعضها البعض، والتي تنقسم الى الاسلاك الحكومية والاسلاك الاهلية، في تشابك عجيب، لايمكنك فيه أن تفصل بين اسلاك المولدات التي تزود الناس بالكهرباء، في حالات وساعات معينة ينقطع فيها التيار الكهربائي الرسمي، وبين الاسلاك الحكومية.
تجارة بيع الاسلاك الكهربائية في كركوك رائجة جدا، لكثرة المولدات، ومعها ظاهرة ظريفة هي ظاهرة السطو على تلك الاسلاك، خاصة بين العوائل التي تحصل بينها مشاكل أو مشادات عابرة: إن على المشترك في المولدات الكهربائية الاهلية أن يتفقد اسلاكه الخارجة من المولدة بين فترة واخرى، خاصة في تلك الساعة التي من المفروض فيها ان يكون بيته مضاءا بهذا النور السحري، فلا يجده..
قبل شهرين القت الشرطة على لص ظريف متخصص بسرقة المولدات الكهربائية الاهلية الصغيرة، التي تعمل على البنزين، في حي الرشيد، وهي حادثة تكشف عن مدى شيوع استخدام هذه الالة، وعن اهميتها في حياة المواطن، ربما من اجل ذلك خصصت وزارة النفط - مشكورة - حصة من البانزين لأصحاب تلك المولدات البسيطة، لكن المشكلة الحقيقية التي تواجههم هي أن التزود بالبنزين لايتم الا في محطات التعبئة، حيث تعود حليمة الى لعبتها القديمة.
أما بالنسبة للمولدات الاهلية الكبيرة، التي تسد حاجة المواطن عوضا عن التيار الكهربائي، فيبلغ سعر الامبير الواحد منها 5 الاف دينار، وهي توزع الكهرباء في اوقات محدودة ولساعات محدودة جدا، ليست لها علاقة بتوقيتات ضخ او قطع التيار الكهربائي الرسمي. وطبعا يعتمد اشتراك المواطن في تلك المولدات على قدرته الشرائية، علما أن ابسط اشتراك هو امبيرين فقط، وهي لاتكفي - خصوصا في فصل الصيف - لتشغيل مكيف الهواء او الثلاجة، الامر الذي يضطر المواطن الى شراء الثلج من باعة متجولين هنا وهناك.
يعلق اصحابنا بخفة على نوعين من التيار الكهربائي، أولهما: التيار الوطني، وهو التيار الكهربائي الحكومي، وبين التيار الكهربائي الذي يطلقون عليه: التيار العميل، وهو التيار الذي تضخه المولدات الاهلية... هههه: شعب يضحك من كل شيء: تيار كهربائي وطني وآخر عميل، فإذا ماحصل وان انقطع التياران معا، وحلّت الكابة بانتظار الفرج، ثم اشتعل النور فجأة سمعت َ quot; ام رويدا quot; تسأل: quot; عادل هذا خط وطني لو عميل؟ quot; قبل ان تتورط وتشغل الثلاجة فيحصل تجاوز على الامبيرين، وينقطع عنها تيار الكهرباء، إذا كان quot; عميلا quot;..
وزارة النفط أيضا، وقبل وزارة الدكتور الشهرستاني، دعمت المواطن من خلال تزويد اصحاب المولدات الاهلية الكبيرة بحصص من زيت الغاز الذي تعمل بواسطته تلك المولدات، وهناك حوضيات متخصصة تدور بين محال تلك المولدات لتزويدها بالزيت، بسعر الدولة الرسمي شهريا، واسبوعيا، حسب حاجة تلك المولدات، لكن الجشع لدى بعض اصحاب تلك المولدات يدفعهم الى التحايل على الحكومة وعلى الشعب في آن واحد، واتمنى فعلا من وزارة النفط ان تلتفت الى هذه النكتة، ومعالجتها بحسم وصرامة، فمن المعروف أن لكل مولدة حجم محدد تستوعب بموجبه حاجتها من زيت الغاز للتشغيل، ولانتاج الطاقة الكهربائية اللازمة: هذا الحجم من حاجة المولدة يحددها المنشأ الذي تم استيراد المولدة منه: بكلام اخر ان هناك بطاقة معدنية او ورقية مثبتة على كل مولدة تحدد حاجتها القصوى او الدنيا من زيت الغاز للتشغيل، وهنا يجري التحايل على الحكومة، كما يكشف اصحابنا في الشوارع الخلفية، إذ أن هناك محال متخصصة بـquot; حفر quot; بدن المولدة ببيانات مزيفة تزيد من حاجتها لزيت الغاز لغرض التشغيل، وهذا الفائض من زيت الغاز يتحول، بعد تجهيز صاحب المولدة حسب المواصفات المزيفة هذه، الى السوق السوداء، حيث يتم بيع البرميل الواحد منه بسعر130 الف دينار: ربما من اجل ذلك اطلق الصعاليك على التيار الكهربائي الناتج من تلك المولدات لقب: التيار العميل..
اننا ندرك حجم المعاناة والجهود والمكابدات التي تمر بها وزارة النفط، ولكننا ايضا شعب الشكو ماكو، الذي يعالج أزماته بالضحك والسخرية، من دون شعوب الارض، وهنا أصل الى النكتة الطازجة التي سأختم بها هذا التقرير، فمن بين الاقتراحات التي قدمتها دائرة المنتوجات النفطية، لحل أزمة البنزين، هو اعتماد تزويد السيارات حسب ارقامها: أي يوم للأرقام الزوجية وآخر للارقام الفردية: هكذا إذن استيقظت المرأة على صوت غريب في المنزل، في نفس الوقت تقريبا الذي توقظ فيه زوجها للذهاب الى محطة تعبئة الوقود، لكن لأن الصوت كان غريبا مصحوبا بحركة غريبة، فقد أصابها الذعر والخوف، فأيقظت زوجها الذي يعمل سائق تاكسي:
- ابو فلان.. اكَـعد يمكن اكو ارهابي.
ولأن الرجل كان متعبا من جراء السهر في الليلة الماضية، عند باب محطة تعبئة الوقود، فقد أجابها وهو بين النوم واليقظة:
- وآني ياهو مالتي؟
فصاحت الزوجة بعصبية: ليش انته ما مسؤول عني؟ انته.. مو زوجي؟
فأجابها الرجل، وهو يدفن رأسه بالوسادة:
- لا يابه.. لا.. انتي متوهمه: آني فردي.