[ 1 ]
الثاني الثانوي : امتحان نهاية السنة. المادة هي الكيمياء، والرؤوس مُكبّة. الرجل الخمسيني يروح ويجيء والقاعة صامتة. مشهد من رهبته كأنه من الميتافيزيقا ( مشهد سيتكرر بعد ذلك في كوابيسك مئات المرات ) أنت تحاول وتحاول، ولا شيء. فجأة يخطر لك الحلّ. تمسك بورقة الأسئلة وتمزقها. الرجل القريب منك ينشده. إلا أنتَ ! فأنتَ أنجب مَن درَّسَ لهم العربيةَ طوال عمره. هكذا سيقول بعد عشر سنوات من الحادثة. تقوم وتغادر القاعة. بعد شهر، تطلع النتيجة وترسب. تفكّر في الأمر، وتبطن عدم التقدم لامتحان الإعادة.
تضيع تلك السنة. وتذهب إلى السنة الجديدة مع رفاق أصغر منك سناً. يعجبك ما فعلت. وتذهب نهائياً إلى خيار الشعر. وداعاً للتلقين ومرحباً بالكشف الذاتي وبالألم.
تمضي سنة أخرى، وتفشل مرة ثانية. وهكذا تنتهي علاقتك بالدرس والمدرّسين والمدارس إلى الأبد.
[ 2 ]
أعوام بعدد أصابع اليدين، وتنشر كتابك الأول. وأعوام مثلها وتنشر الكتاب الثاني. ثم يبدأ بعضهم في الاهتمام والسؤال. لا بأس. المهم ألا يفسدوا عليك عزلتك. والأهمّ أن تحدث الأمور من بعيدٍ لبعيد. تأتي الدعوات وسواها. وتكون حريصاً ألا تلّبي. لا لشيء في غرور يعقوب، بل لأمر أبسط كثيراً : الحياء من الناس، والرغبة القديمة في عدم اجتياز أي بوابةٍ لأية جامعة. لم تدخلها طالباً، ولا تريد دخولها تحت أي مسمّى. مالك أنت وهذا الموضوع؟
[ 3 ]
تمضي السنوات. وكما يحدث في كل الأمكنة، تلتقيهم أحياناً. دكاترة جامعيون. تحرص على وضع مسافة. يجتازونها. لا بأس من بضع مجاملات. وتنتهي القصة. لكنهم يصرّون على اقتحام عزلتك. لا لهدف غير صيد المكتبة الثمين. لا بأس مرة ثانية. فالمعرفة مشاع وملعون من يحتكرها. تقول لنفسك، وتعطيهم تعطيهم. مرض الطيبة القديم الذي لا فكاك منه. بيد أنهم لا يعيدون ما يستعيرون. ثغرة أخرى في خُلُق الأكاديمية المهلهل. ثم تكتفي بعشرات اللدغات من ذات الجحر، بعد أن تكون ارتقيتَ عتبة الأربعين، وإلى هنا تنتهي أيضاً القصة.
[ 4 ]
إلا واحد منهم. مبدع في إهاب أكاديمي. وخرّيج فرنسا. تحترمه. لكنّ السنوات والأماكن تباعد بينكما، حتى لتوشك في غير مرة أن تنساه.
ذات يوم فكّرتَ فيه، وعزمتَ حين تلتقيه أن تحذّره من خطر الأكاديمي على المبدع. مضت السنون ولم يحدث اللقاء. وفي يوم ما اتصلت طالبة من طالباته في بير زيت. فتاة في آخر الليسانس وتريد أجوبةَ على عدة أسئلة. سألتها من دلّها عليكَ فوافتك بالخبر. خجلت من رفض التعاون معها، فقط لأنها من طرفه. ووعدتها ولم تف طبعاً. بعد شهور فتاة أخرى في وضع مماثل. تلّقيت الأسئلة بالفاكس وركنتها في سلة المحذوفات. فلا رغبة ولا نزوع. ولم تنته القصة. تكرّرت بعد ذلك، من طالباته وطالبات سواه، مرات عشر وربما أكثر. وأمس، ظهيرة أمس، كلمتكَ طالبة منهن، وكنت قادماً لتوّكَ من المستشفى، فاعتذرت منها بحجة أن لا مزاج. ربما لم تستوعب الطالبة. لاحظتَ أنها استاءتْ. معها حق. معها حق.
