وخزة لكنها مؤلمة من (هيومان رايتس ووتش)

منذ عشرات السنين يناضل الشعب الكردستاني من أجل نيل حريته وحقوقه الإنسانية المشروعة،ويكافح دون هوادة لرفع الظلم والإضطهاد عن بلده وتحقيق أحلامه في بناء مجتمع ديمقراطي حر يستظل تحت خيمته بالعزة والكرامة..وعلى هذا الأساس أعطى هذا الشعب ثقته الى القيادة السياسية الكردستانية بعد إنتفاضة عام 1991 لتشكيل كيانه السياسي القائم على الإدارة الذاتية، وفق عقد سياسي يهدف الى حماية الحرية المتحققة وإحترام الحقوق الإنسانية لهذا الشعب. وبناء على ذلك فإن أي إنتهاك لتلك الحقوق والحريات وبأية ذريعة كانت، يعتبر إخلالا بذلك العقد السياسي المبرم بين الطرفين، سيؤدي في المحصلة الى تأزيم العلاقة بين السلطة والمواطن وبالتالي الى إفقاد الثقة بينهما.


للأسف برزت في الفترة الأخيرة بعض المظاهر السلبية التي أضعفت ثقة المواطن الكردي بسلطته، وتعتبر تراجعا من تلك السلطة عن إلتزاماتها تجاه تحقيق الحريات وحقوق المواطنين، وهي مظاهر شوهت صورة كردستان أمام الرأي العام العالمي،وقد تفقد لاحقا التعاطف الدولي مع المطالب المشروعة للشعب الكردي،فإنتهاكات حقوق الإنسان والفسادين الإداري والإقتصادي في مفاصل إدارة الإقليم وعدم الإلتزام بمعايير العدالة، هي بمجملها عناوين عريضة لتلك المظاهر السلبية..


إن التقرير الأخير لمنظمة مراقبة حقوق الإنسان (هيومان رايتس ووتش) والتقارير الأخرى التي سبقته من وزارة الخارجية الأمريكية وتقرير الأمم المتحدة حول العراق الذي كرست أجزاء منه لرصد إنتهاكات حقوق الإنسان وعدم إحترام الحريات الديمقراطية في إقليم كردستان، تدل على وجود إهتمام دولي بالوضع في الإقليم ورقابة دولية صارمة لما يجري فيه.


إن إنتشار أخبار الفساد في كردستان بالصحافة العالمية يكفي لوحده ليس لتأزيم العلاقة بين السلطة والشعب في كردستان فحسب، بل بين أكثر أنظمة الحكم أمنا وإستقرارا وبين شعوبها، هذا بالإضافة الى أن إنتقادات العالم الديمقراطي لما يجري في كردستان سيجر معها إضعاف الدعم الدولي لقضية الشعب الكردستاني التي ما زالت تواجه أخطارا وتهديدات من عدة جبهات.


وكما نعلم فإنه على الرغم من أن تجربة الحكم الكردي قطعت أشواطا مهمة منذ بدايتها مرورا بفترة ما بعد سقوط النظام السابق، لكن ما زالت هناك مسافة طويلة نسبيا أمامها لكي تنجح ويتمكن الإقليم من الوقوف على قدميه من دون الإعتماد على تعاطف أصدقائه والدعم الدولي لقضيته العادلة.
ومن البديهي القول، بأن تلك المظاهرالشاذة تلحق أفدح الأضرار بالشعب الكردستاني وبسمعة قضيته العادلة في المحافل الدولية والتي سنجملها بالنقاط التالية:


1- تلحق ضررا بالغا بكرامة الإنسان الكردي الذي كافح لعشرات السنين من أجل رفع الظلم والقمع الدكتاتوري عن بلده،وتجعله عاجزا عن فرض إحترام حقوقه المدنية والإنسانية على السلطة التي تمثله،مما يخلق حالة من اليأس لدى الفرد الكردي من التطلع الى مستقبل مشرق، بالإضافة الى دفعه للنفور والتراجع من دعم التجربة السياسية في الإقليم التي تعتبر الإطار الضامن لتحقيق حقوقه القومية المشروعة.
وأود بهذه المناسبة أن أنوه بالدور الكبير لأجهزة الأمن الداخلي التي بذلت كل جهد ممكن من أجل حماية كردستان من خطر الإرهاب بسهر ضباطها ومنتسبيها، ولكن مع ذلك يجب على الجميع أن يدرك بأنه من دون دعم وإسناد المواطنين وتعاونهم مع الأجهزة الأمنية ما كان لهذا الأمن والإستقرار في الإقليم أن يتحقق،ومن المؤكد بالمقابل أن المواطن الذي تنتهك السلطة حقوقه أو حقوق أفراد عائلته، لن يكون مستعدا للتعاون مع تلك السلطة مما سيفتح منفذا أمام أعداء التجربة للترصد وتمرير مخططاتهم المشبوهة للنيل من تلك التجربة وإفشالها.


