شاءت لي الأقدار، أن أعاشر نوعين من المؤمنين المتشددين: بعض الخرديم من اليهود، وبعض المشايخ من العرب. عملت في مصنع للجاتوه في مدينة بيت يام الساحلية، لمدة عشر سنوات، وكان رفاقي كلهم من هذين النوعين تحديداً.
طبعاً، حاولت في البداية، لزوم التكيّف، ألا أصطدم بأحد منهم. فأنا وهم، نرى بعضنا بعضاً، أكثر مما نرى زوجاتنا وأولادنا. واستمرّ هذا الحال، بضعة شهور، ثم كان ما ليس منه بد. في البداية نشأ الخلاف في أمور دنيوية صغيرة، كنت أتجاهلها، لكي لا تُنغّص عليّ الحياة. لكنّ هذه الصغائر، وكما هو شأن البشر، حين يحشرون في مكان واحد ويتنافسون فيما بينهم، أخذت تنمو وتكبر وتتضخّم، حتى وصلت حدّ الصدام والعراك بالأيدي أحياناً، والتوقيف في مركز الشرطة القريب، أحياناً أخرى. أنا أتعامل معهم ببراءة ووضوح، وهم يقابلونني بالتواء وصنع مكائد صغيرة.
لاحظت مثلاً، أنّ الخرديم من اليهود، يحسدونني على تعلّم الصنعة بسرعة قياسية. وفوق ذلك: يحسدونني على دقتي وجَلَدي في العمل. لا بأس. فالحسد [ الذي لا أومن به بالطبع ] لا يضرّ ما لم تلحقه مكائد فعلية.

أما المشايخ، فبدأوا يضيقون بي كوني لا أصلي لا معهم ولا وحيداً.
ثم حدث أمر غريب: أجتمع الطرفان على محاربتي كوني أجادلهم وأسخر من عقلياتهم الخرافية في أحايين ليست نادرة. فبدأ كل طرف منهم على حدة، يسيء لي عند صاحب العمل.
ولما كنت مخلصاً ودقيقاً وسريعاً بل ومبتكراً في عملي، أشاح صاحب العمل وضرب بكل ما يتآمرون عرض الحائط. فهو ككل رب عمل، تعنيه المصلحة أولاً وأخيراً.

وبدل أن يرعووا. زاد غيظهم، ودخلوا في المراحل الأخطر: تدبير أخطاء قاتلة لي، كأن يتهمونني بعدم النظافة والإهمال. فيلقون لي بأعقاب السجائر فوق عجينة أنواع مختلفة من الجاتوه، قبل أن تدخل هذه إلى الفرن. ثم يشاغلونني حين تنضج وتخرج من بيت النار، فينزلون بها سريعاً، ويخبئونها، وفي وقت معلوم، يظهرها أحدهم للمعلّم، مكسوّة بالنايلون الشفاف أو عارية.
وأنا، حين يراجعني رب العمل، أستغرب وأقول بكل براءة: كيف حدث هذا لي! ربما هو التعب والإرهاق، فقد كنت أعمل أحياناً 48 ساعة بلا نوم، حين تأتي مواسم الأعياد العبرية. حيث جرت العادة والتقليد اليهوديان، أن يأكل الشعب اليهودي نوعاً محدداً من الحلوى في كل عيد. ويكون هذا الأمر مربوطاً بقصة من التاريخ اليهودي القديم.

ولقد احتجت إلى سنوات من النضج والابتعاد عنهم، حتى أكتشف أنهم هم من كانوا يلقون بأعقاب السجائر فيما أصنع، وليس أنا.
الآن، حين أسترجع تفاصيل تلك المرحلة من عمري، أتوقّف أمام أمر واحد لا غير: أمر هو جذر كل تصرفاتهم المريبة معي. والأمر هو أنهم كانوا يصدرون في كل مواقفهم عن إيمان راسخ بأنهم مالكو وحائزو الحقيقة المطلقة، وسواهم في ضلال!
أي نعم: الطرفان اتفقا على ذلك، سواء عن قصد أو غير قصد. ونتيجة لذلك، فقد كانا يستكثران على رجل دنيوي مثلي، أن يتفوق عليهم ويبزّهم في العمل والسلوك.

كنت أخوض معهم نقاشات وسجالات كثيرة حول يقينهم الديني. كنت استغرب هذا اليقين. فالحياة لا تستقيم معه. وإلا كيف يكون كل طرف منهم هو المؤمن، بينما الطرف الآخر كافر، مع أنه مؤمن هو الآخر ؟ فإذا كان الله واحداً، ونحن جميعاً مخلوقاته، فلماذا يضع هذا quot; المؤمن quot; في النار، بينما يضع المؤمن بالديانة الأخرى في الجنة ؟
كانوا يكفرون بما يقوله كل طرف منهم. لكنهم ويا للغرابة، يتفقون على تكفيري، كوني لا أؤمن بما يقولونه كلاهما.

