من مفكرة سفير عربي في اليابان

سأل سعادة الدكتور علي محمد فخرو، وزير التربية ووزير الصحة وسفير مملكة البحرين بفرنسا سابقا، في مقالة بجريدة أخبار الخليج الصادرة بتاريخ 25 يناير2007:quot;هل أن قضيّتي السلوك والأخلاق في الحياة العربية تمثلان أحد أهم أسباب تخلف هذه الأمة؟ ,استشهد ببيت شعر لحافظ إبراهيم: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا. ويعقب سعادته: quot; وهناك دراسات كثيرة حول تصرفات سلبية في حياة المواطن العربي، من مثل الاتكالية والفوضوية وقلة احترام النظام وإهمال عامل الوقت والفردية والأنانية، والخلط بين ثنائيات كثيرة،ومن مثل الخلط بين الشطارة والتدليس، والقائمة طويلة جدا.quot; ويتساءل سعادته مرة أخرى: quot;هل تستطيع أمة تتعامل بمثل هذه الخفة بموضوع مفصلي كموضوعنا هذا أن تخرج من تخلفها وتبدأ نهضتها؟quot;
ونلاحظ الفارق الكبير بين الشخصية التي وصفها أستاذنا الفاضل والشخصية اليابانية. فالشخصية اليابانية منضبطة،تقدس الوقت، تحترم النظام، وتبدع من ضمن الفريق الواحد، وتلتزم وبشدة بآداب التعامل، وأخلاقيات المتاجرة رفيعة وموصوفة بالصدق والأمانة. وهناك إحساس عام بالأمن والأمان في اليابان لتوفر الوظيفة المنتجة والتأمين لمعظم الخدمات الاجتماعية. وهذه الأخلاقيات نابعة من الاهتمام بالبرامج التعليمية المتعلقة بالأخلاقيات والسلوك للمواطن، ومنذ الصغر في البيت والمجتمع والمدرسة. كما أن محاسبة القانون صارمة للمخالفين، والإحساس بالعيب المجتمعي الذي يخلق في المواطن الياباني منذ صغره قاسية. فإذا أذنب أي مواطن في الواجب، فأما أن يستقيل عن عملة، أو أن يسجن أو ينتحر. وإذ لم ينتحر، فمثلا لدخوله السجن، فالاحتمال كبير بأن تنتحر زوجته أو والدته لتخليص العائلة من العار والفضيحة. ولا يرحم القانون الياباني الغني أو الفقير، الوزير أو الغفير، فحينما تكتشف المخالفات، تدرس أسباب حدوثها، ويحاسب مرتكبيها، وتمنع تكررها. ومن المعروف بأن معظم المتهمين يعترفون بجرائهم، ومعظم من يقبض عليهم يحاكمون. فمثلا 95.9% جرائم القتل تكتشف وتحاكم، فلا يستطيع أحد أن يفلت من القانون في اليابان. بالإضافة بأن القيم المجتمعية اليابانية تفرض على الشخص الاعتذار. فالاعتذار ظاهرة مهمة في اليابان وتخفف عن المتهم والضحية كثير من عذاب النفس والضمير، لذلك يعتذرون ويعترفون بأخطائهم في معظم الأحيان.
وإصرار المجتمع الياباني على الأخلاقيات وآداب التعامل والإخلاص للوطن ترجع للتمازج بين تحديات التعامل مع الطبيعة القاسية، وطبيعة المجتمع الياباني الزراعي القديم، والإحساس بالواجب الوطني والقيم الأخلاقية الدينية المتأصلة ومنذ نشوء اليابان. وامتزجت وخلال عقود طويلة أخلاقيات ديانة الشنتو الأصلية مع البوذية والكنفوشيوسية. وبدأت ديانة الشنتو وتطورت مع تطور المجتمع الياباني منذ أكثر من 2667 عام. وتتميز هذه الديانة بتقديس الطبيعة بجميع أشكالها - الإنسان والحيوان والكائنات الحية، والجبال والغابات والأنهار والبحار وظواهر الطبيعة المختلفة - وتؤكد أهمية التعامل معها بتناغم، كما تقدس أرواح الإسلاف. ووضع اليابانيون نظام لالتزام بالأخلاقيات وآداب التعامل منذ القدم، وتطورت في فترة الاستقرار في عهد الايدو (1603-1867)، وهو عهد تطور النظام الإقطاعي وأفوله. وكانت عساكر السمواري هي الطبقة الحاكمة في البلاد في ذلك الوقت. وقد انتشرت المدارس في البلاد لتدريس عائلات السموراي الثقافة وفنون الحرب وأخلاقيات اللازمة لأداء الواجب. وقد سميت هذه الأخلاقيات بأخلاقيات البوشيدو. وتؤكد هذه الأخلاقيات على الإخلاص، التضحية، العدالة، والسلوك المهذب، ونقاوة الروح، والتواضع، والشرف، والتعاطف مع الأخريين، وأهمية الإحساس بالخجل، والاقتصاد في الإنفاق المعيشي، وانضباط النفس والسيطرة على غرائزها. كما كانت تدرس هذه الأخلاقيات في المعابد أيضا، مع القراءة والكتابة والرياضيات. وألتحق أكثر من 40% من السكان في ذلك الوقت بهذه المدارس الدينية الأخلاقية. كما صدر مرسوم إمبراطوري في عام 1879 يؤكد بأن الهدف الرئيسي من التعليم هو نشر الخصال الإنسانية الفاضلة والعدالة والإخلاص بين الجيل الصاعد، وبداء ينتشر التعليم في هذه الفترة بشكل واسع في اليابان.