2-تؤدي تلك المظاهر الشاذة الى تراجع الدعم الدولي للإقليم ولمطالب شعبه،وهو دعم إنما حصلنا عليه بسبب الإنتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان الكردي في السنوات الماضية على يد الأنظمة الشمولية والدكتاتورية، وكانت تلك الإنتهاكات لحقوقنا الإنسانية هي بذاتها تبرر لأصدقاء شعبنا الدفاع عن حقوقنا المسلوبة،ولعلها ستكون مفارقة غريبة أن نتحول نحن ضحايا ظلم وطغيان الأمس، الى ظلمة اليوم ننتهك حقوق المواطنين الذين ناضلنا من أجلهم وثرنا بوجه الأنظمة الدكتاتورية لعقود طويلة لنيل حقوقهم الإنسانية المشروعة.
إن الإنتقادات التي ترد من منظمات دولية حول إنتهاكات حقوق الإنسان الكردي، وإزدياد حالات العنف خصوصا ضد المرأة، يتزامن مع ظاهرة أخرى أكثر خطورة في الإقليم، وهي ظاهرة الفساد وإحتكار السوق من قبل البعض، وهاتان الصورتان تشوهان سمعة الشعب الكردستاني وتجربته، ولن يفيد التذرع بحجة الظروف الإقتصادية الصعبة أو الإدعاء بحساسية المرحلة الإنتقالية ومواجهة خطرالإرهاب لتبرير تلك الإنتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والتضييق على الحريات، فالإدارة الكفوءة والمسؤولة،هي الإدارة التي تكون قادرة على وضع إجراءات لتحقيق الأمن من دون إستغلال تلك الإجراءات لإنتهاك الحقوق والحريات الفردية والجماعية والإعتقال الكيفي والعشوائي للمواطنين،فالذين يحاولون التستر على عدم كفاءتهم باللجوء الى أساليب العنف وإنتهاك حقوق الإنسان يجب معاقبتهم بدلا من تبرير أفعالهم بتصريحات إعلامية منتقدة للتقارير الموضوعية التي تنشرها المنظمات المعنية بحقوق الإنسان،لأن تلك المنظمات هي ذاتها التي دافعت عن حقوق شعبنا الكردستاني وفضحت أساليب النظام الدكتاتوري لإبادة الشعب الكردي بحملات الأنفال، وسعت لوقف عمليات الإبادة البشرية بحق هذا الشعب.وعلى البرلمان الكردستاني أيضا أن يقوم بدوره الرقابي ومحاسبة المؤسسات الأمنية على كل مخالفة لمباديء حقوق الإنسان.


أما الحكومة الإقليمية فعليها أن تحقق مع جميع المسؤولين الذين أشار تقرير منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان الدولية الى مسؤوليتهم في الإنتهاكات الواردة بالتقرير،وأن تسرع بتوحيد المؤسسات الأمنية وقوى الأمن الداخلي في الإقليم، و تلغي جميع المؤسسات الأمنية الحزبية في مقدمتها جهازي ( باراستن وزانياري) الحزبيين، وتوحدهما في إطار مؤسسة دستورية وقانونية خاضعة للرقابة،وأن تطلق سراح جميع المعتقلين والموقوفين في السجون السرية والحزبية غير الحكومية.وعليها أيضا أن تعمل بجد على تطوير أداء المؤسسات الأمنية الكردستانية،وتخليصها من العناصر العديمة الكفاءة،وتوفير الأجهزة والمعدات التكنولوجية الحديثة المستخدمة في مجال التحقيقات الجنائية، وتوعية كوادرها بمباديء حقوق الإنسان وإرشادهم الى الطرق الصحيحة والشفافة في التحقيقات، وحسم القضايا الجنائية بالسرعة لكي تأخذ مجراها القانونية.


3-فصل سلطة القانون عن الميول السياسية، وفرض سيادة القانون على جميع مؤسسات الأمن، ومراقبة أداء تلك المؤسسات بإستمرار للتأكد من الإلتزام بالقوانين والإجراءات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
4-التعاون بشكل أكبر من الصليب الأحمر الدولي والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان والإستجابة للجهات المعنية بحقوق الإنسان وحقوق السجناء في العالم.فهذه المنظمات تستحق كل تعاون بناء من سلطات الإقليم،مثلما أشارت منظمة هيومان رايتس ووتش في تقريرها الأخير الى التعاون الإيجابي لحكومة الإقليم، وكيف أن سلطات الأمن فيه تعاونت بشفافية مع موفديها للوصول الى حقائق الوضع الإنساني للسجناء.

إن هذه النقاط بمجملها تشكل معالجات سريعة للإنتهاكات الواردة في التقرير التي يفترض إعتمادها بدلا عن الإنكار والتهرب من المسؤولية كما كانت الأنظمة الدكتاتورية تفعل بوصفها للتقارير الصادرة حول إنتهاكات حقوق الإنسان بالمؤامرات وكيد الأعداء الحاقدين.
وبإعتقادي فأن الإعتراف بالتقصيرات والأخطاء ليس عيبا و لا عارا، بل هو أساس مطلوب لمعالجة تلك الأخطاء،.وهذه المظاهر تؤكد أكثر من أي وقت مضى مدى حاجة كردستان الى إصلاحات سياسية وإقتصادية وثقافية، والى مراجعة عامة وشاملة لكي نتمكن من المحافظة على ثمرة نضال الآلاف من أبناء شعبنا الذين ناضلوا لسنوات طويلة من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية، ولكي لا تتحول كردستان الى بلد منتهك لحقوق الإنسان وقمع الحريات لأن منطقتنا تفيض اليوم بأنظمة شمولية قامعة للحريات وحقوق الإنسان.


في السنوات الماضية كان الشعب الكردي يتحجج بتقارير منظمة ( هيومان رايتس ووتش) كدليل لإنتهاكات النظام الدكتاتوري لحقوقه الإنسانية أمام العالم، وهي المنظمة ذاتها التي ترفع اليوم صوتها للدفاع عن حقوق أبناء الشعب الكردستاني، مما يفرض علينا تثمين جهودها كما كنا نقدرها في السابق.

د. برهم صالح

* النسخة العربية من المقال خاصة بايلاف وينشر بالاتفاق مع كوردستان نوي