لا شك أن الاستعمار حين يحتل بلدا، يعمل- بغية إطالة أمد احتلاله- على إبقاء البلد في حالة تخلف. وعلى تدني مستوى التعليم، وتشجيع فكر الخرافات، ونشر الفساد، والعبث بالقضاء، وتشجيع الرشاوى، والمحسوبية، وحماية الفاسدين والمفسدين، وبث روح اللامبالاة، والتهرب من المسؤولية.
كما يسعى إلى بث الفرقة بين المواطنين، وتكريس الطائفية، والقبلية، والعائلية، وإذكاء نار الحسد، والكيد، والبغضاء، والعداوات.
ويعمد إلى قمع الحريات العامة، والاضطهاد، وإشاعة الخوف في قلوب الناس، واحتقار حقوق الإنسان، وتحطيم المعنويات. معتمدا لتحقيق ذلك، على ضعفاء النفوس، والمتعاونين، والمخبرين، والانتهازيين، والمنافقين، والطفيليين، والوصوليين، الذين لا همَّ لهم سوى السلطة، وتكديس المال، وحب الظهور.
ولا شك أيضا أن الشعوب العربية والإسلامية، قد عانت كثيرا من المحتل، وناضلت طويلا حتى نالت استقلالها، ورحل.
ومما لا شك فيه أيضا أن هذه الشعوب قد انتشت فرحا باستقلال بلدانها، وامتلأت فخرا بحكوماتها الوطنية، واستبشرت بها خيرا، وبنت عليها الآمال.
والآن، وبعد مضي أكثر من نصف قرن على خروج المستعمر من هذه البلدان، وولادة عدة أجيال في عهد الاستقلال. فإن السؤال الذي يواجهنا، ويتطلب منّا الإجابة عليه، إن استطعنا إلى ذلك سبيلا: هل تحسن وضع البلاد والعباد، بعد مضي أكثر من نصف قرن على رحيل المستعمر؟ أم تفاقمت الأمور، وازدادت سوءا، فانتهكت القوانين، وخُرّبتْ الأخلاق، وانهارت القيم، وأصبح المال والسلطة، هو الهدف والغاية المطلقة التي يهون في سبيلها الدم، وتهون لأجلها الكرامات والأخلاق والذمم؟
فهل تقلصت برحيل المحتل عن أرضنا مساحة الفساد؟ أم أنه امتد واستشرى ليكتسح كالطاعون أكثر العباد؟
وهل ازدادت مساحة الحريات العامة، وقلَّ عدد المخبرين، وأزيلت كافة العوائق والقيود التي كانت زمن المستعمر تكبل أهل البلاد؟ وهل امتلكوا الآن حق التعبير عن آراءهم وأفكارهم ومعتقداتهم دون اتهام، أو تخوين، أو عقاب، وصاروا مشاركين في صنع القرارات، وسياسة البلاد؟
هل زال الخوف من قلوب الناس، وصاروا أكثر شعورا بالأمن والأمان، وأكثر اطمئنانا على حريتهم، وأسرهم، وحقوقهم، وشيخوختهم، ومستقبل أبنائهم وبناتهم؟
هل تم القضاء على المحسوبية والرشاوى والسرقات، وأصبح القضاء عادلا، يُنصف الناس، فينال صاحب الحق حقه، والمسيء عقابه؟
هل وُضِعَ الإنسان المناسب في المكان المناسب، وصارت الأمانة والكفاءة والإخلاص في العمل والقدرة عليه، هم مقياس الاختيار للوظائف العامة؟
هل قلَّ عدد اللصوص والمنتفعين والمحتالين، وخفت ظاهرة الغش والتحايل والخداع في الكيل والميزان والسلع والمعاملات؟ وهل تم القضاء على لصوص المال العام، وعلى النهابين والمتاجرين بقوت الشعب؟
