طوال العقود الثمانية التي تلت تشكيل الدولة العراقية الحديثة، لم يحظ الأكراد بفرصة المشاركة في حكم بلدهم، بإستثناء بعض المناصب الوزارية المحدودة في ظل حكومات دكتاتورية تعاقبت على حكم العراق، وفيما عدا عضوية بضعة برلمانات ومجالس وطنية صورية في العهدين الملكي والجمهوري،لم يحصل الساسة الكرد على أي سلطة في مراكز القرار السياسي في العراق طوال العقود الماضية.


ففي البرلمانات العراقية كانت مشاركة الكرد في العهد الملكي مشاركة ممسوخة، حيث كانت تنحصر بعدد من الإقطاعيين ورؤساء العشائر ووجهاء المدن، ماعدا إستثناءات محدودة جدا في مشاركة السياسيين،فالصراعات على السلطة وتحول معظم الحكومات العراقية الى الدكتاتورية كانت تحول طوال تلك العقود دون إجراء إنتخابات حرة ونزيهة تتيح للسياسيين الأكراد الوصول الى مراكز القرار السياسي في بلدهم.


ومع وصول حزب البعث الى الحكم بإنقلاب 17 تموز عام 1968،حاولت السلطة الجديدة إستغلال الشعب الكردي الذي أقر الدستور المؤقت لعام 1958 شراكته مع العرب في الحكم، لإلباس نظامه الشوفيني الدكتاتوري ثوبا ديمقراطيا من خلال إشراك بعض الأكراد في مؤسسات الحكم!. لكن ذلك الثوب بدا فضفاضا مهلهلا يبعث على الضحك لمن يراه على قد السلطة العنصرية التي لجأت الى تلك اللعبة القذرة لتجميل وجهها العنصري الكالح بإشراك شخصيات كردية كانت في غالبيتها إما عميلة أو موالية للسلطة أو خائنة لشعبها..


حتى المراكز التي تم إحلال هؤلاء فيها كانت لا تعدو مناصب هامشية مجردة من أية صلاحية أو سلطة. وهناك نكتة طريفة تروى في هذا المجال يمكننا من خلالها إستشفاف حقيقة الدور الكردي في القرار السياسي في زمن البعث. وتقول النكتةquot; أن قريبا لنائب رئيس الجمهورية الكردي في عهد الرئيس صدام حسين أراد أن يتعين في وظيفة حكومية كفراش في مدرسة إبتدائية. فذهب الى السيد النائب عسى أن يعينه في الوظيفة، لكنه عندما أبلغه رغبته في التعيين، أجابه نائب رئيس الجمهورية: أن أمر تعيينه يحتاج الى واسطة كبيرة؟؟!!..


في ظل تلك الحكومات الدكتاتورية كان من الطبيعي أن يحرم الشعب الكردي من رجالات الدولة ومن السياسيين المعروفين على المستويات الدولية بإستثناء زعامات وقيادات محدودة جدا حجبت الظروف والمصالح الدولية أدوارهم التاريخية والقيادية في العراق، رغم أن بينهم من كانوا يضاهون إن لم نبالغ بالقول يتفوقون على العديد من الزعامات التاريخية للشعوب المجاورة.أضف الى ذلك خروج جيل جديد من الشباب الثائر بوجه الدكتاتورية في صفوف أحزاب المعارضة الكردية الذين يملكون بعض المهارات السياسية والدبلوماسية، ولكن مرة أخرى حالت المصالح الدولية المتشابكة وعدم التعاطي الدولي مع القضية الكردية دون بروز تلك القيادات الجديدة على المستوى الدولي.


بعد سقوط النظام الدكتاتوري نشأت حالة جديدة في العراق.. حالة ديمقراطية تقود الدولة نحو تأسيس نظام جديد لم يعهده العراقيون طوال تاريخيهم القديم والحديث، سواء تحت الحكومات والإمبراطوريات الإحتلالية، أو تحت الحكم الوطني. فبدأ العراق يفتح صفحة جديدة في تاريخه ترتكز على السير نحو بناء الدولة المؤسساتية ووضع أسس بناء سليمة لحياة حرة كريمة للمواطن العراقي، وذهب الأكراد الى بغداد للمشاركة في ذلك الجهد الوطني.


وسنحت الفرصة أخيرا للقيادات الكردية التاريخية والشابة أن تظهر مواهبها وخبراتها في مجال العملين السياسي والحكومي لخدمة بلدهم.ورغم أن الثمن كان باهظا،لأن الكرد الذاهبين الى بغداد كانوا ومازالوا يقفون وسط حقل من الألغام تهدد حياتهم في كل لحظة،وتحد من تحركاتهم وتمنعهم من إبراز مواهبهم وخبراتهم السياسية لخدمة العراق، مع الإحتفاظ بهويتهم الكردية طبعا.ولكنهم إستطاعوا أن يظهروا مهارة فائقة في التعاطي مع الإحداث السياسية العاصفة بالعراق من خلال عدم إلإنجرار الى الفتن الطائفية التي تشهدها بغداد والصراعات القومية الدامية التي حاولت بعض الإطراف إثارتها مجددا بهدف تقويض المسيرة العراقية نحو الديمقراطية.


