الفظائع اليومية التي تجري في مسلسل دموي طويل على أرض العراق المنكوب هي واحدة من أسوأ ظواهر التردي و الضياع في تاريخ المجتمعات البشرية، ووصول المجتمع العراقي لهذه الدرجة من الوحشية و الخروج عن كل قوانين العقل و المنطق وحتى الأديان و الشرائع هو تعبير عن فشل قيمي و تاريخي و إجتماعي خارق للعادة و خارج عن كل ما هو مألوف، فسيادة الروح الطائفية المريضة و القيم العشائرية المتخلفة قد جعلت العراق بأسره على هامش الحضارة و التحضر و حتى الإنسانية، و الأمراض النفسية و السلوكية التي ترسخت و طبعت مسيرة العراق الدامية منذ سقوط نظام الحزب الواحد الفاشي في ربيع 2003 قد أضحت اليوم هي التي تقود العراقيين بإمتياز نحو الجحيم، فبعد عقود طويلة من التسلط الفاشي البعثي الذي كان يبشر بنشر ثقافة قومية و إشتراكية ووحدوية و بناء مجتمع عربي قومي موحد شبيه بالشعار النازي الشهير (شعب واحد.. قائد واحد)!! كان مصير ذلك النموذج البعثي الفشل الذريع و المخزي بعد أن فشلت كل شعاراته و تلاشت مع أنواء العواصف الطائفية و العشائرية لأنها شعارات خيالية لم تبن على ركائز مجتمعية و ثقافية عصرية و متينة بل كانت شعارات تتماهى و طموح قيادات حزبية فاشلة معبئة بقيم طائفية و عشائرية مريضة لم تبن المجتمع المنشود بل بنت نموذجا عدوانيا و رسخت سياسة مريضة هدفها عسكرة المجتمع العراقي و العودة به لعصور الغزو و النهب و التخلف و التفاخر العشائري و توج بعد عام 1994 بنشر القيم الطائفية المريضة و تشجيع التوجهات الدينية بجوانبها العدوانية مما خلق تحزبات طائفية و مواقع متمترسة للتوتر الطائفي تبينت نتائجها مباشرة بعد سقوط النظام القمعي و بروز حالة الفراغ القيادية لمجتمع تعود على الإنصياع خلف سلطة قاهرة، فعادت إلى الحياة كل صور التخلف التاريخية التي توارت خلف غبار الزمن و لكنها لم تختف بالكامل، و قد ترافق ذلك مع تدخلات عنيفة لأطراف خارجية تمتلك المشروع و المال و العناصر مستغلة حالة الشقاق و النفاق العراقية و مؤسسة لعناصر تطرف كانت غريبة على المجتمع العراقي الحديث الذي نشأ منذ قيام المملكة الهاشمية العراقية في عام 1921 وفق قواعد بناء وطنية و قومية إرتفعت خلالها المعارضة اليسارية و توارت الجماعات الطائفية و الدينية المتعصبة التي لم يكن لها حضور في الواقع العراقي إلا بعد مرحلة الثمانينيات التي شهدت مدا طائفيا بين السلطة الحاكمة وخصومها دون أن ينعكس ذلك الصراع لمستوى التصفيات الدموية المؤسفة بين مكونات الشعب الواحد وهو الأمر الذي تحقق مع هيمنة الأحزاب الطائفية و الدينية من كلا الطائفتين الكبيرتين (السنة و الشيعة)، فالحزب الإسلامي العراقي (سنة) كان قد ظهر في الستينيات وفي عهد اللواء عبد الكريم قاسم و لكنه لم يكن يحظى بشعبية لدى أوساط السنة!، أما الأحزاب الشيعية و أبرزها (حزب الدعوة) الذي تأسس أواخر العهد الملكي (1956) فقد كان محدود الإنتشار إلا في الأوساط الدينية و الحوزوية الضيقة فغالبية شباب الشيعة كانوا من المناضلين في صفوف الحزب الشيوعي العراقي و الجماعات اليسارية الأخرى و لم تكن الآراء الدينية أو الطائفية ذات شعبية بسبب عوامل إجتماعية و إقتصادية معروفة للجميع، لذلك لم تكن الخلافات و الفروق المذهبية و الطائفية تمزق المجتمع العراقي لوجود هم وطني مشترك يتمثل في الصراع من أجل العدالة الإجتماعية و نظام أكثر حداثة مع تأثر واضح بالصراعات الدولية و قضايا الحرب الباردة و ملف العالم الثالث ثم ظهور و تبلور الفكر القومي العربي من خلال نظام جمال عبد الناصر في مصر و الأنظمة الإنقلابية التي تأثرت بدعاياته كما حصل في العراق و مصر و ليبيا و الجزائر و جنوب الجزيرة العربية، وقتها في العراق لم يتعرض أحد لمحاسبة أحد على مذهبه الطائفي بل على خطه السياسي و موقفه من قضايا الوحدة العربية أو الإشتراكية بكل مدارسها الأممية أو القومية (الإشتراكية العربية)!!، و بعد أن جاء النظام البعثي للعراق في صيف 1968 تبنى شعارات مزينة بالعدالة الإجتماعية و الوطنية و القومية و رفع شعار معروف كان يقول :
(لا طائفية و لا عشائرية.. في عراق البعث)!!