هل أصبح الموظف الذي ولد في عهد الاستقلال، وتربى على شعاراته وإعلامه ومفاهيمه، أكثر شعورا بالمسؤولية، وأكثر إخلاصا وأمانة في عمله، لا يقبل الرشاوى، ولا يبرر لنفسه قبولها بحجة أنها هدايا، وإن النبي قد قبل الهدية؟
هل أصبح صاحب المنصب يُسخّر منصبه ووظيفته لخدمة الصالح العام، لا لأغراضه الشخصية، أو العائلية، أو لجمع المال؟
هل أصبح مشايخنا في دولة الاستقلال أكثر تقوى وتمسكا بأهداب الدين، وأكثر فعلا للخير، ونبذا للشر، وأكثر التزاما بالحلال، وأكثر ابتعادا عن الحرام؟
لقد اتبع المستعمر سياسة (فرّقْ تسدْ) للسيطرة على الشعب، فهل عمَّ برحيله الحب والألفة، والثقة المتبادلة والتعاون، وانتفى الكيد والدس والحسد، وتلفيق الاتهامات؟
هل أصبح المواطنون، الذين لم تكن مصالحهم تعني المحتل، ولم يكونوا في نظره أكثر من أدوات وأرقام وخدم، لتحقيق مصالحه ومآربه ومخططاته. هل أصبحوا في عهد الاستقلال ذوي شأن، يُنظر إليهم، وإلى همومهم ومشاكلهم، ومصالحهم، بعين التقدير والرعاية والاهتمام، وعادت للمرء إنسانيته وكرامته، وأصبح محترما مرموقا في نظر الدولة والمجتمع؟
هل صار أعضاء البرلمان في عهد الاستقلال أكثر التصاقا بالناس، يتنافسون على خدمتهم وإرضائهم، ولا يدفعون المال لشراء الأصوات والذمم والمقعد البرلماني؟ وهل يتم انتخابهم أو تعيينهم استنادا لكفاءتهم، وقدراتهم، وعلمهم، وتمسكهم بقضايا ومشاكل شعبهم، ومعالجة هذه المشاكل وإيجاد حل لها؟ أم أنهم يستغلون مقعدهم للحصانة، وخدمة أغراضهم الشخصية، ومصالحهم التجارية، والعائلية، وتكديس المال، كما كان يحصل زمن الاحتلال؟
هل تبدلت نحو الأفضل أخلاق الناس ونظرتهم ومفاهيمهم وعلاقاتهم، أم أنهم ما زالوا يلهثون خلف المال، يهينون لأجله النفوس والكرامات والذمم، مستخدمين في سبيله كل الوسائل والأساليب المرذولة؟
هل ارتفع مستوى التعليم، وأصبح أفضل مما كان عليه في عهد الاحتلال؟ وهل أصبح خريجو الجامعات جديرين بشهاداتهم الجامعية، ينالونها بجدهم وتعبهم وكفاءتهم، ولا يستخدمون الطرق المشبوهة للحصول عليها؟ وهل ازداد تقدير العلم والمتعلمين؟
هل أصبحت الفرص متساوية أمام الناس؟ وأصبح الحصول على وظيفة يتم بناء على الكفاءة، واختيار أفضل المتقدمين، أم استنادا لأشياء أخرى؟
وأخير هل استطاعت هذه الشعوب وحكوماتها الوطنية بعد خروج المستعمر، واستقلالها، أن تبني دولا بمعنى الدولة، ومؤسسات لصيانتها من العبث، والقرارات الارتجالية؟ وهل استطاعت أن تنهض بالزراعة والصناعة، وتحقق الاكتفاء الذاتي، والتوازن في ميزان المدفوعات؟
أم ما زالت تعتمد على المستعمر في مأكلها ومشربها وملبسها، وزراعتها، وصناعتها، ومواصلاتها، واتصالاتها، وإبر الخياطة في رتق ملابسها، وتبرير إعاقتها ومفاسدها ومشاكلها؟
[email protected]
التعليقات