قد تكون هذه السطور ومضات عقل مهموم، يتحمل ما لا طاقة له به . . كل فوضى الشرق وجنونه، وقد تكون مجرد زفرات نفس محزونة، ضعضعها العبث واللاجدوى.
قد تعني أي شيء لأي أحد، وقد لا تعني حتى كاتبها، بعد أن نفثها واستراح، أو خيل إليه هذا!!

اليوم الأول: اعترافات مريرة
يبدو اليوم وكأنه موعد مع مواجهة الذات والواقع، وكأن الأضواء المبعثرة العشوائية قد تحالفت لفضح ما نتآمر في صمت لتحاشيه.
فتعامل الدولة المصرية وقيادات الكنيسة الدينية مع ما حدث من تخريب غوغائي في قرية بمها ndash; العياط، قد يكشف أمام العين حقائق مذهلة، بما لا أجد معه مفراً من الاعتراف بغفلتي وسطحيتي وسوء قراءتي لواقع بلادي وكنيستي القبطية الأرثوذكسية.
أنا الذي تخصص في النظر إلى النصف الفارغ من الكوب، ما يتهمني به ناقدي وأفتخر به، فهناك نصف فارغ من الكوب، لأن أحداً ما قد قصر في أداء دوره، أو أن هناك خللاً ما في نظام ونهج حياتنا أدى إلى مثل هذا الخلل، وأنه لا بد من بحث الأمر ملياً، حتى لا يظل النصف الفارغ من الكوب فارغاً إلى الأبد.
ومع ذلك ولذلك فجريمة الغفلة من مثلي لا تغتفر.
أعرف بالطبع أن بنظامنا السياسي والاجتماعي والثقافي خللاً يحتاج لسرعة الإصلاح.
وأعرف أن خطاب الكنيسة الأرثوذكسية ونظامها ونهج إدارتها تعاني أخطاء جوهرية، يتحتم الإسراع بتداركها.
وبذلت أقصى ما يستطيع صاحب قلم من جهد في الميدانين المتداخلين، الوطن والكنيسة.
لكنني لم أتصور أبداً أن الأمور بلغت هذه الدرجة من التردي، لا في الوطن ولا في الكنيسة.
هو الجهل والغفلة لا مهرب ولا محيص كما يقولون.
لم أتصور أن الدولة المصرية العريقة قد وصلت إلى هذه الدرجة من الضعف والهوان، أن تعجز عن إقرار سيادة القانون، في مواجهة ثلة من المجرمين والغوغاء، قاموا بحرق منازل مواطنين مصريين بسطاء ومسالمين.
تشاغلت بعض الوقت بالتساؤل: هل الدولة عاجزة أم لا تريد إقرار سيادة القانون، وفي هذا الأمر بالتحديد؟
ولما لم أجد إجابة شافية، واجهت نفسي بالحقيقة، أن الأمر سيان، فقد وصلت دولتنا ذات السبعة آلاف عام من التاريخ في التحكم والمركزية إلى هذه الحال.
كنت أعلم أيضاً ndash; وإن كفرني أو اتهمني بالهرطقة الكثيرون ndash; أن القيادات الدينية للكنيسة القبطية الأرثوذكسية ndash; وعبر مراحل التاريخ- ليست هي الأمين المؤتمن على مصالح الشعب والوطن، وأن مصالحهم الشخصية وسلطانهم وتدفق الثروات إلى أياديهم هي الهم الأول والأخير لهم، مهما كانت عدد الاستثناءات في ذلك الحكم الذي يبدو متعسفاً.
لكن أن يصل الأمر إلى هذه الدرجة من اللامبالاة بالإنسان وكرامته، ومن انتفضوا بالأمس كالأسود ضد د. جورج بباوي، يجلسون اليوم في غرفهم المكيفة أو سياراتهم المرسيدس الفارهة، والصلبان الذهب تثقل أياديهم المقدسة، غير مبالين بالفقراء الذين دمرت وانتهكت بيوتهم وكرامتهم، فهذه هي الهاوية المذهلة الحضيض.
اعتراف آخر وإن كان أقل فجاجة حتمت ردود الأفعال في مصرنا الاعتراف به.
كنت أعرف أن بمصر كثيراً من المواطنين المفكرين الشرفاء من أخوتنا المسلمين، الذين لا يقبلون إلا بدولة مصرية عصرية يتساوى فيها الجميع، ويستشعر فيها كل إنسان بأنه بالحقيقة إنسان.