وقد أرسلت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، سبعة وعشرين أستاذ لتقيم التعليم في اليابان. وبعد إعلان دستور ما بعد الحرب، الذي صاغه عساكر الجيش الأمريكي، صدر قانون أساسيات التعليم في مارس عام 1947. وقد أكد القانون على ضرورة تطوير الشخصية الفردية (المخالف للأخلاقيات اليابانية)، وبناء جيل بأجسام وعقول سليمة، محب للحقيقة والعدالة، ويحترم القيم الشخصية، ويقدر العمل، ولديه الإحساس العميق بالمسؤولية، ويعمل بروح لبناء دولة مسالمة. كما منع الدستور الجديد تدريس دين الشنتو في المدارس الحكومية والاحتفال بالمناسبات الدينية فيها. وتلاحظ عزيزي بأن الثقافة الأمريكية حاولت أن تغرز الشخصية الفردية والقيم الفردية في الإنسان الياباني من خلال الدستور وقانون التعليم، والذي يخالف تماما القيم اليابانية الأخلاقية والدينية في التأكيد على أهمية المجتمع والطبيعة والتناغم الجميل بينهما.
وفي عام 1989 نجح اليابانيون في مراجعة البرامج التعليمية وتطهيرها من القيم الفردية المستوردة، وأضيفت برامج السلوك والأخلاقيات بصيغة متكاملة على أن تراجع كليا كل عشرة سنوات. وقد أدخلت مادة السلوك والأخلاقيات بتناغم في جميع المواد المدرسية ونشاطاتها بالإضافة لبرنامج متخصص في الأخلاقيات يقدم ساعة كل أسبوع على مدار السنة وفي جميع السنوات الدراسية. ويشكل برنامج الأخلاقيات 4% من ساعات المقرر الدراسي السنوي. ويناقش هذا البرنامج الأخلاقيات من خلال قراءة قصة أو كتابة مقال أو مشاهدة فلم. ويؤكد البرنامج أهمية الأخلاقيات الشخصية، وأخلاقيات التعامل مع الأخريين، وأخلاقيات الواجب نحو المجتمع، والوطن، والإمبراطور. ويؤكد البرنامج حول أخلاقيات الفرد: بضرورة بساطة العيش، الاجتهاد في العمل وإتقانه، الشجاعة في عمل ما هو صحيح وبدون تخوف، التعامل مع الناس بإخلاص وسعادة، تقدير الحرية الشخصية والتصرف بانضباط، تطوير ما هو حسن في الشخصية وتغير ما يحتاج تغيره، حب الحقيقة والسعي للوصول للمثالية. أما في ما يتعلق بالتعامل مع الآخرين فيؤكد على لطف المعاملة وأدب الكلام، العطف على الأخريين، الإخلاص في الصداقة ومساعدة الأخريين، التواضع وقبول أفكار الآخرين بعقل منفتح، وشكر من يساعدونك وبالأخص كبار السن. أما في ما يتعلق بالطبيعة فيؤكد على احترام الطبيعة والعطف على الحيوانات والنباتات، احترام الحياة والكائنات الحية، الإحساس بشعور الأخريين، الإيمان بقوة وسمو الإنسان وقدرته على تجاوز ضعفه ووصوله للسعادة. أما عن الواجب المجتمعي فيؤكد على العدالة والمساواة في التعامل مع الآخرين، العمل ضمن الفريق الواحد ومعرفة المواطن وظيفته وواجباته ضمن الفريق، احترام العمل والرغبة فيه، احترام العائلة والمساعدة في الإعمال المنزلية، العمل في خدمة المجتمع وتقدير العاملين فيه، حب الوطن والاستمتاع بثقافته وعاداته، واحترام الثقافات الأخرى. كما يقوم الطلاب بتنظيف المدرسة بكل أقسامها، ويراعون النباتات والحيوانات الموجودة بالمدرسة.
