على مدى القرون الأربعة الماضية، منذ عصر النهضة - Renaissance وحتى اليوم، قامت اليوتوبيا rdquo; بالتعبير عن إيمان أو اعتقاد البشرية في ldquo;التقدمrdquo; وفى إمكانية تحسين الوضع البشري. أما في الوقت الراهن فإن مثل هذا الإيمان (اليوتوبي) قد تبدي كحلم مغرق في الخيال مع تيار ما بعد الحداثة - Post- modern. يقول ldquo;ليوتارrdquo; - Lyotard - rdquo; أن أهم معالم المرحلة الراهنة من معالم المعرفة الإنسانية، هو سقوط النظرية الكبرى وعجزها عن قراءة العالمrdquo;.

ويقصد بها أساساً الأنساق الفكرية المغلقة التي تتسم بالجمود، والتي تزعم قدرتها على التفسير الكلي للمجتمع، ومن أمثلتها الأيديولوجيات.
من ناحية أخرى سقطت فكرة ldquo;الحتميةrdquo; سواء في العلوم الطبيعية - كما عبرت عن ذلك فلسفة العلوم المعاصرة، او في التاريخ الإنساني. من هنا يرفض أنصار ما بعد الحداثة فكرة ldquo;التقدم الكلاسيكية، التي كانت تصور تاريخ الإنسانية وفق نموذج خطي صاعد من الأدنى إلى الأعلى، فالتاريخ الإنساني قد ldquo;يتقدمrdquo; ولكنه قد ldquo;يتراجعrdquo; أيضاً.

وإذا كانت فكرة rdquo; التقدمrdquo; قد سمحت لليوتوبيين بالخوض في المستقبل، وهم على بينة من صورته، التي رأى أغلبهم أنه سيحكمها امتداد خطوط التطور، التي تسير وفق منطق معروف سلفاً، فإن انهيار هذه الفكرة في القرن العشرين بفضل عدد من الأحداث والتطورات التاريخية غير المسبوقة، جعل من العسير التجاسر بالتنبؤ بالمستقبل، فقد دخلنا في حقبة جديدة، أصبحت توصف بعدم اليقين، وعدم القدرة على التنبؤ واستكشاف المستقبل.
والأهم من ذلك هو انه إذا كانت rdquo; اليوتوبياrdquo; - في الأصل - قد استندت إلى أسس وركائز ( ترانسندنتالية) متعالية، وكانت منعكسة في أماكن خيالية بعيدة لا يدركها القياس، ثم بمرور الوقت بدأت المسافة الخاصة بهذه الأماكن الشديدة النأى، والقائمة في rdquo; اللا-أينrdquo;، تتقلص وتنكمش، وصار الخيال اليوتوبي أقرب إلى الأماكن الواقعية التي تقوم في ldquo;الأينrdquo; و ldquo;الآنrdquo; فإن انصراف اليوتوبيا عن المواضع الخيالية التي لا سبيل إلى وطئها بالأقدام، وإخفاقها في الوقت نفسه عن أن تتحقق في rdquo; الأينrdquo; و rdquo; الهناrdquo;، تكون قد وصلت - بمعناها الحداثي - إلى نهايتها؟!
ويؤكد rdquo; هيبدايج - Hedbdige : rdquo; أن ما بعد الحداثة هي الحداثة الخالية من الأحلام والآمال ( اليوتوبيا) التي مكنت البشر من احتمال الحداثة.rdquo;
لكن اليوتوبيا - رغم كل هذا - لم تلفظ النفس الأخير، فقد كتبت لها الغلبة والظفر عن طريق ما حل بالعلم والتكنولوجيا من تطورات نشطة ومذهلة في العقود الأخيرة من القرن العشرين rdquo; إذ أن التكنولوجيا صديق حميم، شديد المباطنة، عظيم الهيمنة تماماً، ليس من خارجنا، وإنما من تحت جلد بشريتنا، منذ بروميثيوس وحتى اليوم، وغداًrdquo;

فإذا كانت المعلومات منذ قرن مضي تنتقل بنفس سرعة مرافقيها من البشر، فإن المعلومات اليوم ترقي إلى مليار فقرة في الثانية الواحدة، بما يند عن أن يحاط به، حيث إن فقرة واحدة تنتقل بسرعة الضوء، ووفقا لما يقوله ldquo;لاكىrdquo; - Luky المدير التنفيذي في معامل ومختبرات At and Bell، فإن لدينا حلماً قديماً جديداً على الدوام، في أن نكون شيئاً آخر غير ما نحن عليه، ويتساءل لاكي rdquo; عما إذا كان بوسعنا أن نرتبط مع أترابنا بوسائل مبتكرة وخلاقة الكترونياً من أجل تحقيق نوع من (الحكمة الجماعية)، تفوق الحكمة الفردية وتعلو عليهاrdquo;