لكنني لم أتصور أبداً أن هؤلاء بهذه الكثرة.
هم الذين يملأون الساحة المصرية الآن احتجاجاً وتنديداً، بما يحدث من تغييب للقانون والدولة المصرية، ومن تسييد للغوغائية وشريعة الغاب.
أعترف بغفلتي.
وأدير ظهري لدولتنا التي تتهاوى.
ولقادة كنيستنا المقدسين المعظمين، ولشعبهم الغارق في السبات والخرافات والخزعبلات.
وأقول مع نزار قباني لهؤلاء وأولئك:
أرفضكم جميعكم وأختم الحوار.
لم يبق عندي لغة.
أضرمت في معاجمي وفي ثيابي النار.
أما أنتم يا رفقاء الدرب الطويل والمرير من دعاة الأنوار والاستنارة، من مسلمين ومسيحيين وبهائيين وشيعة ومن كل الألوان، فهيا بنا ننفق العمر ندفع صخرة سيزيف إلى أعلى، حتى لو تعاونت كل شياطين الدنيا على إعادتها إلى حيث كانت عند السفح.

اليوم الثاني: المجمع المقدس والصمت غير المقدس
لماذا سمي المجمع المقدس بهذا الاسم؟
هل لأنه مكون من أناس مقدسين؟
أم لأنه يناقش مواضيع مقدسة؟
إذا كانت الإجابة الأولى هي الصحيحة، فلا حيلة لنا إلا أن نتوسل إليهم أن يمنحونا بركتهم المقدسة لتكون معنا إلى الأبد . . آمين.
وأن نرسل إليهم أبناء وزوجات الذين دمرت بيوتهم في العياط، لينالوا بركاتهم المقدسة، وبهذا يضمن هؤلاء المساكين أن يدخلوا ملكوت السماوات، ليجدوا فيه النعيم، عوضاً عن حياتهم على الأرض التي تحولت إلى جحيم حقيقي وليس مجازياً.
كما ولابد أن نحتاط للمستقبل، الذي نتوقع له أن يكون جحيماً كالحاضر، فنحث المسيحيين من مختلف القرى والنجوع على التوجه إلى مقر المجمع المقدس، أو مقرات الأساقفة المقدسين، ليأخذ كل واحد نصيبه من البركة، فإذا ما حدث ودمر الغوغاء بيوتهم أو قتلوهم كما حدث في العياط أو العديسات أو أبو قرقاص وغيرها وغيرها، فإنهم يكونوا قد احتاطوا مسبقاً ببركة أسيادنا الأساقفة والمطارنة، وضمنوا التنعم في الملكوت يوم القيامة.
أما إذا كانت الإجابة الثانية هي الصحيحة، وأن المجمع المقدس مقدس لأنه يناقش أموراً مقدسة، فإنني بصفتي إنسان عادي وغير مقدس (كما يقول لاهوت الكنيسة الأرثوذكسية الجديد)، فإنني أتساءل، عن ماهية المواضيع المقدسة التي يناقشها أسيادنا المقدسين، وهل تتضمن هذه المواضيع أحداثاً تتعلق بأناس فقراء غير مقدسين، مثل أهالي قرية بمها - العياط وأمثالهم، أم أن المواضيع المقدسة هي فقط الصلاة على المياه لتتقدس، وعلى الزيت ليكون فيه شفاء للناس، وهي أيضاً جمع العشور من الشعب القبطي في مصر والخارج، بالجنية والمصري والدولار واليورو؟!
أتمنى من قداسة المقدسين أن يفتونا أدام الله قداستهم سنيناً طويلة وأزمنة سالمة مديدة، هل ما حدث في العياط يدخل في نطاق اختصاص قداستهم أم لا؟
إن كانت الإجابة لا، فلماذا لا يعلنوا ذلك، حتى يبحث هؤلاء المساكين عن أشخاص غير مقدسين ليهتموا بشؤونهم؟
وإن كانت الإجابة نعم، وكان أمر ضحايا العياط من صميم مهام قداسة أسيادنا المقدسين، فلماذا يلتزمون حتى الآن صمتاً غير مقدس، ولم نسمع لقداستهم ونيافتهم حساً؟
لعل المانع خير!!

