شئنا أم أبينا فقد تصدرت واجهة المشهد الداخلي للعالمين العربي والإسلامي، أربعة ألوان رئيسية لا غير. وهي: (سنة، شيعة، عرب، فرس). فقد استطاعت هذه الألوان أن تزيح كل الألوان الأخرى التي كانت تشاركها اللوحة، والتي إن ما زالت تبدو لبعض الأعين، فإنها تبدو شاحبة خجولة، أو متوارية في الظل.

والصراع العربي الفارسي صراع قديم قديم، يضرب جذوره عميقا في تاريخ الشعوب العربية والفارسية، ويعود إلى ما قبل ظهور الإسلام بكثير، وإلى ما قبل تكوين الدولة العربية، بعدة مئات من السنين. فأول حرب شهيرة سجلها التاريخ بين القبائل العربية والفرس تعود إلى العام (310 ميلادية) حيث قُتل فيها (هرمز الثاني) ملك الساسانيين (الفرس)، على يد العرب.

ليست إيران دولة طارئة أو حديثة النشوء أو متطفلة على الخارطة العالمية، فالإمبراطورية الفارسية من أقوى وأقدم الإمبراطوريات في العالم، والحضارة الفارسية من أعظم حضارات العالم القديم، وكان لها دوما دورا مؤثرا وفعالا على الصعيدين الإقليمي والعالمي. فقد أسس الفرس مملكتهم، وظهروا كقوة عظمى، وسيد وحيدا للشرق عام (559 قبل الميلاد) إثر انتصارهم على أبناء عمومتهم (الميديين)، وانتصارهم بعد ذلك على البابليين، واستيلائهم على مملكة (آشور) وضمها إليهم. وإليهم يعود الفضل في تحرير اليهود من الأسر وإعادتهم إلى بلادهم.

ليس الفرس بالأمم العابرة في تاريخ الثقافة العالمية، فمنهم (زرادشت- النبي) صاحب التعاليم الدينية والفلسفة العظيمة التي تركت أثرا كبيرا على ثقافات لاحقة، ومنهم (ماني) صاحب الديانة المانوية التي نافست ردحا طويلا الديانة المسيحية في قلب الإمبراطورية الرومانية.
لقد أخضعت الإمبراطورية الفارسية مصرَ القديمة، وكامل آسيا الصغرى والوسطى، وامتد سلطانها من (السند) إلى (ليبيا) ومن (النيل) إلى (مقدونيا) مما مكنهم من السيطرة على طرق التجارة العالمية بالكامل.

لقد اشتبكوا خلال هذه الفترة مع اليونانيين في حروب بحرية عديدة، انتصروا فيها. كما قدموا الدعم والمساندة ل (أسبارطة) ومكنوها من النصر في حروبها ضد (أثينا)، وساهموا بعد ذلك في عقد معاهدة سلام بينهما.
استمر نجم الفرس في الصعود إلى أن غزاهم (الإسكندر المقدوني) وأحرق عاصمتهم (برسيبوليس) أواخر القرن السادس قبل الميلاد، انتقاما لإحراق (أثينا). وبعد موت الإسكندر أصبحت بلاد فارس وآسيا الصغرى والوسطى والشام والعراق تحت سيطرة القائد (سلوقس) الذي أسس الدولة السلوقية. لكن الفرس لم يلبثوا أن نهضوا من كبوتهم، واستعادة دورهم العالمي، فخاضوا حروبا مع الرومان وانتصروا عليهم عام (53 قبل الميلاد). كما أسروا الإمبراطور الروماني (فاليران) عام (260 ميلادية). كما صارعوا الإمبراطورية البيزنطية على أرض العراق وسوريا، وحاصروا القسطنطينية.
ورغم كل هذه القوة والحضارة والعظمة التي تمتعت بها الإمبراطورية الفارسية، فقد كان حظها عاثرا في حروبها مع العرب. وكان العرب غالبا إن لم نقل دوما منتصرين. فقد انتصروا عليهم عام (310 م) وقتلوا ملكهم (هرمز الثاني). كما انتصروا عليهم في معركة (ذو قار) أوائل القرن السابع الميلادي، حين اتحدت ضد الفرس عدة قبائل عربية بزعامة قبيلة بني شيبان. وكانت هذه المعركة من الأهمية بحيث قال عنها الرسول (ص): quot;اليوم انتصف العرب من العجمquot;.

