معنى الصمت.. لماذا الصمت؟
لا نريد ان يكون لبنان او اي بلد آخر نموذجا من العراق الذبيح.. ولا نريد ان تمتد النار وسعيرها على كل الاحجار الراكدة ولا على الانهار الباردة ولا على المدن الآمنة ولا على الاحياء الآهلة والاسواق العامرة.. لا نريد ان يعيد لبنان سيرته المأساوية الاولى وان يعيد انتاج حرب اهلية اجتماعية بأيدي صنعتها قوى خارجية.. لا نريد ان تنتقل المأساة من العراق الى اي بلد آخر في الاقليم باسماء دينية اسلامية! لا نريد ان يتغلغل الارهاب المحلي بشعارات وهمية الى كل بلدان المنطقة التي باتت قابلة للاشتعال في اي لحظة تاريخية سيئة الحظ! واذا كان ابناء هذه المنطقة لم يجيدوا حتى الان اين سيقودهم مصيرهم حتى للمستقبل المنظور.. فان اشارات عدة نلتقطها من هنا او هناك تقول بأن مجتمعاتنا اليوم منقسمة على نفسها انقساما مريعا، منقسمة بين من يؤيد الجماعات والقوى الدينية الجديدة وبين قوى وطنية علمانية هزيلة لا فعل ولا تأثير لها.. وبين الاثنين تتعالى قوة السلطات في دول بكل ما تحتويه من ادوات ومال واجهزة وارصدة وذيول وهي لا ترى الا مصالحها السلطوية والسياسية الا من رحم ربك..
اليوم مجتمعاتنا صامتة صمت ابي الهول لأنها تعيش صراعا قويا بين انتماءاتها وبين واقع مأزوم، وهي لا تعلم من الذي خلق الصراع وجعله يمتد في حلقات مفرغة من كل القيم السياسية الحقيقية والاخلاقية.. اليوم لا نجد صراعات سياسية صرفة، بل غدت صراعات سلطوية وحزبية وفئوية ونفعية او بالاحرى صراعات مصالح ونفوذ وقوة ومال وسلاح واعلام.. اليوم، افتقدت القوى الوطنية من اجل ارتباطات قوى فاعلة ومؤثرة لها ارتباطاتها بدول ومراكز صنع قرار في المنطقة.. اليوم لم تعد حتى المراكز في صنع الاحداث مجرد دوائر مخابرات وهيئات بحوث واجهزة سلطات تابعة لدول وبنى معينة.. بل غدت هناك ثمة مراكز خفية لجماعات وتكتلات تعمل تحت الارض ولا علاقة لها بسياسات دول.. ان كانت هناك علاقات فهي لا ترتبط من اجل تلقي تعليمات واوامر بقدر ما ترتبط لتنفيذ توجهات ومصالح دولية معينة لكي تقبض الاثمان..
نحن اليوم في الحقيقة نعيش مأساة حقيقية لا يدرك مخاطرها الا من يفكر في خفاياها التي يعلمها كل من يراقب تطورات الاحداث في مجتمعاتنا ومواقف السلطات في كل المنطقة، بما فيها دولة اسرائيل التي لها باع كبير في صنع المأساة التاريخية للشرق الاوسط برمته! ان ما يحدث في العراق منذ سنوات وما حدث من قبله في مصر والجزائر بشكل خاص، ثم تبع ذلك كل من السعودية ولبنان ودول اخرى يمنحنا القول بأن مجتمعاتنا تواجه كارثة حقيقية لثقافة بشعة وقاتلة ومهووسة.. لا نعلم من يذكيها بمثل هذا الشكل الدموي الذي ينكّل بالشيوخ والاطفال والنساء وبالاعلاميين والصحافيين بالذات والاساتذة والمفكرين والاحرار وكل افراد المجتمع العاديين ام المهنيين او المختصين الذين يمثّلون البنية الفوقية لأي مجتمع..
