في نهار الشعانين quot;الأخضرquot; من لون أغصان الزيتون التي تتمايل في أيدي الناس، تعبيرا عن ذكرى هذا النهار المبارك، حيث استقلبت حشود القدس السيد المسيح عند أبواب القداس وفي شوارعها العابقة بالقداسة. أطلت علينا وسائل الإعلام العربية، المرئية والمسموعة والمقروءة والالكترونية، بأقوال زعيم عربي، صاحب الكتاب quot; الأخضرquot;، تحاول نسف كل ما هو غير إسلامي ولا تعترف بوجوده، وان وجد اليوم فهو، على حد تعبيره، خطأ تاريخي بليغ. فقد نشرت الأخبار مقاطع من خطبة للرئيس القذافي في النيجر احتفاء بعيد المولد النبوي، وبحضور زعماء أفارقة، حيث تضمنّت إساءات متعدّدة للديانة المسيحية تحديدا تاريخا وعقيدة ورموز مقدّسة.
العام الماضي وفي سبتمبر تحديدا، كانت محاضرة أكاديمية للبابا، وجاء اقتباس حدّد البابا في ذات المحاضرة وقبل التفوه به أنّه لا يمثل رأيه الخاص أبدا. وأنّه اقتباس quot;فضquot; وعنيف. ثم حصل ما حصل من حرق للكنائس ومقتل راهبة إيطالية في الصومال ودعوة أحد العلماء المسلمين على قناة الجزيرة إلى quot;يوم غضب إسلامي quot; عارم يوم الجمعة التالية للمحاضرة إياها. وأصدر الفاتيكان عدّة توضيحات. وكرّر البابا المحاضر أسفه الشديد لما حصل مؤكدا أنّ هذا الاقتباس لا يمثل، لا من قريب ولا من بعيد، لا وجهة نظره الشخصية ولا وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية. ودعا سفراء الدول العربية والإسلامية المعتمدين لديه، وأوفد دبلوماسييه إلى دول عدّة من أجل تأكيد الكنيسة على درب الحوار الذي لم ينته، وعلى أنّ محاضرة أكاديمية تضمنّت اقتباسا شجبه المحاضر نفسه لا يمكن أن تأتي على شرخ العلاقات الجيدة والمتميّزة مع المسلمين، وكل ذلك بدون جدوى.
فقبل أيام قلائل، أعلن الأزهر عن تأجيل زيارة شيخه الطنطاوي إلى الفاتيكان، لمقابلة البابا، رضوخا عند رأي العديد من quot;المفكرينquot; وأصحاب الخبرة والجهات المؤثرة في مصر التي أكدت على عدم اكتفائها إلى اليوم بما قدّم الفاتيكان من توضيحات. فجاء تأجيل الزيارة التي دعاه إليها البابا، عبر وزير الثقافة الكاردينال بوبارد الذي جاء الى مصر خصيصا لدعوة شيخ الأزهر، من شهر شباط إلى آذار ثم أيار، إلى أن تم الإعلان، قبل أيام، عن عدم تحديد موعد بتاتا. بل انّ تلك الأصوات الرافضة للزيارة ما زالت مصرّة على أن يأتي البابا أولا فيقدّم اعتذاره الصريح والمباشر في الأزهر.
كل ذلك من جرّاء محاضرة quot;سبتمبرquot;.
وبمناسبة عيد المولد النبوي، يترأس رئيس عربي، قائد ثورة الفاتح من quot;سبتمبرquot;، صلوات العيد في النيجر. ويطلق ما أطلقه من تصريحات تراكضت وسائل الإعلام العربية إلى نشرها، دون اكتراث بمشاعر المعيّدين صباح أحد الشعانين.
لم نسمع عن أي وسيلة إعلامية تعلق على الأمر وكأنّها تقبل به.
سمعنا فقط اقتباسات عديدة من خطبة الرئيس العتيدة. ( والحمد لله أنّ إيلاف قد اقتبست كلامه اللطيف وليس المسيء).
