لقد ظهر الفكر الماركسي في القرن التاسع عشر كفكر منحاز للطبقة العاملة والعدالة الاجتماعية.. تبنته بعض الأحزاب في أوروبا الغربية مثل حزب العمال في بريطانيا وغيره من الأحزاب الاشتراكية الأخري..ورضت هذه الأحزاب اللعبة الديمقراطية وحاولت نشر الفكر الماركسي بالإقناع دون أن تحاول فرضه بالقوة كما فعل الحزب الشيوعي في روسيا بعد الثورة البلشفية علي يد لينين ثم السفاح ستالين من بعده.. في اوروبا الغربية نجحت الأحزاب الماركسية والاشتراكية في إفادة مجتمعاتها وزيادة العدالة الاجتماعية ومكاسب الطبقة العاملة.. بينما فشل الحزب الشيوعي في روسيا وغيرها حتي انهارت الشيوعية تماما.. فشلت الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية عبر تبنيها القهر كوسيلة لفرض فكرها فلم تخلق مقتنعين بالأفكار الماركسية بل خلقت منافقين يقولون مالا يفعلون في الخفاء ويظهرون غير ما يبطنون.. يظهرون الولاء وفي قلوبهم غل نتيجة القهر.. حتي جاءت الفرصة المواتية فانقضوا علي من قهرهم وانهارت الشيوعية تماما..في روسيا وغيرها من بلاد أوروبا الشرقية..
ونفس الشيء حدث مع الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطي نتيجة محاكم التفتيش وما حدث فيها من ممارسات بشعة باسم الدين والتطهير وصكوك الغفران ولو لم تصلح الكنيسة من نفسها وتقبل بمبدأ فصل الكنيسة عن الدولة لانهارت الكاثوليكية تماما.. وهو ما فهمته الكنيسة البروتستانتية التي كانت بدايتها مع ثورة مارتن لوثر الاصلاحية ضد قهر الفاتيكان.. ولهذا لم تمارس مثل هذا القهر الديني.. فنجحت في البقاء حتي الآن..
في بريطانيا بقي حزب العمال يتداول السلطة رغم أفكاره الماركسية حتي الآن مع حزب المحافظين.. وانهار الحزب الشيوعي الروسي تماما بعد سبعين عاما أو مايزيد من سيطرته التامة.. لأن سياسة القهر التي اتبعها خلقت منافقين وليس مؤمنين بأفكاره كما حدث مع حزب العمال..
وفي بريطانيا أيضا تظل الكنيسة قوية ولها أتباع كثيرين رغم أنها لم تقهر مفكر وفيلسوف مثل برتراند راسل أعلن إلحاده ورفضه للمسيحية.. احترمه العالم ومنحه جائزة نوبل واحترمته بلاده ومنحته أعلي الأوسمة.. رغم معارضته للحرب العالمية الأولي ومحاربته لتوغل السلطة.. ومعارضته للقنبلة النووية ومعارضته لحرب فيتنام..
ولهذا لا يوجد منافقين في بريطانيا والغرب ولا توجد أيديولوجية نفاق مثل تلك التي سادت في المعسكر الشيوعي.. وهذا هو السبب في بقاء الأحزاب الماركسية التوجه في بلاد العالم الحر وإصلاحها من نفسها.. وانهيار الأحزاب الشيوعية في المعسكر الشيوعي..
ونفس الشيء يحدث في عالمنا.. السبب الرئيسي لتخلفنا الاقتصادي والحضاري هو تفشي ثقافة وأيديولوجية النفاق.. علي المستوي السياسي للسلطة القائمة.. وعلي المستوي الديني للمفهوم السائد للدين..
تخيلوا لو ظهر فيلسوف مثل برتراند راسل في عالمنا.. هل كان سيحصل علي أعلي التقدير لو أعلن أراءه بشجاعة وحرية مثلما فعل راسل.. أم كان سيكون مصيره مثل فرج فودة.. أو علي أقل تقدير مثل نصر حامد أبوزيد ونجيب محفوظ.. الذي منعت روايته من النشر لأكثر من خمسين عاما وكادت أن تؤدي الي قتله..
استفادت بريطانيا من برتراند راسل وأفكاره حول المعرفة والتعليم..فهو بحق يعتبر أبو التعليم الحديث هناك.. وتسامحت مع أفكاره الدينية المعارضة للمسيحية والكنيسة.. فهل استفدنا في بلادنا من أفكار طه حسين مثلا العظيمة في التعليم.. هل استفدنا من أفكار علي عبددد الرازق وغيره من التنويريين..
وللأسف يزداد الأمر سوءا في القرن الواحد والعشرين..
الاسلام الحقيقي لم يكن أبدا أيديولوجية نفاق.. والله جل جلاله الذي باستطاعته أن يفرض مايشاء علي مخلوقاته لم يفعل ذلك..لأنه ليس في حاجة لمنافقين ولكنه يريد مؤمنين.. وفي محكم كتابه جادل غير المؤمنين وسمح لهم حتي بحرية الكفر و حرية الإيمان.. ولم يضع أي عقوبة دنيوية في محكم كتابه لمن يختار الكفر..بل جادلهم بالتي هي أحسن والحكمة والموعظه الحسنة.. ولكن من يدعون الدفاع عن الاسلام وهم واهمين..فهم يضرونه من حيث لا يدرون.. وعبر الحديث عن حد الردة.. ومحاولة تنفيذه.. حولوا الاسلام السمح العظيم الي أيديولوجية سياسية..أيديولوجية نفاق.. ولهذا نري النفاق مستشري في حياتنا علي المستوي السياسي والاجتماعي والديني.. إناس يهتمون بالطقوس والمظاهر الدينية نفاقا للمجتمع أكثر مما يهتمون بالجوهر..جوهر الاسلام العظيم الذي كان ثورة ضد النفاق.. ثورة ضد المألوف من نفاق القبيلة والمألوف من العادات القبلية المتوارثة..
المعارضة السياسية الحقيقية والتي تفيد بلدها.. لا توجد الا في بلاد لا تتبني أيديولوجية النفاق..
والمؤمنين الحقيقيين الذي يفيدون دينهم ووطنهم لا يوجدون الا في بلاد لا تتبني أيديولوجية النفاق ,, وتحترم فعلا وليس قولا حرية العقيدة.. حرية الإيمان والكفر..و لا تضع خانة للديانة في أوراق الهوية الشخصية الرسمية.. بلاد تسمح لمن هم مثل برتراند راسل في التعبير عن أرائهم بحرية.. ولهذا تستفيد منهم..
إن كل من يتحدث عن حد الردة ويبعثر صكوك التكفير والزندقة لكل مخالف له في الرأي.. هو متبني لأيديولوجية النفاق.. وليس الاسلام الحقيقي.. ويساعد دون أن يدري علي تفشي المنافقين في المجتمع وتفشي النفاق السياسي الذي يؤدي في النهاية الي حكومات ديكتاتورية مهما تجملت بديكور ديمقراطي.. أما من يتحدث عن حد الردة فهو في الحقيقة إرهابي ومحرض علي العنف ويجب أن يحاسب قانونا..