بعد طرد المسلمين واليهود من بلاد الأندلس، وتنصر من أراد البقاء فيها، وعودة المسيحية إلى سابق عهدها في تلك البلاد، وبعد توحيد اسبانيا، اجتاحتها وجارتها البرتغال حمى روايات الفروسية والبطولات الفردية الأسطورية، فشاعت أسماء (روائية) لفرسان يصارع واحدهم جيشا فيصرعه، ويهاجم منفردا مملكة فيحتلها بمؤازرة الجن والملائكة، وبما يملكه من شجاعة وبسالة وإقدام، مما ألهب خيال العوام، وسلب عقولهم، وزرع الوهم في نفوسهم، وغرس الخرافات الجنونية في أذهانهم.

أثارت هذه الروايات حفيظة ونقمة كاتب اسباني، تجاهلته الأوساط الأديبة، رغم تنوع كتاباته وتعدد مجالاته، فلم يتمتع بالشهرة حيا، ولم يسعفه الحظ في عيشه وحياته، فكانت مزيجا من التنقل والترحال، والألم والسجون والإهمال.
ذاك هو المبدع (ثربانتس) ورائعته الخالدة (دون كيشوت) التي هاجم فيها الطغيان والاستبداد، وحكام الأقاليم والولايات، وسخر من رجال الدين وأدعياء الموعظة الحسنة والتقوى، وهاجم بشدة رياء الكتاب والشعراء، وتملقهم، وأساليبهم الوضيعة والدنيئة في كسب المال، كما سخر أيضا من البطولات والشجاعة المزيفة التي سطروها في رواياتهم التي تفتقر إلى الصدق والمنطق، وتقوم على الخيال الجامح، واختلاق المواقف والمخارج التي تعتمد على الخوارق والمعجزات، كما سخر كذلك من العدالة المموهة التي سادت ذاك العصر الذي أعطى الأولوية والمراتب للمنافقين والمتملقين والمرتشين والكذبة.

أراد (ثربانتس) في روايته (دون كيشوت- البطل ذو الشخصية الكريكاتيريه)، إيقاظ العوام من غفلتهم، وتبديد الوهم الذي اكتسحهم وسيطر عليهم، فأخل بموازينهم العقلية والنفسية. كما أراد إفهامهم أن لا وجود لذلك العصر المتوهم وقوانينه، إلا في خيالهم المريض.
لم يستطع (دون كيشوت) الذي ينتمي إلى طبقة النبلاء التي ولى زمانها، ولم تعد تحظى كما كانت بالمكاسب والامتيازات، لم يستطع أن يحتمل وضعه الجديد، فتوهم أن بالإمكان بالتضحية والفروسية إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، واستعادة ما ولى ومضى، وقد رسم له خياله المريض أنه في مهمته تلك سيؤازره مدد من السماء على شكل مقاتلين من الملائكة والمردة. وإذا ما خسر معركة، وما أكثر المعارك التي يخسرها، أرجع ذلك للعفاريت والسحرة الذين يكنون له العداء ويتآمرون عليه (نظرية المؤامرة).
دون كيشوت رجل متعلم يحب المسرح، سخاؤه وأدبه مضرب الأمثال، منطقي التفكير، لكن عندما يتعلق الأمر بالبطولة والفروسية، يختل عقله ويفقد بوصلته، ويخرج عن واقعه وطوره، بسبب ما قرأه من روايات وخزعبلات وخرافات. الأمر نفسه الذي يحصل للكثير من المهندسين والأطباء وحملة الشهادات العلمية حين يتعلق الأمر بغيبيات الدين أو فتاوى أحد المتاجرين، فإنهم ينسون أو يتنكرون لكل ما تعلموه وخبروه، ويدخلون في غيبوبة الأنفاق ومتاهة السراديب.

يتوهم دون كيشوت الأشجار في الليل جنا (أزرق)، وحفيف أوراقها أصواتهم، ويتوهم طواحين الهواء مردة تعترض طريقه، كما يتوهم مثلما يتوهم المغيبون من شبابنا بفضل شيوخهم وثقافة القبور، وجود دواء على شكل خلطة من مواد تافهة خنفشارية تُقرأ عليها أدعية وابتهالات وخزعبلات، يشفي من كل علة وداء، لكن هذا الدواء لا يفيد التابعين أمثال خادمه (سنشو بنثا) لأنه لم يُرسم فارسا مثل دون كيشوت.
إن المغانم بصرف النظر عن أنواعها وأحجامها وأشكالها، كانت الدافع الأساسي لإقدام دون كيشوت، وتحمله كل أصناف الألم والشقاء والعذاب، واستعداده الدائم للتضحية بنفسه. فقد كان يتوهم- عدا عن رضا معشوقته التي لم يلتق بها- أن جائزته وثوابه عظيم، أقله مملكة يسودها.
لكن المضحك المبكي أن تابعه وحامل سلاحه (سنشو بنثا) الغبي الحالم، المعجب بسيده، والمطيع له، والموعود منه بحكم مملكة أو جزيرة، يتخوف من أن يكون سكان تلك الجزيرة التي سيحكمها من السود، فيتساءل كيف سأقبلهم وأعيش بينهم؟ لكنه يتجاوز هذه المشكلة، ويبيت النية على بيع هؤلاء المواطنين السود، وتحويل سوادهم إلى دنانير صفراء أو بيضاء ترن في جيبه.
بسبب الروايات والفتاوى التي لُقنت لهم، أو قرأوها أو سمعوها، فمسحت عقولهم وأخلت بتوازنهم، يعيش الإرهابيون والتابعون، كما عاش (دون كيشوت) خارج الزمان والمكان، ويتوهمون أنهم بتفجير أنفسهم، سيُخلدون، ويعيدون عجلة الزمان قرونا للوراء.

[email protected]