المسلّي في الموضوع، أنه جاء حين من الدهر، عليّ وعليهم، حاول فيه كل طرف هدايتي وسحبي إلى جانبه. ففي أوقات الفراغ من العمل، كان الخرديم يأتون بحاخامهم، وندخل في نقاشات فكرية، لا تنتهي أحياناً إلا بعد منتصف الليل. كان الرجل واسمه بن يهودا، وهو بالمناسبة إشكنازي وكاتب كما أخبرني، يبذل المستحيل كي أفهم. يروح بكل جدية وسذاجة، يشرح لي مزايا الإيمان اليهودي، وقصص كبار المتدينين اليهود، على مر التاريخ. وما لهم من كرامات ومعجزات، لا تتعارض أبداً و quot; روح العلم quot;! كان يقصّ لي القصة من هذا النوع، ويختمها دائماً بالقولة الأشهر [ ماشو من اسراتيم ] أي شيء كما في الأفلام!
وأنا في نهاية السهرة، أحرص على رشوته بتورطة مخصوصة، هي فعلاً من الأفلام، فيخرج من المكان وهو يشكر لزملائه فيّ وفي أخلاقي الراقية!
الحاخام يكتفي بالتورطة، وربما يجيء من أجلها، وأنا أكتفي بالتسلية. فهو يعرف أنني أعرف. ويعرف أنه لا جدوى من إقناعي إلا عن طريق العقل لا الكرامات. لذلك كان ينهي حديثه، بجملته الأشهر أيضاً [ كول هاكفود ] أي: كل الاحترام لآرائي.
هذا مع الحاخام، أما مع التابعين له، فالأمر ظل على حاله: الكره والحسد وغيرة النسوان والغرق في الصغائر.
أما على الجانب الآخر، جانب أخوتنا العرب، فقد كان الحال مختلفاً. كانت كراهيتهم أشد وأنكى. ينظرون لي بالنظر الشزر. ويسيئون لي كلما توفرت الفرصة ( فأنا فلسطيني مسلم مثلهم، والأولى أن أقف في جانبهم ) حتى وصل بهم الشطط، أن يلقوا بمكتبتي الصغيرة [ قرابة 300كتاباً ] في المزبلة. كنت متغيباً في ذلك اليوم، وكان العمال اليهود أيضاً متغيبين، فاستغلوها فرصة، وألقوا بكتبي مع مخلّفات البيض والنايلون في صندوق القمامة الكبير. حيث جاءت بعد ساعات عربة البلدية في بيت يام، وأخذت الزبالة إلى مكان بعيد ومجهول.

عرفت هذه الحقيقة من أحدهم بعد سنوات. حين اختلف هذا معهم، وافترق عن طريقهم. قال لي إنهم اعتبروا هذه الكتب، هي ما [ أفسد رأسي ] ففكروا في حرقها، ثم اختاروا الطريق الأسهل: رميها في الزبالة. قال لي إنّ من قام بهذا الفعل الشنيع، كان يأمل في ثواب كثير من الله. وليس هذا فقط، بل إنه صلى ركعتين شكراً لله على أنّ المكان الذي ينامون فيه معي، قد صار أخيراً، نظيفاً من النجاسة.
لم أسكت أنا من جانبي. ذهبت للشرطة واتهمتهم بإعدام والت ويتمان وماركس وفرويد. لكن تدخّل رب العمل، وعلاقاته الخاصة الواسعة، أنقذتهم من الحبس. وهكذا عادوا إلى المصنع، شامتين بي وأكثر رغبة مما مضى في الإيذاء.
طبعاً، بعد أسبوع تركت العمل، غضباً ليس منهم بل من رب العمل. الذي قيل لي فيما بعد، [ أنّ الله تعالى سخّره لهم، وهو الكافر، لكي يؤازر عباده المؤمنين ].. شايفين كيف!
المهمّ: مضت الأيام، وصار بعض هؤلاء قيادات ميدانية في تنظيماتنا المتأسلمة. صاروا يحكمون وصارت لهم صولة. حتى أنّ البعض منهم يطلع الآن على الفضائيات المجاهدة، وخصوصاً فضائية الجهاد الأكبر في قطر. ما علينا. فكل شيء جائز في بلاد العربان. لكنني والحق يقال، أشعر بالأسى أحياناً. فهؤلاء القادة، الذين عشت معهم سنوات وسنوات، هم في الدرجة صفر من المعرفة ومِن [ لمَ لا نقولها ] الإنسانية!
والأهمّ، قبل أن نختم هذا المقال، أنني عرفت وعن طريق الحاخام بن يهودا إياه، وعشرات سواه من الخرديم، أنّ اليهود لا يؤمنون بالبعث والقيامة. وبالتالي فلا نار ولا جنة لديهم. لذلك فهم، على الأقل، لا يتوعدون مخالفهم بالنار وشي الجلد. فلا نار لديهم. كل ما هنالك أنّ الطيب منهم وفاعل الخير، يجازيه اللهُ بأن يبثّ الخير في نسله من بعده. أما الخبيث منهم، فيجازيه الله أيضاً بأن يبثّ الخباثة والسوء والألم في نسله بعد موته. وهكذا تنتهي كل القصة.
أما لدينا، فلا داعي للشرح. فهي قصة معروفة ومكرورة ولا نهاية لها على أية حال!
والعبرة في القول وفي المقال، التذكير بأنّ امتلاك الحقيقة المطلقة لا يوصل إلا إلى طريق واحد: طريق الفاشية والعدمية. فكل حائز للحقيقة المطلقة هو فاشي وعدمي. بغض النظر كان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أو علمانياً ليبرالياً. ذلك أنّ الحقيقة المطلقة لا وجود لها، وما هي إلا الوهم المطلق ليس غير.
لذا على المرء منا أن يراجع نفسه، وينظر إليها من مسافة معقولة، ليرى كم من الحقائق المطلقة تتحكّم في حياته: في أقواله وأفعاله. فإن وجدها كثيرة، فليعرف حينئذ أنه ليس على ما يرام. وأنّ ثمة شيئاً سيئاً في نفسيته وتحت إهابه.
أعرف أنها مهمة جد عظيمة وجد صعبة، بل تكاد تصل حدود المستحيل، فالمرء على ما نشأ عليه، والمرء ابن بيئته وابن عصره. ومع ذلك، فليحاولْ: فلنحاول!