المناعة بين المفكّر واللا مفكّر فيه لازدواجية ثقافة الوداعة والبشاعة:
ان ثمة ملاحظات فكرية ونقدية سياسية.. ازعم انها اساسية لابد من تسجيلها هنا من اجل ايجاد علاجات واقية ودفاعية بعيدا عن التأملات الفارغة والانشائيات العادية التي كانت وستبقى تائهة في زحام او خضم هذا الصراع المرير.. وانني اعالج هذا الذي اسميته بالمناعة بين المفكّر واللامفكّر فيه لثقافة مزدوجة عرفها التاريخ بالوداعة وقد جعلها الاسلام السياسي صورة مكروهة من البشاعة، وان مجتمعاتنا بحاجة ماسة الى اهم المعالجات التي يمكن ان يقدّمها المحايدون والامناء والاذكياء بعيدا عن ابناء المؤسسة انفسهم، فالامر لم يعد دينيا او فقهيا او عقديا.. بل انه غاية في التعقيدات السياسية والاجتماعية والنفسية والامنية والثقافية :
اولا : اللاوعي الجمعي
لا يمكن ان تبقى المجتمعات اسرى هشاشة الامن الداخلي في اي دولة اذ لا يمكن السكوت على عجز السلطات في اي دولة على انهاء هذا الصراع الذي تشهده مجتمعاتنا لأول مرة في تاريخها.. ولابد لي ان اقول بأن على المجتمعات تقع مسؤولية ومهمة القضاء على هذا الوباء الذي يستشري يوما بعد آخر باتجاه قتل الابرياء باسم جماعات دينية.. فاغلب ابناء المجتمع قد استسلم تماما لشراسة القوى الارهابية التي تعمل باسم الدين.. وما دامت تعمل بهذا الاسم فان السلطات تفابلها الصراع حفاظا على مصالحها كدولة وسلطة ولا تقابلها بالاستئصال حفاظا على كيانات المجتمع وحياة افراده كلهم.. اما المجتمع فهو مستسلم تماما لكل من الاثنين : القوى الدينية واجهزة الدولة.. بل ولا يعرف ابدا كيف تتم عمليات اذكاء الخلايا المنتشرة في كل مكان من قبل دول ضد دول اخرى بضرب المجتمع في الصميم.. ان المشكلة الحقيقية اليوم تكمن في قبول ظاهرة (الارهاب) في المجتمعات بشكل خفي غير منظور باسم الدين، والاسلام نفسه برئ بذاته من ان يستغل استغلالا بشعا ضد كل الناس وكل العالمين بهذه الطرق المخزية..
ويبدو ان مجتمعاتنا لا تفقه بأن تعريف الارهاب يتلخّص بكلمتين اثنتين لا غير، هما (قتل الابرياء).. الناس عندنا في مجتمعاتنا لا تعرف حتى يومنا هذا ان الاسلام قد اصبح ويا للاسف الشديد (اسلامات) عدة يتاجر به هذا الطرف او ذاك وبطريقة نزقة وكريهة مسكوت عنها تماما خوفا من آلية التكفير البشعة! لا يسأل المرء نفسه ابدا : لماذا كل هذه الاطياف الدينية التي تملأ كل حياتنا، ولم يعد يقتصر عملها سياسيا، بل لابد ان يستغل الاسلام السياسي استغلالا كبيرا ومهينا ومقرفا من اجل الوصول الى السلطة.. وانتم تلحظون بأن ما من قوى دينية سياسية لعبت بالحديد والنار وبكل الوسائل المحرّمة دينيا واخلاقيا حتى اذا ما وصلت السلطة تخّلت عن كل وسائلها وباتت تخاطب الناس بالقيم الاخلاقية والمواعظ الحسنة بلا اي مشروع سياسي واحد.. في حين ان مشروعيتها السياسية مستندة الى المجتمع الذي يعطيها عبثا كل شيئ من اجل الاسلام والمسلمين!!
