يبرز دور المفكر السياسي الفرنسي جان بودان Jean Bodin 1529 -1596 في تنوع معالجاته الفكرية، لا سيما وأنه عاش حقبة مخاض التحولات الكبرى الأوربية، على صعيد الارتفاع الهائل في الأسعار، والتفاعلات الجديدة التي راحت تفرض بنفسها على الواقع السياسي والاجتماعي الأوربي، حتى شهد الواقع زخما من الأسئلة المقلقة والحائرة، والتي تكون بحاجة إلى معالجات وقراءات جديدة، فكان بودان من المفكرين الذين تصدوا لمثل هذه المهمة المعقدة والشائكة، حيث يكشف تاريخه الفكري عن معالجته الاقتصادية لحانة ارتفاع أسعار البضائع، من خلال البحث في الأسباب والنتائج، وقراءة التطورات التي شهدها واقع التبادل السلعي في العالم.فيما تطلع إلى القراءة التاريخية عبر تأثره بالتجربة الرومانية ومحاولته الخروج بقانون للحركة التاريخية. ومن واقع تجربته العملية في المجال السياسي، حيث عمل نائبا في مجلس الطبقات العام، تطلع نحو كتابة مؤلفه السياسي المهم والمتمثل بـ ((الكتب الستة في الجمهورية))، والذي يمثل ذروة الاشتغال المعرفي في حقل السياسية، ملفتا الانتباه إليه بوصفه مفكرا سياسيا نابها ذو رؤى وتصورات مميزة.
الاتجاه المعرفي
كان التطلع قد تركز عند أهمية البحث في الإشكالية السياسية الجديدة التي تفرضها العلاقات الراهنة، تلك التي اعتمدها بودان وجعل منها مخلا معرفيا للخروج من المقولات التقليدية، ومن هذا وضع نصب عينيه هدفين تمثلا في محاولة تخطي المقالات التي طرحها أرسطو و ماكيافيلي في علم السياسة.و بالقدر الذي تتبدى فيه نزعة التوقير للمنجز الأرسطي، فإن النقد الصارم والمرير كان قد تركز حول مقولات ماكيافيلي، ناعيا عليه؛ توجيه المعرفة السياسية نحو مصلحة الطغاة، والوعي المنقوص بالقوانين العامة، والبعد الشديد عن أبجديات السياسة وفرضياتها الأساسية. مركزا جهوده في محاولة الربط بين الاتجاه الأخلاقي والنزعة الدينية. حيث التوكيد على مدى العلاقة القائمة بين الدولة والمواطن في وحدة الهدف المتمثل في محاولة الوصول إلى الخير المطلق.وعلى الرغم من حالة المزاوجة تلك والتي لا تخلو من توجه مثالي، فإن تأكيده في العمل السياسي كان يقوم على، أهمية الإعلاء من الممارسة بوصفها الطريق الأكيد نحو تركيز معالم المعرفة، محددا موجهاتها عبر التأكيد على الدرس التاريخي، والذي يقوم برأيه من خلال المزاوجة بين القانون والسياسة.
المنهج
يقوم المنهج البوداني على حالة الموافقة بين اتجاه العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية، بل أن حالة الربط كانت تتبدى من خلال إبراز العلاقات الأفقية من خلال الاستفادة من حالة الربط بين الطبيعي والإنساني، والعلاقات العمودية المستندة إلى الحفر التاريخي العميق، مستفيدا من مجمل التراث السياسي بدءا من أرسطو، وصولا إلى حالة التجلي والتفاعل مع التوجهات الموسوعية التي طبعت جهود المفكرين في تلك المرحلة. وهكذا تكون محاولة بودان وقد تركزت في مجال الربط بين القانون والسياسة ذلك الربط الذي أتاح له الوصول إلى منجز بحثي، قوامه التوافق بين الممارسة والفكر في سبيل تحليل إشكالية السيادة، تلك التي ارتبطت بالجهد المعرفي لبودان وبامتياز لا يقبل اللبس.والواقع أن الجهد الفكري والمعالجة المعرفية، كانت قد اتخذت المزيد من العمق القرائي، لا سيما في ما يتعلق بمسألة طبائع الشعوب، وهو المبحث الساعي إلى تفسير العلاقة القائمة بين تأثير الطبيعة على الإنسان، ومحاولة تفسير الخصائص الطبيعية للمجتمعات وتوافق الأنظمة والمؤسسات الحاكمة لها، ومدى انسجامها معها.
سيادة الجمهورية
يبرز مفهوم الجمهورية الذي يحيل إلى مفهوم الدولة، وأهمية البحث في تعريف محدد لهيكلها،ذلك التعريف الذي ينطوي على عنصرين:
1.القوة السيادية.
2.توحيد الأعضاء والأجزاء.
