كانت فرصة عظيمة لي أن قمت بزيارة لمدينة السليمانية في نوفمبر من عام 2004 بصحبة القاضي العراقي الزميل زهير كاظم عبود بدعوة من الاتحاد الوطني الكردستاني،وقد تجولنا في ربوع إقليم كردستان وسط هدوء شامل، وكنا نلمس أينما تجولنا آثار الحزن التي خلفتها جرائم النظام البائد الكيماوية والمؤنفلة بحق الشعب الكردي، ولا يستطيع أي إنسان يتمتع بحس بشري أن يكبح دموعه وهو في متحف حلبجة حيث تأريخ وتوثيق لتلك الجريمة الكيماوية التي هي بحق إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية، ويروى عن المجرم علي حسن المجيد ( اسم على غير مسمى ) والأجدر به هو ( علي الكيماوي ) أن وفدا من العشائر الكردية والعربية زاره معاتبا بهذه الجرائم التي قتل فيها ما لا يقل عن مائة وثمانين ألفا من الأكراد، فقاطعهم قائلا: ( الكرد مثل العرب يحبون المبالغة، والله إن من قتلوا لا يتعدوا المائة ألف!!!)، وهذا المجرم هو تلميذ نجيب ( وليس مجيدا ) لأستاذه ومعلمه القاتل صدام، الذي لا ينكر المطبلين له أنه بدأ استيلاءه على الحكم بقتل حوالي سبعة عشر من أعضاء القيادة القطرية والقومية بتهمة التآمر مع النظام البعثي السوري، وهو من قتل زوجي ابنتيه ( حسن كامل وشقيقه ) أي أنه يتّم أحفاده الأطفال، وهو الذي قتل بيده اللواء الطيار محمد مظلو م الدليمي بطريقة لا يمكن لعتاة المجرمين أن يرتكبوها، فبعد إلقاء القبض عليه زارته وفود كبيرة من رؤساء عشائر الدليم برئاسة شيخ عشيرة البو علوان في منطقة المحاويل الشيخ محمد العلواني، ترجوه العفو عن ابنهم اللواء الطيار محمد مظلوم الدليمي، فأقسم لهم صدام بالله تعالى أنه سيعيده إلى مدينة الرمادي، وفعلا أوفى المجرم بقسمه و في اليوم التالي أعاد اللواء الطيار محمد مظلوم الدليمي لمدينة الأنبار ولكن جثة هامدة في نعش مع أوامر بعدم إقامة الصلاة عليه أو فتح بيت عزاء له، وهنا ثارت جماهير الرمادي وخرجوا يهتفون: (الله أكبر على الغادر. الله أكبر على القاتل. يسقط صدام )، وبعد يومين أرسل قوات المجرم ولده قصي وارتكبت جرائم واعتقالات واغتيالات لا تحصى في مدينة الرمادي. تقفز كل هذه الجرائم لذاكرتك وأنت في مقبرة قتلى حلبجه حيث الشواهد وعليها أسماء من قتلوا، وتزداد مرارة عند زيارة مديرية الأمن العام الصدامي في مدينة السليمانية، حيث أدوات الجريمة والقتل ماثلة للعيان، تحرك الحجارة والصخور فيصبح لها قلوب تبكي.