ثانيا : الولايات المتحدة ودول اخرى
ان المحير اليوم كما تشير الاحداث المريرة منذ سنوات خلت، ان دولا كبرى خارجية واقليمية ضالعة ضلوعا مؤكدا في استخدام (الارهاب) وباسم الدين ايضا من اجل الوصول الى اهداف معينة. ان استراتيجية بعض الدول الكبرى كالولايات المتحدة الامريكية التي بدأت تحمل على ظاهرة (الارهاب) حملتها وخصوصا بعد احداث 11 سبتمبر 2001، كانت ولم تزل لها حصتها الاكبر في استخدام الظاهرة الدينية سياسيا من اجل مصالحها الدولية (ضد الاتحاد السوفييتي سابقا) والاقليمية (للحفاظ على اسرائيل حتى اليوم). ولم يقتصر الامر على الولايات المتحدة الامريكية نفسها، بل ان ثمة بعض دول اخرى في اوروبا خصوصا ضالعة في مخططات ارهابية في كل من الجزائر ولبنان ومصر والعراق.. الخ.. ناهيكم عن عدة دول اقليمية في المنطقة كانت ولم تزل راعية لعمليات ارهابية منذ ثلاثين سنة قبل ان تتخذ القوى المنفذة لبوسا دينيا باستغلال الاسلام استغلالا بشعا ضد الابرياء. ان الولايات المتحدة الامريكية في سياساتها الجديدة التي بدأت تطبقها منذ العام 1979 باعتمادها على قوى وميليشيات واحزاب دينية في التعامل مع احداث معينة وقى معينة ودول معينة (كالاتحاد السوفييتي مثلا) قد ساهمت مساهمة حقيقية في اذكاء وتطوير آليات الاسلام السياسي وجعلت منه ظاهرة كبرى في العالم الاسلامي، وكانت ولم تزل تستغله من اجل مصالحها الآنية والمرحلية والاستراتيجية.. بل واستطاعت ان تمنهج ادواته بحيث جعلت من عناصره وقواه واحزابه.. رؤساء حكومات ووزراء بل وحكومات كاملة، وهي تعلم علم اليقين انها قيادات فاشلة تماما وليس لها الا اللغو والهذيان . لقد عرفت القوى الخارجية باساليبها كيف يمكنها ان تتوغل الى اعماق المنطقة من خلال استخدام الاسلام السياسي استخداما بارعا في ايصاله الى السلطة اولا ولسحق المجتمعات ثانيا وتدمير المستقبل ثالثا. ان سؤالا واحدا يفرض نفسه علينا جميعا : هل يمكن للولايات المتحدة ان تتقبل هزائم لها في العراق على ايدي قوى اسلامية متنوعة وهي صاغرة من دون اية معالجات حقيقية للاخطاء الجسيمة التي ارتكبتها؟ هل تبقى تعيد وتزيد حول الارهاب وظاهرته وهي لا تراجع نفسها في الاسباب الحقيقية لتفاقم الظاهرة ومخاطرها؟ ما الذي تريده الولايات المتحدة من صناعة هذه الفوضى البارعة؟
ثالثا : مجتمعات تغرقها العواطف
ان الانسان لابد ان يقف مع ابناء مجتمعه وقفة حقيقية بعيدا عن سياسات دول معينة بعينها خارجية واقليمية وهو يدرك كم هو حجم مصالحها اذا ما تدخلت بهكذا طرق ووسائل!! ان مشكلة مجتمعاتنا انها لم تزل بعيدة كل البعد عن الوعي بالمصير والحياة والتاريخ والمستقبل، فكيف يمكن ان نطالبها بوعي سياسي حقيقي؟ ان مجتمعاتنا لم تزل غارقة في عواطفها وهي تعبّر عن ارادة مثلومة لا تدرك مخاطر ما يجري على الارض، فكيف بها ان تدرك ما يجري تحت الارض؟ ان مجتمعاتنا مرتهنة ارتهانا بائسا لعواطفها الدينية ومشاعرها الذاتية.. فكيف باستطاعتها ان تتخّلى عن لا وعيها الجمعي وتبني لها استقلاليتها السياسية وارادتها الحرة؟ ان صناعة الفوضى البارعة بهذا الشكل سيجعل الدول في المنطقة تعيش على برميل بارود دوما، وستنشغل المجتمعات بمآسيها التي تضرب قواها السياسية واحدتها بالاخرى.. ستنحّل كل القوى السياسية الحقيقية.. ستتخلى عن ادوارها لتنشغل بتفككها ازاء القوى الدينية التي ستبقى تكسب الشارع والمجتمع باستغلالها القداسة والنظافة والبكائية والمظلومية وكل ما يثير العاطفة المتأججة.. سيبقى الانسان مخدوعا في حياتنا العربية او اسير عواطفة او هاربا من الاعلان عن الحقيقة اذ انه اضعف من ان يقول كلمته التي تعّبر عن ارادته الحقيقية..
