إعتاد المسؤولون الأتراك، منذ سقوط النظام العراق السابق في 9 أبريل 2003، على إستخدام لغة التهديد و الوعيد بحق إقليم كردستان العراق، و التحذير من مغبة إستيلاء الكرد على مدينة كركوك، و ضمها الى إقليم كردستان. و لإعطاء تهديداتها laquo; المبررraquo; الشرعي، تتخذ تركيا من وجود قوات حزب العمال الكردستاني في كردستان العراق، ذريعة، للتحذير من laquo; الكيان raquo; الكردي الصاعد، و خطره على الآمن و الإستقرار الإقليميين. بيد أن التصريحات النارية الأخيرة بين المسؤولين الأتراك، و مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان العراق، إتخذ منحى أكثر تصعيدياً، قد تترتب عنها المزيد من التوتر و تداعياته في المستقبل.
و بالرغم من أن مخاوف الأتراك، من تصاعد نفوذ الكرد العراقيين،لا تشكل أي جديد في العلاقات التركية -shy; الكردية ndash;المضطربة أساساً ndash; إلا أن توقيت التصعيد الأخير، ربما، يشير الى قرب المواجهة، و كل ذلك بسبب قرب حسم مسألة كركوك حسب الفقرة 140 من الدستور العراقي في نهاية العام الجاري، من خلال إجراء إستفتاء لتحديد مصير المنطقة الأغنى بالنقط في العراق.
رئيس إقليم كردستان العراق كان قد أكد، في وقت سابق، في مقابلة مع قناة quot; العربية quot; على رفضه للتدخل التركي في الشأن الداخلي العراقي تحت ذريعة حماية بضعة آلاف من التركمان، منوهاً بإمكانية تدخل المسؤولين الكرد العراقيين لصالح الملايين من الكرد في ديار بكر و باقي المدن. تصريحات البارزاني أثار حالة من الهيستيرية في تركيا، الأمر الذي حدى برئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان الى الرد المضاد قائلاً laquo; البارزاني تجاوز حدودهraquo; و على أن laquo; كلماته سوف تسحقهraquo;.
الساسة الأتراك يجدون أنفسهم في مأزق تاريخي، تتعدى أبعاده، فشل سياساتهم الإقليمية، لتمتد الى المستويين الأوروبي و الدولي. فقد كان لرفض البرلمان التركي، عشية بدء حرب العراق، السماح للقوات الأمريكية بالدخول الى العراق عبر أراضيها، الأثر البالغ على العلاقات الأمريكية ndash; التركية، بحيث تعرضت منذ ذلك الوقت للإهتزاز و الفتور. و نتيجة لذلك لم تجد الدعوات التركية المطالبة بكبح جماح قوات حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان العراق آذاناً صاغية لدى الأمريكان، و علاوة على ذلك قوبل الحديث التركي المتكرر عن مبادرة عسكرية لطرد المقاتلين الكرد الأتراك من المناطق الحدودية المحاذية لتركيا بالرفض الأمريكي الواضح. و لم يقتصر فتور هذه العلاقة مع الأمريكيين في المثال العراقي فحسب، و إنما بلغ ذلك الحد بحيث لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تهتم بإنضمام تركيا الى الإتحاد الأوروبي، و هو الأمر الذي يمكن ملاحظته في الأصوات المتتالية المطالبة بعدم إعطاء تركيا شرف و إمتياز الإنضمام الى الفضاء الأوروبي.
لهذا فإن إضطراب العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية ترك الأثر البالغ على دور تركيا و أهميتها في المعادلات الإقليمية و الدولية، بحيث لم تتوان القيادة الكردية في العراق عن الرد على التهديدات التركية بالمثل، بالرغم من محدودية القوة الكردية. فما كان بإمكان مسعود البارزاني تحدي الأتراك، و التهديد بالتدخل في الشأن التركي عبر بوابة الملايين الكرد لولا الدعم و التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، و التنسيق السياسي مع حزب العمال الكردستاني من جهة أخرى. فقد أكد قادة هذا الأخير في أكثر من مناسبة إستعدادهم للقتال و الزود عن إقليم كردستان فيما لو إجتاح الجيش التركي كردستان العراق. فتركيا لم تعد بإستطاعتها اللعب على وتر الخلافات الكردية ndash; الكردية، كما فعلت في السابق، عندما دعمت القيادات الكردية في كردستان العراق من أجل محاربة العمال الكردستاني، الذي كانت سياساته في بعض الأحيان تخلق الأرضية الملائمة لتدخل القوى الإقليمية في الشأن الكردي بهدف تأليب قوى كردية على أخرى.
غير أن مصلحة كردستان العراق تقتضي توخي الحذر في إطلاق التصريحات، لان من شأنها أن تعرض مكتسبات الشعب الكردي في العراق للخطر. فكردستان العراق ما هي في النهاية إلا بقعة جغرافية محاطة بدول و أنظمة معادية لصموحات شعبه في الحرية و الإستقلال. فتركيا، مثلاً، ربما تعجز عن التدخل العسكري في كردستان العراق، وتفشل في منع إجراء الإحصاء السكاني و الإستفتاء في مدينة كركوك، و لكنها لن تتوان عن إحكام حصار إقتصادي و تجاري خانق على كردستان، وهي علاوة على ذلك قادرة على إحياء تحالفاتها الأمنية السابقة مع كل من إيران و سوريا، على حساب خلافاتها التاريخية مع هذه الدول، من أجل وضع حد للطموح الكردي و تطلعاته. كما أن المواجهة الحالية، المتعلقة بالملف النووي الإيراني، ربما تدفع بمرور الدم في شرايين العلاقة الأمريكية التركية. فالدولتان تجدان في إمتلاك إيران لتكنولوجيا نووية خطر على أمنهما القومي، و الأمن و الإستقرار في منطقة الشرق الأوسط برمتها. لهذا لا بد من حساب هذه المفاجئات، و هي إفتراضات واقعية، ممكن حدوثها، لان سوف تكون على حساب الكرد، اولاً و أخيراً.
لهذا فإن من مصلحة شعب كردستان و مكتسباته، ان يجد قادته اللغة المناسبة للتعامل مع العائق التركي، و التي عليها أن تكون بعيدة عن الخطاب التصعيدي، وقريبة من الدبلوماسية الحاذقة. فتركيا تشعر و كأنها أسد جريح، مهانة و فاقدة للإهتمام، و لكنها على إستعداد لهدم كل شئ من حولها. من هنا لا بد من فهم ناصية السياسة، على أنها لغة المصالح، و المصالح فقط لا غير. فإذا كانت مصلحة الأمريكان، اليوم، مع الكرد تقتضي غض النظر عن التصعيد الكردي المقابل، فإنها قد لا تغدو ممكناً في المستقبل. لهذا من الضروري التركيز على الهدوء في العلاقة مع تركيا الى حين حسم مسألة كركوك. و إذا كانت المواجهة محسومة و حتمية، فلا بد من توريط تركيا، و لو لمرة و احدة و أخيرة، بحيث لا تخرج منها سالمة أبداً. فهل تعيد قيادة كردستان العراق قراءة حساباتها و اوراقها من جديد؟

زيور العمر