في تلك الزيارة لمدينة السليمانية وجوارها حظينا بلقاء الرئيس مام جلال الطالباني، و لم يتسن لنا زيارة مدينة أربيل،وقد جاءت الفرصة هذه الأيام إذ سنشد الرحال بعد أيام قليلة تلبية لدعوة quot; أسبوع المدى الثقافي الخامس quot; وهذه هي دورته الثانية التي تعقد في العراق، التي ستبدأ في التاسع والعشرين من أبريل الحالي، وتتواصل النشاطات حتى الخامس من مايو القادم، حيث ستكون النشاطات احتفالية كبيرة، وذلك بتنسيق وجهود الأستاذ فخري كريم، حيث أصبح (أسبوع المدى ) علامة مميزة في مسار الثقافة العراقية، وسوف يستضيف الأسبوع كالسنوات الماضية ( مئات من المثقفين المبدعين والشخصيات الفكرية والسياسية والاجتماعية وقادة الرأي ونشطاء منظمات المجتمع المدني من جميع المحافظات العراقية ومن المهاجر والشتات )، ومن المحطات الرئيسية في الأسبوع هذه الدورة الاحتفاء ( بالجواهري الكبيرعبر تنويعات شعرية وموسيقية واستذكارات وتلاوين من الغناء والتشكيل والفوتوغراف ). هل هناك مغزى معين من عقد أسبوع المدى الثقافي في مدينة أربيل في إقليم كردستان العراقي؟ سواء قصد المخططون لهذا الأسبوع أم لا، فأنا كضيف عربي استدعيت الذكريات والمعلومات التالية:
أولا: أربيل كمدينة كردية عراقية غنية للغاية بتاريخها الحضاري، وقد وردت في العديد من الكتابات التاريخية قبل الميلاد منذ أن كانت تسمى ( أرابيلا )بعد احتلالها من الاسكندر المقدوني، و ( أربا ايلو ) أي مدينة الآلهة الأربعة، وفي اللغة الكردية تعرف باسم ( هولير )، ويعتقد بعض المؤرخين أن أصل هذه التسمية مشتق من ( خورلير)، أي معبد الشمس نسبة لمعبد عشتار. ومن معالم أربيل قلعتها المشهورة التي ليست مجرد بناء واحد يسمى القلعة، ولكنها مساحة كبيرة تشمل مركز المدينة وأحياء أخرى، وتعتبر من أقدم المستوطنات ( المناطق السكنية المأهولة ).

ثانيا: ماذا يعني هذا الحشد الكبير من الكتاب العراقيين والعرب الناطقين باللغة العربية في مدينة أربيل الكردية التي يتحدث أهلها اللغة الكردية وأجيال عديدة تتحدث العربية أيضا؟. بالنسبة لي هذا يعني أن مطلب الفيدرالية الذي يصرّ عليه حكام وحكومة كردستان لا يعني عند ذوي النوايا الوطنية الطيبة الانفصال أو تقسيم العراق، فدول عديدة كسويسرا وكندا منذ عشرات العقود تعيش بسلام واطمئنان في ظل كونفدراليات متفاهمة إلى حد أنه في كونفدرالية كسويسرا يتحدث سكان أقاليمها ثلاث لغات هي الألمانية والفرنسية والايطالية، دون أن يمر في ذاكرة المواطن السويسري في أي إقليم مسألة الانفصال أو التقسيم، فلماذا نحن في الشرق مسكونين بهاجس المؤامرة؟ فالجانب الكردي في كل مناسبة يؤكد حرصه على وحدة العراق، فلماذا لا نأخذ هذا التأكيد على محمل الجد خاصة أنه منذ سقوط النظام البائد وتمتع إقليم كردستان بغالبية مزايا الوضع الكونفيدرالي، لم يبدر عن حكامه وحكومته أي عمل أو إشارة توحي بالرغبة في الانفصال. إن حصانة وقوة إقليم كردستان في وجه كافة القوى المجاورة الطامعة خاصة تركيا، تكمن في كونه جزءا من العراق الموحد وأعتقد أن رئيس و حكومة الإقليم يدركون ذلك ويحرصون عليه، ومن حقهم النظام الفيدرالي الذي يعطيهم الفرصة في العيش ضمن قوميتهم ولغتهم وثقافتهم، بعد سنوات طويلة من التهميش والإقصاء والمجازر المؤنفلة والكيماوية، وعلى نقيض ذلك كتب أكثر من كاتب وصحفي عراقي عربي يعبرون عن استيائهم من الشعب الكردي قائلين صراحة ( انفصلوا..لا نريدكم ).