سيبقى الانسان ـ حتى وهو لا يؤمن ايمانا حقيقيا بغبائه ـ يعيش تناقضات لا حصر لها ابدا، فهو يعيش حياته اليوم بتفكير الماضي وهو يعالج مسائل هذا العصر باساليب الماضي.. وهو يعتقد اعتقادا راسخا بما ترسمه له مخيلته ومطلقاته من دون اي تفكير بالحقائق والمسائل النسبية.. انه يحقق هدفه الذي يعتقد انه من اسمى الامنيات من دون اي تفكير بالنتائج على الارض وبالابرياء.. انه يدرك انه يقبض من مكان ما لا يعلمها وان من ورائه دول ومؤسسات واجهزة غير بريئة ولكنه مقتنع بافكاره وكل منطلقاته البائسة. انني اعتقد بأن القضية الفلسطينية بكل مآسيها قد ساهمت اسهاما حقيقيا في اثراء الاسلام السياسي بعد الثورة الدينية منذ العام 1979 ونمو الارهاب الديني في كل من افغانسان والباكستان والجزائر.. لقد خيّبت السياسات العربية والاحزاب الفلسطينية الامال لدى الفلسطينيين الذين وجدوا في quot; الدين السياسي quot; ملاذا حقيقيا لهم في تخليصهم من المأساة ويرجع اليهم فلسطين.. في حين كان لدول اخرى في المنطقة دور خطير في اذكاء الاسلام السياسي ومّده بالمال والرجال والدعاة..
رابعا : الاعلام والمستقبل
ولم يزل الاعلام في كل من العالمين العربي والاسلامي لم يفصل حتى هذه اللحظة بين الاسلام الحقيقي والسياسي، فكان ان تبلورت على السطح quot; اسلامات سياسية quot; عديدة تقاتل احداها الاخرى.. وتستغل هذه اهداف دولة معينة ضد دولة اخرى.. بل وانتجت في المرحلة الاخيرة الظاهرة الطائفية بكل بشاعتها ومآسيها على مجتمعاتنا.. اننا اليوم ندخل تاريخا مأساويا من الصراع والانقسام ونحن لا ندرك الاسباب جميعها التي اودت بنا الى هذا المصير.. ومجتمعاتنا لا تدرك كيف الوصول الى اهدافها الحقيقية بالوسائل والادوات الصحيحة..
ان غيبوبة التفكير المدني والعمل من اجل المصالح الخاصة والفئوية.. بل وانهيار القيم الوطنية وتبدد الاجماع الوطني بما حدث من انقسامات وتشرذمات وغدا كل طرف يحتكر الوطن له ضد الطرف الوطني الاخر.. بل وان الانتصارات التي يحققها هذا الطرف ضد قوى محتلة او غاصبة لا تعبر عن انتصارات وطنية بقدر ما تعبر عن منجزات فئوية او طائفية او حزبية.. ان اقحام الاسلام السياسي على مجتمعات متنوعة وهي مسلمة وغير مسلمة اقحاما دمويا وخصوصا على مجتمعات عاشت عبر تاريخها تجارب مدنية قد اوصلنا الى هذا النفق الذي لا يمكن الخروج منه بسهولة ابدا. ان مستلزمات الخلاص لا يكفيها ابدا ما يقوله هذا او ذاك من المفكرين والكتّاب.. بل انها بحاجة الى ان تبّدل كل دولنا سياساتها الاعلامية واستراتيجياتها التربوية.. ان كلا من التربية والاعلام اليوم يعدّ من الاركان الحقيقية في بناء المستقبل.
وأخيرا : متى نشعل ضوءا اخضر عند نهاية النفق؟
ان مستقبلنا لا يمكن ان يبقى رهينا بأيدي مثل هذه الاحزاب والميليشيات متعددة الارتباطات متنوعة الخفايا التي ستفاقم من تناقضات المجتمع ومآسيه.. ان تجارب شعوب اخرى قد نجحت نجاحا باهرا في غضون سنين من دون ان تتشرذم ومن دون ان يطبق عليها وعي زائف او لاوعي بليد وقد تخلّصت من تناقضاتها. فهل يمكن ان نتواضع قليلا لنتعلم من تلك التجارب كثيرا؟ هل يمكن لدولنا كافة ان تعمل على تغيير كل تقاليدها الخاوية التي اوصلتنا الى هذا الخراب؟ هل من مجابهة حقيقية لمخططات خارجية لا تنفعنا ابدا وقد اثبتت التجارب انها فاشلة، بل وانها ماضية في صناعة الفوضى البارعة؟ هل لنا من ثورات علمية وتربوية وسياسية واعلامية يقودها بشر سوي له القدرة على التغيير الحقيقي؟ هذا ما آمل تحقيقه في قابل!
التعليقات