لنرجع لموضوع العبادة في الشخصية اليابانية. فالعبادات قليله وقصيرة وروحانية وقليلة المظاهر ولكنها كبيرة المعنى. وطقوسها متلونه ومريحه للنفس وجميلة قد تتمثل طقوسها في المعابد وفي الطبيعه. والمعبد الياباني مهم في حياة الاطفال وفي مناسبات الزواج والوفاة. وهناك طقوس جميلة لولادة الطفل، وحينما يبلغ الثالثة والخامسة والسابعة من العمر. ولديهم طقوس زواج ملونة. أما الموت فيعطى حقه في اليابان، وتبقى زيارة المعبد لتذكر الموتى واجبه مدى الحياة. والمعابد اليابانيه قصور جميلة الالوان كثيرة الاشجار والحدائق ومليئة ببحيرات الماء. وتستعمل في بنائها أرقى أنواع الأخشاب، وتقدس أخشاب المعابد على مر العصور. وقد بنيت بعض المعابد في داخل البحر وتتعرض بشكل متكرر لدمار الامواج والطوفان، ولكن يجمع اليابانيون كل قطعه منها ويرجعوا بنائها كما كانت. وتوجد نوعين من المعابد اليابانية وهي معابد الشنتو، يقدر عددها بحوالي الثمانين ألفا، والمعابد البوذية، والبالغ عددها حوالي ثمانية وسبعين ألفا. والجدير بالذكر بأن المعابد الشنتو اليابانية مرتبطة بتاريخ اليابان، فكل معبد ترافقه قصة وله مغزى معين في التاريخ الياباني.
ولا يسمح بالاحتفالات الدينية في المدارس الحكومي حتى الآن، وهي مدارس علمانية، ولكن لها حق القرار في كمية البرنامج الدينية التاريخية الذي تريد أن تدرسه. ويحتوي برنامج التعليم التاريخي الديني دراسة أكاديمية محايدة عن قيم الأديان المختلفة, وتغذي الوجدان والشعور الديني. وتربي في الطالب احترام الحياة وتقدير عطاء وجمال الطبيعة. ولا تتدخل الحكومة في البرامج الدينية في المدارس الخاصة، ومنذ أنتها الحرب. وتمثل المدارس الخاصة ذات الصبغة الدينية حوالي 2% من المدارس الابتدائية، 7% من المدارس الثانوية، 23% من الكليات و17% من الجامعات.
يوجد باليابان أكثر من مائه وثمانين الف جماعه دينيه يقدر عددها بمائتي مليون نسمه. وهنا المفارقه فعدد سكان اليابان مائه وسبعة وعشرون مليونا، ومعنى ذلك بان الياباني يجمع بين الديانات. وهذه ظاهره توافقيه جميله لدي الشعب الياباني . والدستور الياباني بعد الحرب يفصل الدولة عن الدين ويحترم حرية اعتناق الاديان وممارستها. ومع تطور المجتمع الزراعي نحو التصنيع انتقل اليابانيون من القرية الزراعيه الى المدينه وبداء يقل الرباط المجتمعي وضعف معه الشعور الديني وتحولت المعابد الى مراكز للاحتفال بالمناسبات المختلفه. وتحولت العقيده لايمان شخصي في الضمير، يبرزه الياباني في سلوكه اليومي وعلاقته الشخصية، وليس من خلال طقوس دينيه متكررة. ويعتقد اليابانيون بان الممارسة الدينيه يمكن ان تكون من خلال اللاشعور عبر السلوك الحياتي اليومي، او بدمجه بالوعي في الحياة الاجتماعيه اليوميه, واما ان يمارس من خلال فئة دينيه معينه. وخلاصة القول بان المجتمع الياباني به جماعات دينية متعددة، وتحترم بعضها، وتتشارك في مناسباتها المختلفة، وتعمل في تناغم لخير المجتمع. والسؤال الذي سننهي به المقال عزيزي القارئ، هل من الممكن ان نستفيذ من التجربة اليابانية في تطوير تعليم أخلاقيات السلوك، من خلال قيمنا الدينية بمجتمعاتنا العربية المختلفة؟ والى لقاء.

كاتب المقال سفير البحرين باليابان