وكذلك انتصروا عليهم في معركة القادسية عام (635 م) بقيادة (سعد بن أبي وقاص)، وقضوا على جيوشهم الني قادها (رستم). وانتصروا عليهم أيضا نصرا نهائيا بقيادة (النعمان بن مُقرن) ثم (حُذيفة بن اليمان) في معركة (نهاوند) عام (642 م). وفتحوا بعدها بلادهم، وحظّروا دياناتهم، وأدخلوهم في الإسلام.
واستنادا لهذا الصراع القومي يمكن أن نفهم أسباب المقولة التي حصرت الخلافة- الرئاسة بقريش أي بالعرب، خلافا للمقولة التي تمسك ونادى بها المسلمون غير العرب، من أن لا فضل لعربي على أعجمي، أو لأبيض على أسود إلا بالتقوى. كما يمكن أن نفهم أسباب شيوع الحركة الشعوبية، والأسباب التي حدت بالدولة الأموية أن تعلي من شأن العنصر العربي.
استمر الصراع خفيا بعد قيام الدولة الأموية التي أعلت من شأن العنصر العربي، فشاعت واشتدت الحركة الشعوبية، وعمل الفرس بقوة، وساهموا بفعالية، بقيادة أبي مسلم الخرساني في إسقاط دولة الأمويين، وقيام دولة العباسيين.

ومع استتباب الأمر للعباسيين حاول الفرس مد نفوذهم وسلطانهم داخل البلاط العباسي، وقد نجحوا مرات كثيرة في ذلك. وإذا كان بعض الخلفاء قد استطاع حسر هذا النفوذ، أو القضاء عليه ( الرشيد والبرامكة)، فإن كثر منهم قد فشلوا في ذلك، خاصة عندما دب المرض والوهن في أوصال هذه الدولة (العباسية). وللفرس يعود الفضل في إيصال المأمون- أمه فارسية- إلى سدة الخلافة، وإسقاط أخيه الأمين.
لقد ساهم الفرس مساهمة فعالة ومتميزة في الحضارة الإسلامية، وإليهم يُنسب أكبر الفضل، فمنهم (سيبويه) النحوي الأشهر في تاريخ اللغة العربية، ومنهم الخوارزمي والفردوسي والرازي وابن سينا والغزالي وعمر الخيام، وأسماء أخرى كثيرة لامعة، تركت بصماتها جلية واضحة في تاريخ الحضارة الإسلامية.

لم يكن العرب الأقدمين يوما على علاقة طيبة مع الفرس، وإن بدت الأمور في بعض الأحيان خلاف ذلك. وكانت مشاعرهم تميل دوما إلى الروم ضد الفرس. فحين انتصر الفرس على الروم في أوائل القرن السابع الميلادي حزن المسلمون- العرب حزنا شديدا، وراحوا يتراهنون فيما بينهم أيٌّ من الفريقين سيغلب الآخر في نهاية المطاف. فما كان إلا أن أنزل الله بشرى للمسلمين في قرآنه الكريم، يبشرهم أن الروم سينتصرون في السنوات القادمة على الفرس (غُلبتْ الروم* في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيَغلِبون* في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون* بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم*- سورة الروم 2-5).

منذ مقتل الخليفة عثمان بن عفان، إن لم نقل منذ مؤتمر السقيفة وتولي الخليفة أبي بكر الصديق سدة الحكم، انقسم المسلمون، وقامت بينهما الحروب. حروب ضارية شعواء (الجمل، صفين، كربلاء،....) ذهب ضحيتها عشرات آلاف القتلى من الجانبين.
لم تكن العلاقة بين السنة والشيعة بأحسن حالا من العلاقة بين العرب والفرس. والصراع بينهما حتى يومنا هذا جلي غير مستتر. وفي غياب المشايخ التي تدعو إلى الألفة والمحبة ونبذ خلافات الماضي، لا يعيب أحد منهما إظهاره، ولا يحاول أي من الطرفين إخفاءه.
لم يستطع السنة والشيعة على اختلاف جنسياتهم (عرب، ترك، أفغان....)، تجاوز خلافاتهم، ودفن أحقادهم، بالرغم من أن من يختلفان بشأنهم قد ماتوا وفنيت عظامهم منذ مئات كثيرة من السنين. وبالرغم من أنه قد مضى على هذا الخلاف ألف وأربعمائة عام، هذا الخلاف الذي بدأ سياسيا ولكن لكي يتعمق ويتسع، وتشتد جذوته، وتضطرم نيرانه، انتهى عقائديا.

