العرض المحايد للدين في المناهج التربوية والتعليمية ثورة فكرية وأخلاقية وروحية وبنائية، تنم عن احترام العقل والاختيار وقبل ذلك الحرية بمجالها الجوهري، ذلك هو الحرية الفكرية.ولكن ما المقصود بالعرض المحايد هنا ؟
أقصد بذلك أن نقدم الدين، أي دين، سواء الإسلامي منه او المسيحي أو اليهودي، كذلك الاديان التي تسمى أحيانا أديانا بدائية، نقدمها للتلميذ العراقي كما هي، مستلة من مصادرها المعتبرة، المصادر المعترف بها، أو لنقل مصادرها الرئيسية، وبالاستعانة بعلماء كل دين ومذهب وملة ونحلة، بدون إي إ نتصار لهذا الدين او ذاك، لهذا المذهب أو ذاك، نقدمها مجردة من الادلة والبراهين التي يستند إليها أصحابها في نصرة دينهم أو مذهبهم أو ملتهم أ و نحلتهم.
هذا هو العرض المحايد كما أريد بيانه، أنه ليس عرضا للدعوة المسبقة، بل عرض للقراءة الإختيارية، عرض يضع الاختيار كممارسة حية، وليس نظرية وحسب، ليس كلاما فقط، بل واقع مجسّد، وليس مجرد إدعاء، وهو بلا شك منحى أخلاقي، لانه لا يتدخل بشكل مسبق.
العرض المحايد يعلم بل يربي على الموضوعية، يساهم في إنقاذنا من الحماس العاطفي للفكر والطروحات والاديولجيات والاديان، لانه يوفر أرضية خصبة للتامل والتفكير، والدين الواثق من نصوصه وخطابه وافكاره وتصوراته وطموحاته وبنوده ومتونه وتاريخه يفرض قبوله. ومن الأمثلة الناضجة التي يمكن الاسترشاد بها في العرض الموضوعي للدين، الكلمة التي ألقاها جعفر بن أبي طالب رحمه الله بين يدي النجاشي عن النبي الكريم ورسالته. لقد صعق النجاشي من تلك الا فكارا لتي طرحها جعفر حول الاسلام، كان مجرد عرض، التوحيد، والتحرر من عبادة الاصنام، وإشاعة الصدق في القول والعمل، والإ يمان بكل الرسل والانبياء، وإشاعة العدل، وتسوية الخلافات بالعدل أو الإحسان، والتسامح، والنفرة من الظلم والدم...
كان جعفر يعرض فقط، ولم يبرهن، اللهم إلا بشكل عرضي سريع، وإلا كانت مهمته تشريح القواعد الاولى لهذا الد ين الحنيف.
العرض المحايد للاديان كمنهج تربوي في المدرسة العراقية الجديدة يتحاشى التفاصيل، فإ ن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقولون، يتم عرض العناصر الجوهرية في الدين، مستلة كما قلت من المصدر الأساسي، المصدر المعترف به رسميا.

التفاصيل ليست ضرورية اصلا، فإن الطالب يمكنه أن يراجع التفاصيل خارج المدرسة، وما اكثر المصادر والوسائل والطرائق لتحصيل التفاصيل.
العرض المحايد خال من الادلة والتفاصيل، فإن إبراز أو طرح الادلة سواء من قبل كتّاب المنهج أو هي الادلة المنقولة من كتب الاديان والمذاهب والملل والنحل لا يتناسب مع العرض المحايد، مع الطرح المجرد. وبإمكان الطالب أيضا أن يستحصل على الادلة وبكل سهولة، فهي متوفرة في الكتب الدينية، أكثر الكتب الدينية تستعرض ادلتها وبراهينها على سلامة وجمال عقائدها وتصوراتها وافكارها وطموحاتها. فلماذا نورط المنهج التعليمي الديني الرسمي بذلك ؟