وهو طبعا صاحب تعليقات كثيرة أصبحت مثلا في الضحك والتندّر. وقد نشرت بعض الصحف العربية قبل أيام أن مؤتمر قمّة الرياض الذي عقد الأسبوع الماضي يفتقر إلى quot;مداعبات الرئيس الليبيquot;. فليس العتب على الرئيس. فليبيا لا مسيحيين أصليين فيها. وبالتالي انّ التعايش الوطني بين المسلمين والمسيحيين في ليبيا غير موجود. هنالك الجاليات الأجنبية التي لربّما يسمح لها بالصلاة في القاعات أو البيوت بحسب سعة صدر الدستور الليبي وتعليمات قيادته، لكن المهم أين هي وسائل الإعلام العربية التي كان عليها أن تعتذر عن نشر هذه الإساءات للدين المسيحي، وتحديدا في صباح أحد الشعانين المبارك؟ وأين الأقلام العربية التي تقول لهذه التصريحات الأخيرة أنّها تفتقر إلى الصحة التاريخية أوّلا والى أصول احترام مشاعر المؤمنين ثانيا وفي أقدس أسبوع من السنة أي أسبوع الآلام والموت والقيامة. أين أصوات المسلمين المعتدلين ؟ أين أصوات الحوار والتعايش بل العيش المشترك. لم نسمع عن أي فقيه أو عالم دين أو خطيب جامع أو مواطن عادي في الوطن العربي يقول: لا يا سيادة رئيس الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الإشتراكية العظمى، فنحن نعترف بوجود المسيحيين الزاهر وبخاصة في وطننا العربي. لك أن تنتقد تصرفات بعض المسيحيين وبخاصة سياسيي الغرب الذين يعلنون الحرب في سبيل ترسيخ مبادئ quot; ديمومة الكراسي quot; وهي الترجمة القذافية الحرفية لكلمة الديموكراسي أو الديمقراطية، ولكن ليس لنا أن ننكر وجود الديانات الأخرى، ولا أن نتنكر لحضور أخوتنا المسيحيين في وطننا العربي، وهو حضور مشرّف في الوجوه كافة. اين تلك الأصوات التي تقول انّ لنا مع المسيحيين تاريخا مشتركا ومعاناة مشتركة ومصيرا مشتركا وإيمانا مشتركا بالله الواحد وباليوم الآخر، فلا يجوز أن نفرّط بهذه الجوامع المشتركة، ولا يحق أن ننسف الدين من أساسه، وأن نقول أنّ وجوده quot;خطأ تاريخي خطيرquot; ممّا يعني بالضرورة أنّ كل من يؤمن بهذا الدين وبتعاليمه السماوية انّما هو جاهل وكافر وغير جدير بالوجود أصلا.
قال البابا كلامه في جامعة ألمانية، فقامت الدنيا ولم تقعد إلى اليوم. وأصبحت الفضائيات العربية منبرا للهجوم على كل ما يمثله quot;رئيس دولة الفاتيكانquot;. وتصدّت أقلام مسلمة وحتى مسيحية للدفاع عن الإسلام وعن اقتباس لم يكن له ضرورة، حتى وان قال صاحبه أنّه لا يمثل رأيه الشخصي.
وقال العقيد كلامه في أجاديس بحضور زعماء أفارقة. فصمتت الأقلام ولم يعلق أحد ولم يرد أحد. بل اكتفت وسائل الإعلام العربية بنشر أقوال الرئيس الليبي، دون أي تعليق، وكأنّها تتبناها... جملة وتفصيلا.
أين أقلام المسلمين تهنئ الأخوة المسيحيين بعيد الشعانين والأسبوع المقدّس والفصح المجيد؟ وأين الحكومات العربية لتقول لمواطنيها المسيحيين كل عام وأنتم بخير، فصحا مجيدا. وأين هي القوانين والتشريعات العربية التي تعتبر الأعياد المسيحية عطلة رسمية لكل المواطنين، ليس لأنّ الحكومات تعترف بمضامين عقائدية لهذا العيد، وبخاصة عيد الفصح، الذي تختلف معانيه بين الإسلام والمسيحية، بل من أجل صون حقوق الأقليات واحترام مشاعر المؤمنين وتقديرا لما قاموا ويقومون به حتى اليوم من مآثر جلى لنهضة الحضارة العربية والإسلامية. أين مراعاة مشاعر الطلبة الجامعيين الذين عليهم تقديم امتحاناتهم، في العديد من البدان العربية، في يومي الشعانين والفصح، وكأنّهما يومان عاديان مثل أيام السنة الأخرى ؟
لا نعتب على سيادة الرئيس، عميد رؤساء بني يعرب، كما يسمّي نفسه، فهو لم يتعامل مع المسيحيين سوى من باب السياسة ودهاليزها، لذلك قال ما قاله، معزّزا في بعض النفوس والضمائر ثقافة quot;إلغاء الآخرquot;. العتب هو على الأصوات التي تظهر حينا... ثم تخفت وتتلاشى عندما يكون صوتها ضروريا.
عيد شعانين مبارك...
التعليقات