أقف اليوم على مشارف الوطن الذي صار افتراضياً أكثر منه واقعياً، أتأمل حياتي التي أمضيتها هناك فلا أحمل منها في ذاكرتي إلا كل ما يمثل الوطن كله. فقد ولدت في جانب الكرخ ونشأت في جانب الرصافة من بغداد وعدت لاستقر في الكرخ، والبغدادي يتميز عن غيره كونه يمثل بوتقة الوطن المنصهرة المترفعة عن كل الشوائب. وفي العراق توزع الأراضي والدور السكنية على أساس مهني فهناك أحياء للموظفين وأخرى للمحامين وغيرها للأطباء، مما يمنح الناس جيراناً تجمعهم المهنة ولا تفرقهم الانتماءات.

وهكذا وجدت طفولتي تتفتح في مدينة الزعفرانية التي تقع في الطرف الجنوبي لبغداد على مسافة 20 كم من قلب بغداد، فما إن تجتاز معسكر الرشيد حتى تشاهد على يسار الشارع طريقا متفرعاً يؤدي الى منطقة الزعفرانية، التي وزعت دورها على المتقاعدين وذوي الدخل المحدود عام 1959 في زمن عبد الكريم قاسم مقابل سعر زهيد لا يكاد يذكر، وبطريقة تكاد تكون خيالية في عالم اليوم، فحسبما سمعت من أبي ndash;رحمه الله- أن الأسماء وضعت في كيس بينما وضعت أرقام الدور في كيس آخر، وكان يتم سحب أسم يقابله رقم فكان دارنا يحمل الرقم 348 وهذا يعني أن البيت وسط المنطقة البالغ عددها 850 داراً. وهذه الدور صغيرة تتألف من طابق واحد والبعض كان محظوظاً - ونحن منهم ndash; حين حصلنا على دار يحوي غرفة إضافية في الدور الثاني. وقدر رسمت خارطة المدينة بعناية شديدة، فكان هناك مكان للمدرسة والمستشفى ومركز للشرطة وهكذا، غير أن أزقة (درابين ومفردها دربونة هكذا نسميها) الزعفرانية دورها متقابلة تسمح بمرور سيارتين بصعوبة شديدة كانت ضيقة عدا بعضها التي نسميها الدربونة العريضة حين يتسع فضائها.

تقع الزعفرانية بعد معسكر الرشيد هذا المعسكر الذي أنشئ في الاربعينات حيث تحف بجانبي شارعه الرئيس الأشجار الباسقة، ينتصب في باب المعسكر مدفعين أحدهما على الجانب الأيسر والأخر على الجانب الأمن، ويصطف عند الباب الكبير للمعسكر بضعة جنود بملابسهم الأنيقة وشواربهم الكثة يفتشون السيارت الداخلة ويسألون الشباب عن بطاقاتهم الشخصية وموقفهم من الخدمة العسكرية، ولك أن تتصور حجم التأخير لكل من يمر بهذه النقطة إذا ما عرفت أن هذا هو الطريق الوحيد لكل من ينوي الذهاب الى جنوب بغداد، وظل هذا الأمر مستمراً حتى بني في بداية السبعينات جسر جديد بديلاً على نهر ديالى بعيداً عن جسر ديالى الحديدي الضيق المتهالك ذو الممر الواحد، فانتقلت السيارات التي تمر الى المحافظات الجنوبية الى الجسر الجديد وخف زحام طريق المعسكر، غير أن عقدة ظلت مستعصية على أهل الزعفرانية وهو أن باب المعسكر يغلق في الثانية عشر ليلا وهو ما يقتصي دخول السيارات قبل هذا الموعد بوقت يسمح بعودة سيارة الأجرة لخروجها من المعسكر قبل غلقه.
ما إن تصل السيارة الى مدخل الوعفرانية حتى تتهادى في نزولها مثل مهد طفل صغير يتأرجح، فلم يكن شارعها الرئيس معبداً، وما إن تغادر الطريق المؤدي الى المحافظات الجنوبية وتدخل الى الزعفرانية حتى تبدأ رحلة الطريق الترابي التي تقتلع الأحشاء من مكانها وتثير غباراً يملأ الوجوه بالتراب، أما في الشتاء فقد كانت السيارة تنزلق يميناً وشمالاً ولا أحد يضمن اتجاه سيرها.

ظلت (الفورتات) هي السيارت المستخدمة في نقل الأهالي وهي سيارة ميني باص تتسع لعشرة أشخاص، سائقوها من أهالي المنطقة يعرفون معظم الراكبين ويعرفونهم، ظلت هذه السيارات وسيلة النقل الوحيدة حتى دخلت الحافلة الحكومية الباص رقم (78) في العام 1969 بعد أن تم تعبيد الشارع الرئيس وكان وقتها احتفال زف فيه الوافد الجديد من قبل الصغار بالهتافات والرقص وشعر أهالي المنطقة أنه تم الاعتراف بهم بعد أن صار لمدينتهم اسم مثبت على الحافلات وهي تجوب شوارع بغداد (ساحة التحرير - الزعفرانية)
كنا من أوائل من وصل فقد كان والدي حاسماً في أموره لا يعرف التردد، وبدأت العوائل تتوافد، وجدنا دارنا في زقاق يضم 24 داراً، 12 داراً في كل جانب، ورغم مرور كل هذه السنوات أكاد أذكر تلك البيوت بأسماء أصحابها وانحدار كل منهم، فقط كلن العراق كله مجتمع في درونتنا كانوا هناك عرباً واكراداً وتركمان وعائلة مسيحية واحدة، وكان انحدار العوائل من ديالى وتكريت والعمارة والبصرة وكركوك وسليمانية، انصهرت تلك العوائل بالجيرة التي تطورت الى زواج بين العائلات المتجاورة وصار الجار هم الأهل.

[email protected]