العرض المحايد للمادة الدينية في المنهج التعليمي والتربوي يستبعد الاستهانة باي دين، والانتقاص من كل ملة، والتهجم على أي مذهب، بل هو عرض محايد بكل معنى الكلمة، مأخوذ كما قلت من المصادر الرئيسية لكل دين، بلا تحيز أو تمييز او تفضيل، بل هي بضاعة مطروحة، مطروحة كما هي، بدون تزويق أو زخرفة، عرضا أمينا، عرضا مجردا.
العرض المحايد للمادة الدينية في المدرسة العراقية الجديدة يخلق اجواء رائعة للتعارف والتعاون والتفاهم بين العراقيين على اختلاف اديانهم ومذاهبهم ومللهم ونحلهم. يحول المدرسة العراقية الجديدة إلى نموذج للتعايش والتسامح والتفاهم بين أبناء الوطن الواحد رغم الاختلاف في الانتساب الديني والمذهبي.
إن أي استعراض لدليل أوحجة يستند إليها هذاا لدين أو ذاك المذهب هو خروج على فلسفة العرض المحايد، العرض الموضوعي، العرض العلمي الامين.
إن مهمة المنهج هي التعريف وليس الانتصار، الإراءة وليس الدعوة، نعم، دعوة لتشغيل العقل، وتفعيل الفكر، وتمكين الضمير من الحقيقة مجردة.
كم هو جميل أن يحتوي كتاب التعليم الديني او التربية الدينية على القواعد الرئيسة للاسلام، وكذلك للمسيحية، وكذلك لليهودية، وكذلك للبوذية، والزرادشتية، والبرهمية، من دون تفاصيل تثقل على العقل، والفكر، وقد تؤول إلى إشتطاط بهذا الدين أو المذهب أو الملة أو النحلة، ومن دون أدلة وحجج وبراهين ترجيحية ودعائية وإثباتية.
قد نحتاج بعض التفصيل، ولكن ليس التفصيل الذي يثقل، والذي ينطوي على دعوة مبطنة، أو دليل مستتر، بل نريد التفصيل الذي من شانه زيادة في الاطلاع على الدين، وليس من شأنه التزود بالادلة والحجج والبراهين، أي تفصيل بالمضمون وليس تفصيل بالزائد على المضمون.
نقرا الكثير من الكتب الفيزيائية الممتعة حيث تستعرض نظريات العلماء الفيزيائيين عن الضوء مثلا وذلك من دون بيان الادلة المثبتة أو النافية، كذلك نريد منهج ا لتربية أو منهج التعليم الديني، وبهذا نخلق ثورة خلقية وروحية وفكرية ونقدية كما قلت.

العرض المحايد للمادة الدينية يستوجب معلما مرشدا، يؤمن بالديمقراطية والحرية، لا يجوز للمعلم أن ينحاز في الطرح لهذا الدين أو ذاك، لهذا المذهب أو ذاك، بل مهمته استعراض المادة و القيام بتوضيحها، من دون ان يؤدي دور الداعية أ و المبشر، يصحيح الفهم، يقدم المزيد من الايضاحات، ولكن أن يتحول على محام أو داعية، يحبذ هنا ويهاجم هناك، فذاك يفسد نظرية العرض المحايد للمادة الدينية.
أعترف أن مثل هذا الطرح صعب، يحتاج إلى مستوى راق من التطور الاجتماعي، ومستوى راق من الفهم للدين، ومستوى راق من الإ يمان بالحرية و الاختيار بل ومستوى راق من الايمان بذات الدين، ولكن يجب أن نجرب، ويجب أن نبدا مهما كانت النتائج في البداية.
الدين مادة معروضة، هذا هو الدين، الاسلامي، المسيحي، اليهودي، البوذي، الزرادشتي، وهذه هي المذاهب، سنية وشيعية وكاثولكية وبروستانتية، وهكذا، وما على الطالب سوى أن يختار، بين قبول أو رفض، وربما يشمل ذلك الدين نفسه من حيث المبدأ.
هكذا نقرا المادة الدينية في مناهج الدول المتقدمة....
يتبع