أليس ذلك نوعاً من الحلم اليوتوبي، في حدود الـ rdquo; الهناrdquo; و rdquo; الآنrdquo;؟! وإذا كانت أعمال rdquo; ألفين توفلرrdquo; خاصة كتابه الشهير صدمة المستقبل Future Shock. قد رسمت صورة للمستقبل كمجتمع تسيطر عليه تكنولوجيات جديدة، كما صور آثار هذه التكنولوجيات ونتائجها، فإن مارشال مكلوهان Mcluhan قد بلور تطور نظم الاتصالات الإلكترونية - منذ وقت أبكر - ورأى rdquo; أن العالم مقبل على عصر تكنولوجي جديد، يتحول بفضل وسائل الإعلام الإلكترونية إلى ldquo;قرية كوكبيةrdquo;. وتابع ldquo;جان بودريلارد - Baudrillard (مكلوهان) في كتابه Requiem for the Media عام 1981، الذي قال: rdquo; إن وسائل الإعلام تحدث ثورة بل إنها هي ذاتها ldquo;ثورةrdquo;، بصرف النظر عن محتواها، وبفضل ما تتمتع به من بنية تكنولوجية، فالأبجدية المنطوقة والكتاب المطبوع، يعقبهما الراديو والسينما وهذان بدورهما يعقبهما التليفزيونhellip;. إننا الآن، وفى هذا المكان، نعيش عصر الاتصالات الكوكبية الفوريةrdquo;.

ويخلص إلى أنه: لابد وأن يحدث تغييراً ماhellip;. إن حقبة الإنتاج والاستهلاك الفاوستي والبروميثي ( وربما الأوديبي) تحل محلها حقبة rdquo; بروتينية من الشبكات، حقبة نرجسية بالغة التنوع، وتتسم بكثرة العلاقات والاتصالات والتلامس والاستجابة والتداخل العام الذي يقترن بعالم الاتصالات. وبفضل الصور التليفزيونية تصبح أجسامنا والكون المحيط بنا بأكمله بمثابة شاشة تحكمrdquo;.
ومنذ أن نشر rdquo; مكلوهانrdquo; كتابه rdquo; العلامةrdquo; وهو مثار أخذ وردود بين النقاد المنتمين إلى ما بعد rdquo; الحداثةrdquo; ونقاد rdquo; ما بعد الحداثةrdquo; فقد تناول عالم الاجتماع الفرنسي rdquo; آلان تورينrdquo; Touraine، المجتمع ما بعد الصناعي. بوصفه مجتمعاً ldquo;مبرمجاًrdquo; بفضل تكنولوجياته، تهيمن عليه قوة تكنوقراطية، يقول ldquo;تورينrdquo;: rdquo; إن شكلاً جديداً من المجتمع يتشكل الآن، وهذه المجتمعات الجديدة يمكن وصفها بلفظ rdquo; ما بعد الصناعيrdquo; للتأكيد على الفرق بينها وبين المجتمعات الصناعية التي سبقتها. ويمكن أيضاً وصفها بأنه تكنوقراطية نظراً للقوة المهيمنة عليها، ويمكن أن نعرفها بأنها مجتمعات مبرمجة حسب طبيعة أساليب الإنتاج والتنظيم الاقتصاديrdquo;.

أما الناقد الماركسي rdquo; جيمسون - Jameson فهو ينظر إلى المجتمع rdquo; ما بعد الصناعيrdquo; من زاوية العناصر الرأسمالية، لا من زاوية rdquo; الحتمية التكنولوجيةrdquo;.
وهو يتناول الرأسمالية في مجتمع ما بعد التصنيع، والتي يسميها rdquo; الرأسمالية المتأخرةrdquo; بوصفها rdquo; شبكة عالمية جديدة لا مركزيةrdquo; وهو يذكرنا بوصف rdquo; بوديلاردrdquo; لتكنولوجيا الاتصالات المعاصرة.
يقول جيمسون: rdquo; إن عجز عقولنا البشرية - على الأقل في الحاضر - عن استيعاب شبكة الاتصالات اللامركزية متعددة الجنسيات التي تغطي كوكبنا والتي نجد أنفسنا نحيا خلالها (فرادى) تشير إلى أننا لم نؤهل بعد لفهم الطبيعة الحقيقية لما يجب أن يسمي بـ (الرأسمالية المتأخرة)rdquo;.
إن ثقافة ما بعد الحداثة - عنده هي ثقافة الرأسمالية، ومجتمع ما بعد التصنيع هو مجتمع rdquo; الرأسمالية المتأخرةrdquo; أو المجتمع الاستهلاكي، مجتمع وسائل الإعلام والإبهار، أو الرأسمالية متعددة الجنسيات.
أما الناقد الأمريكي المصري الأصل (إيهاب حسن) فقد طور أفكار ldquo;مكلوهانrdquo; الخاصة بالمدينة ما بعد الحديثة والتكنولوجيا، وتابعه في القول بـ rdquo; القرية الكوكبيةrdquo; التي ستنشأ عن تطور تكنولوجيا الاتصالات، فالتكنولوجيا خاطفة السرعة ستحل محل التكنولوجيا التقليدية وسيصبح الكمبيوتر بديلا (للوعي) أو كامتداد للوعي الإنساني.