و كان هذا الشعار الجميل مجرد يافطة براقة يزين فيها النظام وجهه القبيح المرتبط بمجازر عام 1963 ضد اليسار العراقي و الشيوعيين منهم على وجه التحديد الذين تعرضوا وقتها لحرب إبادة شبه شاملة لم تكن بعيدة عن ملامح تصفية طائفية فقد كانت قيادة الشيوعيين العليا بيد مناضلين كانوا ينحدرون من أصول شيعية كالمرحوم (سلام عادل / حسين محمد الرضي)! أو الشبيبي.. و غيرهم وقد إستفاد البعثيون وقتها خير إستفادة من فتوى المرجع الأعلى الشيعي وقتها (محسن الحكيم) و القائلة بكون (الشيوعية كفر و إلحاد)!! ليضربوا ضربتهم ضد خصومهم العقائديين بسيوف الدين و العقيدة!! رغم كون البعث حزب علماني كما يفترض!!!، المهم أن الطائفية في عهد البعث الثاني جاءت تحت لباس عشائري متخلف عبرت عنه هيمنة العشيرة الذهبية الحاكمة المنحدرة من تكريت (البيجات) على كل مفاصل السلطة العسكرية و المدنية و بدأ بتحجيم المؤسسة الدينية سنية كانت أم شيعية و فرض هيمنة العشيرة من خلال الحزب و شعاراته و عناوينه...
ومعروفة بقية قصة النظام البائد والصراعات التي حكمت مسيرته و التحولات التي عاشها حتى يوم سقوطه.. و تلك قصة أخرى مختلفة بالمرة، المهم أن النظام البائد في أخريات أيامه و بعد إفلاس شعاراته القومية عاد للعبة الطائفة و الدين و نجح في تهميش الفكر الشعبي العراقي بفعل الحروب التي جعلت من الإنسان العراقي مجرد مشروع للقتل أو الموت أو كما قال صدام المشنوق وقتذاك : (العراقي مشروع شهادة)!!!...
اليوم تعقدت القضية السياسية في العراق بفعل توالي الفشل السياسي و قدوم أحزاب تجاوزها الزمن للسلطة لا تحمل أي فكر حداثي و لا مشروع حضاري أو تنويري سوى البضاعة الطائفية الرخيصة أو الإغراق في الدروشة و التصورات الخيالية المفرطة لمجتمع فاضل لا وجود له على أرض الواقع، لقد تم إختزال الوطن بأسره في كل مكوناته بطائفة معينة أو بمصالح سياسية و عشائرية ضيقة و إلا فهل من المعقول أن تسترخص الدماء البشرية و الأرواح و تنصب المجازر و المشانق كلما أقدمت جهة مجهولة على تفجير مسجد ما أو تفخيخ حسينية ما ليكون الرد بتفجير مساجد أخرى و قتل أبرياء آخرين بل أن العنجهية و الوحشية قد وصلت لإستحضار كل صراعات التاريخ الإسلامي المنسية ليعاد إحياؤها في صورة مريضة و مفجعة كما حصل في تفجير قبر الصحابي (طلحة بن عبيد الله) في الزبير في البصرة!! و الذي جاء كرد فعل لتفجير أضرحة الإمامين علي الهادي و الحسن العسكري في سامراء وهو العمل البربري الذي تتحمل السلطة العراقية وحدها مسؤوليته، لأن هذه الحكومة فشلت في كل المهام الأمنية أو الحياتية و هي ليست خبيرة إلا في الكلام و الشعارات و تصور المؤامرات الوهمية، و فشل المالكي هو إمتداد أصيل لفشل سلفه الصالح مولانا إبراهيم الجعفري الذي شهد عهده إنتكاسات أمنية رهيبة لم يتم حل طلاسمها حتى اليوم!، فقضية جسر الأئمة التي ذهب ضحيتها آلاف الفقراء من الشيعة لم يعرف المسؤول عنها حتى اليوم، و التفجير الأول لأضرحة سامراء لم يتم الإعلان عن مسؤولية طرف واضح ؟ و العديد من قضايا الخطف الشامل و القتل على الهوية و الجثث المجهولة لم تعرف حقائقها حتى اليوم؟؟ و لم تنجح الأحزاب الدينية و الطائفية سوى في إنعاش بضاعة الطائفية النتنة و تمزيق الشعب العراقي بل تجويعه من خلال اللجوء المتكرر لمنع التجول، و تفجير ضريح الصحابي طلحة بن عبيد الله لا تتحمل القاعدة مسؤوليته طبعا!! بل يتحملها شلة العصابات من أمثال (ثأر الله) و (بقية الله) و (سيد الشهداء).. فأين الحكومة العراقية ؟ و أين سلطات المحافظة و مجلسها المترف المتمتع بسيارات الدفع الرباعي الأميركية ؟... لم تعد عمليات الإدانة تكفي فهي فضيحة شاملة تؤشر على حالة الفشل التام و الشامل... لا سبيل للمالكي سوى الرحيل و ترك المجال للأطراف القادرة على منع قيام (معركة جمل) جديدة في العراق... الطائفيون يقودون العراق بكل جدارة نحو الجحيم.. فمع كل قبر ينفجر تقبر آلاف الأرواح البريئة... إنه الفشل الذريع حين يكون الراعي عدو الغنم!!!.
التعليقات