ثالثا: إنها مسؤولية عرب العراق وكرده إزاء إشاعة ثقافة التفاهم والتسامح، فلا غنى لشعب عن الآخر، فقدرهم أن يعيشوا معا ضمن فيدرالية تحفظ حقوق الجميع وكرامتهم وأمنهم، وهذه الثقافة تتطلب أن يتخلى العرب عن نزعة التفوق والهيمنة والسيطرة والعنصرية، وأن يتحلى الكرد بقدر عال من المسؤولية فيحافظوا على حقوق كل الأقليات التي تعيش في إقليم كردستان من عرب وتركمان وغيرهم، كي يعطوا بيانا ميدانيا مطبقا معاشا مفاده ( أن الضحية لعشرات السنين لن يصبح جلادا لغيره)، وهذا يتطلب إرساء أسس المجتمع المدني القائم على حكم المؤسسات الديمقراطية، كي يقولوا للجميع لم نقاتل ونتصدى للحكام المستبدين لنستبدلهم بنظام مستبد صبغته كردية بدل العربية، ولكن قدّمنا كل هذه التضحيات من أجل هذا المجتمع الديمقراطي.

رابعا: لا بد من الاعتراف الصريح الجريء أن العديد من فعاليات الجانب العراقي العربي هي التي تحرض على الكراهية والعداء للشعب الكردي، وهذا لا يخدم مستقبل العراق بشعبيه العربي والكردي. فهل ثلاثمائة كاتب وسياسي وصحفي وناشط في مجال حقوق الإنسان ممن حضروا أسبوع المدى الثقافي العام الماضي وممن سيحضرون هذا العام ( خونة وعملاء لأمريكا والطالباني والبرزاني )،هكذا يصفهم موقع عراقي على الانترنت مع نشر القائمة بالثلاثمائة اسم كاملة، مع هجوم عنيف على الدكتور محمد المرزوقي الناشط التونسي في المنظمة العربية لحقوق الانسان، لأنه احتج على هذه ( القوائم السوداء ) حسب وصفه، ولأنه قال عن مذبحة حلبجة (وصمة عار في جبين الأمة العربية وأنه يجب علينا كعرب وحدويين أن نذهب يوما لوضع باقة زهور على ضريح الضحايا )، وكذلك هجوم خاص على العملاء: فريدة النقاش وحسين عبد الرازق و كل التجمع التقدمي الوحدوي المصري، وهل كان الكاتب المرحوم هادي العلوي خائنا عندما بكى أمام أطفال كردستان معتذرا لهم عن جرائم النظام البائد، رغم أنه كهادي العلوي لم يطلق رصاصة مع مجرمي ذلك النظام ولكن إحساسه الإنساني قاده لذلك الاعتذار.

لماذا سنذهب إلى مدينة أربيل الكردية العراقية؟

أنا شخصيا ومتأكد من نوايا العشرات من أصدقائي ممن سأكون معهم في أسبوع المدى الثقافي في مدينة أربيل، نذهب إلى هناك لنقول ونعلن للعرب والكرد:

إن الثقافة ضمن هكذا فعاليات ومحاور مطروحة في هذا الأسبوع هي طريقنا للتفاهم والإخاء،خاصة عندما نصرّو نعمل من أجل نشر ثقافة التسامح والتفاهم بديلا لثقافة العنصرية والكراهية. نعم للفيدرالية التي تعطي كل قومية حقها الكامل في حكم نفسها واستعمال لغتها والعيش في ظل تراثها وثقافتها وعلمها ضمن العراق الواحد الموحد. لا..وألف لا..لتقسيم العراق فالعراق الموحد قوة لعربه وكرده وكل القوميات والطوائف التي تعيش تاريخيا على ترابه....و إذا كان من يطلقون هذه الشعارات ويتحدثون عنها بصراحة ويدافعون عنها عملاء وخونة، فمرحبا بالعمالة والخيانة على قاعدة هذه الأسس والمبادىء والنضال من أجلها ( في مساحة مضيئة من العراق الجديد ) كما قالت الدعوة لهذا الأسبوع...ولذلك بدأنا نحزم الحقائب نحو ( الطريق إلى أربيل ).


[email protected]