ولخص ldquo;حسنrdquo; ثقافة ما بعد الحداثة بأنها: rdquo; تيار يعتمد على تجاوز الصبغة الإنسانية للحياة الأرضية بصورة عنيفة، بحيث تتجاذب فيها قوي الرعب والمذاهب الشمولية، والتفتت والتوحد، والفقر والسلطة وربما أدى ذلك في آخر المطاف إلى بداية ( عهد وحدة كوكب الأرض) ldquo;عهد جديدrdquo; يتحد فيه الواحد مع الكثير، ذلك لأن تيار ما بعد الحداثة ينبع من الاتساع الهائل للوعي من خلال منجزات التكنولوجيا التي أصبحت بمثابة حجر الأساس في rdquo; المعرفة الروحيةrdquo; في القرن العشرين نتيجة لذلك أصبح الوعي ينظر إليه على أنه rdquo; معلومات والتاريخ على أنه ldquo;حدوثrdquo;.

إن الانتقال من مجتمع الصناعة إلى مجتمع ما بعد الصناعة ( أو المعلومات) قد ولد نوعاً جديداً من rdquo; الوعيrdquo; يمكن أن نطلق عليه rdquo; الوعي الكونيrdquo; الذي يتجاوز كل أنواع الوعي السابقة: الوعي الوطني بكل تعريفاته من وعي اجتماعي، ووعي طبقي، ووعي قومي؛ هذا الوعي الكوني سيفرز قيماً إنسانية عامة فـ الكونية Globalism هي روح القرن الحادي والعشرين، ومما يؤكد ذلك أن تنمية شبكات المعلومات الكونية باستخدام الكمبيوتر وكذلك الأقمار الصناعية ستعمق التواصل والتفاهم بين الشعوب المختلفة، مما من شأنه أن يتجاوز المصالح القومية، والمصالح الأخرى المتباينة. من ناحية أخرى فإن الأزمات الكونية المتعلقة بنقص موارد الطبيعة وتدمير البيئة الطبيعية والانفجار السكاني والفجوات الاقتصادية العميقة في العالم، ستولد حلولاً جماعية، إذ لا تستطيع دولة بمفردها أو مجموعة دول مهما عظم شأنها أن تتصدى وحدها للمشكلات الكونية.
والسؤال الذي تطرحه هذه المنظومة الكونية المعلوماتية، هو هل هذه الرؤية ستكون خلال القرن الحادي والعشرين، يوتوبيا كلية كونية أم ستكون مجرد أيديولوجيا؟! خاصة وأن اليوتوبيا التي تبشر بها الفيزياء تأتى مغايرة تماماً للمعروف والمألوف، وبالقياس نكتشف أن اليوتوبيا السائدة بالنسبة للفيزياء الجديدة تبدو تقليدية بجدارة وهو ما دفع عالمي الفيزياء بارو، وتيبلر إلى التأكيد على أن rdquo; اليوتوبيا شرط أساسي لا زم - بالنسبة للفيزياء - حتى لا تصير الحياة خامدةrdquo;؛ فالحياة - على حد قولهما - موجودة لمنع الكون من تدمير ذاتهrdquo;
إن العلم والتكنولوجيا - برأيهما - هما أداة الحياة للتوسع والانتشار من كوكب الأرض إلى الكواكب الأخرى، لهذا فمن الممكن أن يتم التحكم في سائر العوالم التي يمكن أن تصل إليها الحياة.
وهذه الرؤية بالطبع توصل إليها العالمان من خلال تفسيرهما للنظام الحراري الديناميكي الفيزيائيrdquo;
وهى تدفعنا إلى رؤيتين، الأولى تكون فيها اليوتوبيا الجديدة (الكونية) مستقبلاً مجرد أيديولوجيا جديدة، خاصة وان العوالم أجمع تخضع إدارتها والسيطرة عليها إلى نظم المعلومات.
والثانية أن تحقق يوتوبيا ما بعد الحداثة الخاصة بمشاعية المعرفة والديمقراطية والحرية.


أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]