اليوم الثالث: البابا وصحبة الكرام
مشكلة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ليست أبداً في أشخاص، إنها في فكر سائد ونظم مستقرة منذ مئات السنين، مشكلة الكنيسة أساساً في الفكر الأبوي الشمولي، الذي يحرض الأبناء أن يظلوا أسرى الآباء والأجداد، في حكم الرجل الواحد المقدس والملهم، والافتقاد إلى المؤسسات، إلى عمل وفكر المجموع، المشكلة أيضاً في الافتقاد إلى آلية التصحيح والمراجعة، وتصور أن كلمة إصلاح سبة وإهانة، بهذا نسير كالقذيفة في ذات الاتجاه مهما كانت نتائجه وبيلة، ومهما تغير الزمن من حولنا، فلا شأن لنا به لأننا في ملكوت آخر.
حين كان نظير جيد -على الهامش- في صفوف الجماهير، كان إصلاحياً وراديكالياً، ولم يكن على شاكلة من يقذفون المصلحين الآن بأقذع الشتائم بدعوى الدفاع عن الكنيسة، بل لابد أنه كان حينها في مرمى أحجار الأتقياء الشتامين، لكنه حين صار قداسة البابا المعظم شنوده الثالث، دخل النظام وتربع على قمته، فسار بوعي أو بدون وعي سيرة أسلافه، ليصل به الحال إلى أن يقول باطمئنان quot;أنا الكنيسة والكنيسة أناquot;، وإلى أن يتصور أو يدعي أنه quot;قبضة الحقquot;، ليذكرني بغريمه الراحل الرئيس المؤمن، الذي أراد أن يقود أمة ودولة حديثة بمفهوم quot;كبير العيلةquot;، وأن يتصدى للمعارضين quot;بمفرمة الديموقراطيةquot;!!

اليوم الرابع: عجيب أمر هذا الشعب
تلك العشرات من الرسائل الإلكترونية والمكالمات التليفونية اليومية، ذلك الكم الهائل من عبارات التأييد لما أكتب عن الكنيسة القبطية ولتيار العلمانيين الأقباط، كلها من أشخاص إما مصرين على انتحال اسم مستعار، أو يهمسون باسمهم الحقيقي، بعد أخذ الضمانات والتأكيدات بأن يظل طي الكتمان!!
نفس هذا يحدث مع زملائي مؤسسي مؤتمر العلمانيين الأقباط، هذا غير مئات الآلاف أو الملايين ممن يجيدون التزام الصمت إيثاراً للسلامة!!
ترى لو أن هذا العدد الهائل من الأقباط قد قرروا فجأة أن يعلنوا أسماءهم . . أن يقولوا ما عندهم دفعة واحدة، هم متفقون جميعاً على أمر واحد: أن الكنيسة لا تحتمل أن تبقى على حالها هذا طويلاً وإلى الأبد، لكنهم متفقون أيضاً على أن لا يتقدم أحد منهم، ليقول ما ينبغي عليه أن يقوله، ويفعل ما يتحتم عليه أن يفعله، ومتفقون على أن يتوجسوا وينافقوا بعضهم البعض، ربما في انتظار معجزة، فهذا شأن الأقباط!!
ربما يحتاجون إلى مجرد دفعة هينة، بضع حصوات تضرب المياه الراكدة، تتدافع المويجات وتتداخل، ليبدأوا البوح والمصارحة، عندها سوف يكتشف الجميع أن الثقة التي يتحدث بها البابا وأعوانه في المجمع المقدس ثقة لا محل لها من الإعراب، وسيتضح أمام قداسة البابا ما كان يعرفه ويصر على تجاهله، من أن القطاع الأكبر من المجمع المقدس ومئات الكهنة يساندون العلمانيين ومشروعهم الإصلاحي.
أمر عجيب أن نظل سجناء الخوف من بعضنا البعض.
أمر عجيب أن يتصرف الإصلاحيون كأقلية مرتعدة، رغم أنهم الأغلبية الكاسحة.
أمر عجيب أن نتوقف عند شعرة دقيقة، أن يقرر كل منا أن يحدث الآخر بما في قلبه وعقله، دون خوف أو تحسب.
ربما هي دفعة صغيرة، بعدها يمكن أن تشرق شمس الحداثة على كنيستنا القديمة قدم الزمن!!
[email protected]