كل من الطرفين يكفّر الآخر، ويبيح دمه طالما استطاع إلى ذلك سبيلا. كل من الطرفين يفجر مساجد الآخر متوخيا أن يكون غاصا بأكبر عدد من المصلين، ليكون عدد القتلى أكثر. ليس في العراق فحسب. بل في باكستان، وقبلها في أفغانستان. وفي كل مكان يستطيع الطرفان أن يعبرا عن مشاعرهما بحرية نحو بعضهما بعضا، ويحولان هذه المشاعر إلى فعل.
يريد الشيعة أن يثأروا لآهل البيت من قاتليهم. وقتلة أهل البيت ماتوا وفنيت عظامهم منذ أكثر من ألف وثلاثمائة عام. وأهل السنة الحاليين بجنسياتهم المتعددة لا يمتون بأي صلة إلى بني أمية أو إلى المروانيين.
يريد أهل السنة أن يحمّلوا الشيعة وزر مقتل عثمان بن عفان، وإلصاق تهمة الضلال بهم، لإخراجهم من الدين، وإغلاق أبواب الجنة في وجههم. مع أن المتهم الرئيسي في مقتل الخليفة عثمان بن عفان هو (محمد بن أبي بكر الصديق). إضافة إلى أن الشيعة الحاليين لا يمتون أيضا بأية صلة لأي من قتلة الخليفة عثمان. مما يعني أن الصراع أصبح صراع مذاهب، بل قل أديان، تستغل وقائع وأحداثا مادية من التاريخ، كي تبقي هذا الصراع متأججا ومستعرا.

شاءت الأقدار أن يتحول الفرس على يد الصفويين في القرن السادس عشر من المذهب السني إلى المذهب الشيعي، مما أدخلهم في حروب عديدة مع العثمانيين السنة الطامحين إلى تأسيس إمبراطورية واسعة. ومما أدى أيضا إلى اتساع الهوة بين العرب حيث يشكل السنة أكثرية، وبين الفرس. فأصبح الخلاف دينيا وقوميا في آن واحد.
أن الغالبية الساحقة من الشعوب الإسلامية تنطلق في حساباتها وعلاقاتها بالآخرين من منطلقات دينية مذهبية. إلا عندما تتطلب المصلحة غير ذلك، فيتم التغاضي عن هذه المنطلقات الدينية، بحجة أن الضرورات تبيح المحظورات.
لم يكن السنة والشيعة فيما مضى ندان فيما بينهما، ولذلك لم يأخذ التنافر فيما بينهم هذا الشكل الدموي الحاد، كما في (العراق، الباكستان، أفغانستان). ولكن مع انتصار الثورة الإسلامية (الشيعية) وصعود نجم إيران- القوة الصاعدة الواعدة- اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا، فقد شعر شيعة العالم الذين اضطهدوا على مدى قرون وقرون، أن لهم بعد طول انتظار سندا وداعما.

لعل ما تمتعت به إيران من حضارة وقوة في الماضي، إضافة للقوة المالية التي وفرتها زيادة أسعار النفط. تفسر لنا رغبة ومساعي إيران في امتلاك تكنولوجية نووية. ولعل العلاقة بين السنة والشيعة، وبين العرب والفرس، تجعلنا نظن أن امتلاك إيران لتكنولوجيا نووية سيفتح الباب على مصراعيه لسباق التسلح في المنطقة. خاصة وأن موازيين القوى الحالية في المنطقة العربية تميل لصالح غير العرب، وفي المنطقة الإسلامية تميل لصالح غير السنة. مما يلقي ضوءا على التحالفات التي بدأت تنشأ بين دول المنطقة. كما يلقي ضوءا على الأسباب التي دعت الملك الأردني عبد الله الثاني من التحذير مما أسماه (الهلال الشيعي). والأسباب التي دعت الرئيس حسني مبارك إلى القول أن(ولاء بعض الشيعة لإيران أكثر من ولائهم لأوطانهم). كما تفسر لنا هذه العلاقة أيضا المواقف المتباينة التي اتخذتها دول المنطقة من حرب لبنان الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل.
[email protected]