تحضرني بهذه المناسبة قول مأثور سمعته من أحد القياديين الأكراد، الذي قال في مناسبة خاصةquot; لقد تحدثنا مع بعض إخواننا المسؤولين العراقيين في بغداد، وقلنا لهم لا تتصوروا أننا جئنا الى بغداد لأنها مدينة جميلة نريد التنزه في حدائقها وشوارعها، بل عليكم أن تدركوا أننا جئنا الى وسط حلقة النار المحرقة،وتركنا ورائنا كردستانا ينعم بالأمن والإستقرارquot; وأضيف أنا اليه، أن كردستان كانت ومازالت موئل السياح وقبلة أنظارهم لما تتمتع بها من جمال الطبيعة وإعتدال الهواء والمناخ المناسب، على عكس بغداد التي تحولت هذه الأيام الى جحيم زادها الإرهاب والعنف الطائفي إستعارا، لذلك قد لا نلوم بعض ساستنا عندما لا يستطيعون الخروج من المنطقة الخضراء الى وسط الناس في مثل هذه الظروف الأمنية الصعبة.


لقد برز في السنوات الأخيرة العديد من رجالات الدولة من الأكراد، فبالإضافة الى الرمز الكبير مام جلال رافع شعار ( الباقة أزهى من الوردة) كناية عن التنوع الفكري والسياسي والقومي، وهو الشعار الذي يدير به العملية السياسية في العراق من موقعه، نجد هناك الدكتور برهم صالح وهوشيار زيباري،مع عدم الإنتقاص من قدر بقية الوزراء والمسؤولين الأكراد، لكن دور هذين الرجلين والمنصبين الحساسين اللذين يحتلانه قد وضعهما في واجهة الإحداث بإعتبارهما صانعي الأحداث فعلا في هذا البلد.


فيما يتعلق بالدكتور برهم الذي توطدت علاقتي به منذ عودته الى كردستان قبل سبع سنوات بحكم عملي بمعيته عندما كان يقود الحكومة.وبحكم عملي الصحفي كنت قريبا منه ونلتقي مرارا من دون حجاب، سنحت لي فرص عديدة للتمعن في شخصية هذا الرجل من خلال قراءة أفكاره وتطلعاته وأسلوب إدارته للمواقع التي يحتلها. فهو والحق أحق به أن يقال، رجل من طراز نادر خصوصا لهذه المرحلة العصيبة من العراق الذي تتجاذبه الأهواء.


فهو أولا ليس متعصبا قوميا، رغم أنه عاش وسط مدينة كانت توصف بأنها صعبة المراس فيما يتعلق بهويتها القومية.. وهو ديمقراطي تكنوقراطي،من أهم ملامح شخصيته الإدارية المتفوقة أنه يعطيك بقدر ما يأخذه منك، شيء مقابل شيء،لهذا كان أثناء رئاسته للحكومة الأقليمية العدو اللدود للروتين والبيروقراطية والفساد الإداري وأصدر عدة قرارات لمحاربة هذه الآفات الإدارية، ولعلي أشرت في مقالاتي السابقة الى قيادته لحملة مكثفة للقضاء على الفساد الإداري في كردستان،والذي عاد ليطل برأسه من جديد بشكل أكبر وأعم في ظل غيابه، وبذلك خسرنا نحن شعب الأقليم رجلا كان يشكل لنا أملا في معالجة الكثير من مشاكلنا المستعصية مع الحكومة المحلية.


كما أن شخصيته الدبلوماسية الناجحة ترتكز على المرونة وصلابة الموقف في آن واحد.. فهو مرن عند الحاجة، ويكون صلبا ومتماسكا إزاء المقابل عندما تكون قضيته عادلة، ولا يأخذ في الإعتبار وزن المفاوض وموقعه، فهو يتحاور ويتناقش الند للند..


أما ثقافته الواسعة التي إكتسبها بذاته،وصقلها بتجربته كمدير لمكتب الإتحاد الوطني في واشنطن، فهي معروفة لمن يتابعه على الشاشات.


ومن الناحية السياسية يتمتع الدكتور برهم صالح بصفة قد لا تكون متوفرة في العديد من قيادات العراق السابقين ومعظم القيادات الحالية، خصوصا لجهة إنفتاحه الفكري.فالرجل ليس متعصبا قوميا كرديا، ويرفض بالمقابل التعامل مع المتعصبين العرب.ولعله أوضح مرارا في مقابلاته الصحفية أنه عراقي بهوية وإنتماء كردستاني صميمي، وقد لمسنا منه جهودا كبيرة فيما يتعلق بمشكلة كركوك المستعصية التي تؤرقه دائما ويضع حملها على أكتافه وهو في بغداد. فقد بذل جهدا كبيرا من أجل كركوك سواء بإقرار حق سكانها من كافة المكونات العرقية والمذهبية، أو بدفع قوانين تسهل إعتماد الحلول العملية والهادئة لهذه المشكلة الكبيرة التي ورثها سكان المحافظة من العهود السابقة، وباتت تهدد العلاقة التاريخية بين مكونات المدينة.وأعتقد أنه لولاه لكانت قضية كركوك تضيع في تعقيدات ومشاكل أكبر من تركة العهود السابقة..كما لا ننسى أيضا دوره في إعادة الجنسية الى مئات الألوف من الكرد الفيليين الذين جردهم الدكتاتور السابق من إنتمائهم العراقي الصميمي.


لو لم تسر الأوضاع في العراق بهذا الإتجاه، لكان الدكتور برهم صالح رجل المرحلة بحق خصوصا في العراق،ولأثبت قدرة السياسي الكردي في التعاطي مع القضايا الوطنية والأقليمية والدولية.


لقد عزز وجود برهم صالح وزملائه في بغداد الدور الكردي المفقود لسنوات طويلة على صعيد القرار السياسي والوطني، وهو دور رغم أنه جاء متأخرا جدا وفي ظل ظروف بالغة الصعوبة والعراق تتلاطمه الأمواج ويتهدده الإرهاب من كل حدب وصوب،لكنه يبقى دورا وطنيا يهدف الى بناء عراق جديد كما يأمله الجميع،العراق الفدرالي الموحد.

شيرزاد شيخاني

[email protected]