إلى ماذا يحيل هذان العنصران؟ هل في إبراز منطق القوة فقط، أم في طغيان فعل التوحيد.الواقع أن البحث هنا يقوم على تفعيل مجال التكامل بين العنصرين، سعيا إلى إفراد ملامح التوافق بن المقدس والطبيعي، والهدف الرئيس فيها لا يقوم على البحث عن وصفة السعادة، بقدر ما يستند إلى توسيع دالة العلاقة بين الأخلاقي والمعرفي، في سبيل تقديم عنصر التنظيم على حساب الغايات والأهداف المختلفة التي يمكن لها أن تعن على مختلف القوى المتنوعة والمختلفة.ولا يغيب عن ذهن بودان استحضار النموذج الذي يتوافق والسيادة، عبر استحضاره لطريقة تنظيم السلطة في الأسرة معتبرا إياها بمثابة الصورة الحقيقية للنظام الجمهوري.ومن هذا فإنه يشير إلى أن الجمهورية ما هي في الواقع إلا حكم مجموع من الأسر تحت سلطة سيادية راعية، قوام التوحيد فيها يستند إلى حالة الاقتران بين نموذج الجمهورية و مسألة العام، هذا الأخير الذي يتمثل في (( قانون عام، أعراف عامة، قضاء عام، أملاك عامة))، إنها السيادة التي تعبر عن نفسها من خلال القوة التي تحدد ؛ (( شكل الدولة، انسجام الدولة))
ما تفرزه الممارسة
الأمير ndash; الحاكم، في الدولة البودانية، تستند سيادتها إلى ثنائية (( الدائم والمطلق))، الدائم بمعنى السيادة المباشرة الناقضة لأي نيابة أو توكيل. والمطلق باعتبار حالة الانسجام بين المقدس والطبيعي. وبين طرفي العلاقة هذه، تكون واجبات الأمير الحاكم وقد تمثلت في :
1. الإشراف المباشر على سن القوانين التي تضمن الحقوق والواجبات للرعية.
2. القدرة على تغيير القوانيين وفق متطلبات المصلحة والتطورات التي يفرضها الواقع.
3. توكيد إرادة الأمير ndash; الحاكم، تلك التي يتم ربطها بإرادة الله ومشيئته.
العرف والقانون
في موضوعة العرف تبرز مسألة المكانة التي يحاول الأمير ترسيم معالمها، فعلى الرغم من حالة العلاقة القائمة بين العرف والقانون، إلا أن حالة التفاعل الاجتماعي التي تقوم عليها الأعراف، تجعل من مسألة ربطها وإخضاعها لآليات التغيير التي تجري على القوانين، أمر في غاية العسر، لكن بودان يحاول تسهيل هذه العلاقة على اعتبار أن من يقدم على تغيير القوانين، يمتلك القدرة على تغيير الأعراف. هذا بحساب حالة التمييز في السلطة والسيادة التي يتميز مفارقاتها في ؛ (( التبعية، الشراكة، فقدان السيادة))، إنه المبحث الذي يتطلع نحو قراءة مدى العلاقة في صناعة القرار. فإن ارتبط بقوة أعلى سيتسم بالتبعية، وإن كان الارتباط بسلطة مساوية فإنها الشراكة، أما المجالس التي تنوب عن الشعب فإن بودان يدعوها بالقوة التي تفقد السيادة.وعلى هذا الأساس فإن السيادة التي ينشدها بودان تقوم على تكريس سلطة الأمير المطلقة.
الدور المرسوم
على الرغم من الفسحة المتاحة أمام الاستشارة، والتي من الممكن أن يقوم بها مجلس من المستشارين، إلا أن تلك الاستشارة نبقى تصطدم بجدار السلطة التي تميز سيادة السيد، ومن هذا فإنها تبقى رهنا بإرادة السيد حين يرضى بها أو يرفضها، وبالقدر الذي تتجلى سلطة المستشارين عبر المجالس والهيئات في الأقاليم، لكنها هي الأخرى تكون وقد تمثلت بالدور التنظيمي، باعتبارها الوسيلة التي يتم من خلالها ربط الأطراف بالمركز، أما في حالة محاولة تلك الأطراف أن تتوجه نحو توطيد أواصر نفوذها فإن هذا يعد تجاوزا مباشرا على قسمات وملامح السيادة غير القابلة بالمساس.
القانون والحق
يرسم بودان صورة شديدة المباشرة للقانون، من خلال تركيزه بيد السيد المطلق، والذي تتمثل فيه ملامح السيطرة والتوجيه، بوصفه أمرا يدل على قوة السيد، فيما يوصف الحق باعتباره عدالة يمكن أن يتم تفسيرها وفق رغبات هذه المجموعة أو تلك. السيادة إذن هنا تتبدى في صورة القانون العام، والذي يشمل مجمل العلاقات الرئيسة التي توجه مسار العلاقات في الدولة، من خلال قرار الحرب والسلام، تعيين الضباط والقادة وكبار الموظفين في أجهزة الدولة، الإشراف العام على سن القوانين، حق العفو وربطه المباشر بسلطة السيد، القوانين المتعلقة بإصدار النقود، تحديد الضرائب الحكومية.
أنواع السيادة
يلعب مركز الدولة الدور البالغ في تحديد معالم نوع الدولة، فالقوة التي تميز المركز تجعل من النظام الملكي برازا بحساب قوة السيد، فيما تضيع قوة السيادة، في حال بروز الأنظمة الارستقراطية أو الديمقراطية، باعتبار توزع قوة السيادة بين نخبة ارستقراطية، مهيمنة تحاول التطلع نحو تكريس مصالحها، أو الغياب والتبعثر الذي تعاني منه السيادة، في حال توزيعها بين عموم الناس، حيث الاختلاف في الميول والمصالح والرؤى والاتجاهات.
تجزئة السيادة
ينطلق بودان من السؤال الاستنكاري حول، كيف يمكن تجزئة السيادة؟ تلك التي تقوم على ؛ القوة باعتبار الأوامر والنواهي، الاستئناف والمتابعة، الإجبار وتحديد الولاء، سلطة السيد الواحد عن طريق القوة الجبرية والسلاح. التجزئة هنا تعي تعدد وتبعثر قوة السيادة، مما يفسح المجال واسعا أمام الفتن والصراعات والحرب الأهلية، حيث الفوضى العارمة. وهكذا تبرز العلاقة التي يقوم بودان بإنشائها، تقوم على تركيبة العلاقة المستندة إلى :
1. سلطة القانون، تلك التي تمنح شرعية الأمير.
2. المتابعة لطريقة تنفيذ القانون
3. تحديد الولاء
4. ربط السيادة بالأمير الواحد.
التعليقات