[ 5 ]
وأنت أيضاً معك حق. هي لا تعرف ولا أستاذها، ولا زملاؤك في الغرفة ( الذين كلّموها في غيابك، وإذ حضرتَ كانوا شهوداً على المكالمة ] أيضاً يعرفون.
هم لم يمزّقوا ورقاً، ولا دفعوا ثمن تمزيق الورق.
ثلاثون عاماً، لم تفتأ تدفع الثمن. أنقذهم حظهم من دخول التجربة. ولا تعرف أنت إن كانوا محظوظين في ذلك أم سيئي الحظ والطالع. فأنت أيضاً تحتار أحياناً. هل كان لازماً أن يكسر واحدٌ مثلك القالبَ أم كان أفضل أن يسكنه ويرتاح راحة القطيع؟
يخطر لك شبح السؤال، خاصة وأنت تتأمل أولادك النائمين في الليل. ما ذنبهم؟ ما ذنبهم أن كان أبوهم كاسراً للقالب؟
[ 6 ]
تعتذر للصديق الدكتور. كما تعتذر لطالباته في سن البراءة. وكما ستعتذر في المستقبل لغيرهنّ من طلبة وطالبات الدراسات العليا. فمنذ ذلك اليوم، يوم تمزيق الورق، قبل زهاء ثلاثين سنة، كان عقلك الباطن، ومعه روحك، ومعه وعيك، ومعه كل جسدك : قد قرّروا عدم الإجابة على أي سؤال ومن أية جهة كانت إلا للضرورة القصوى. حتى لو كان السؤال من رجال الشاباك، أيام كانوا هنا وكانوا يحكمون ويفترون. لقد فضّلت دائماً هذه الطريقة في الحوار معهم : أن تُضرب وتُلكَم ويسيل من فمكَ الدمُ على أن تجيب.
[ 7 ]
تريدون معرفة جذر ومصدر كل هذه التصرفات الآن؟ إرجعوا لو سمحتم إلى أول هذا المقال، ثم ادلفوا إلى غرفة فرويد. فإن لم ترجعوا وتدلفوا فسأختصرها عليكم : كاسر القالب ليس رجل إجابات أبداً. ولا يحب هذه quot; اللعبة quot;. إنه رجل أسئلة، وفي حالتي لن يكون رجل إجابات حتى لو كان السؤال من نوع : إسمك وسنك وعنوانك ! ففي مثل سنّي الآن، كم يبدو مكرراً حتى الابتذال أن تجيب كما الآلة، على الآلات البشرية التافهة التي يسمّونها الموظفين الرسميين.
[ 8 ]
إنه اعتذار غير واجب، كما يتوجب التنبيه : أزجيه ها هنا لا عن قلة ذوق، إنما عن شيء أخطر وأبعد. فحين يعتذر مطلقٌ ما عما ألحقه بأختي الأربعينية من سرطان قاتل، وهي في كامل صحتها، سأعتذر اعتذاراً واجباً. وحين يعتذر مطلقٌ ما عن موت طفل جوعاً أو مرضاً، أو حرباً، سأعتذر اعتذاراً واجباً. وحين تكون حياتنا في العالم الثالث، بل مطلق الحياة في مطلق القارات مفهومة وعلى قدر أدنى من العقلانية، سأعتذر اعتذاراً واجباً، ليس عن هذا الأمر الهين فقط، أمر الإجابة على أسئلة لطالبة تريد أن تنجح و تأخذ الشهادة و تتوظف، بل عن أمور أجلّ وأخطر، وبالتأكيد : أبعد.
التعليقات