* هل كتب أمل دنقل قصيدة رثاء يوسف السباعى لأنه كان موظفاً عنده فى منظمة التضامن؟
* الشاعر عبد المنعم رمضان: أمل دنقل شاعر quot;لاتصالحquot; يرثى وزير التصالح.
* المثقف المصرى بين نعيم جنة السلطة ونار جحيم التجاهل.
* القصيدة العظيمة ليست بمضمونها العظيم ولكن بفنها العظيم.


(quot;جئت إلى هذا العالم كى أعترضquot; ..عبارة شهيرة قالها الروائى الروسى مكسيم جوركى، أراد بها أن يعبر عن الدور الذى من المفروض أن يلعبه المثقف فى مجتمعه، أمام هذه العبارة إنقسم المثقفون إلى فريقين، الفريق الأول يرى أن المثقف الحقيقى فى حالة خصام دائم مع السلطة وعدم رضا عن الأوضاع الإجتماعية السائدة، وأن الإبداع لايمكن أن يولد من رحم النظام الحاكم، وأن الدهشة والتمرد والثورة هى الدينامو المحرك لخيال المبدع، فالمبدع ساخط بطبيعته، على يسار النظام بالسليقة، والفريق الثانى يرى أنك لكى يظهر إبداعك إلى النور لابد لك من الإلتصاق بالسلطة خاصة فى العالم الثالث، فشعرك ورواياتك ستطبع فى مطابع هيئة كتاب النظام، ومسرحياتك ستعرض على خشبة مسرح النظام، وجوائزك ستتسلمها من المجلس الأعلى لثقافة النظام، وفيلمك لن يرى النور إلا بعد ختم رقابة النظام، وأن رجال السلطة ليسوا كلهم شياطين، ويظل بندول الحكم على المثقف متأرجحاً بين الإتهام بالعمالة والخيانة لإبداعه إذا إقترب من جنة السلطة، وبين الطرد من جنتها إذا خالف وفارق وخاصم وحصل على رضا الجمهور والشارع الثقافى وفقد بريق المنصب وطراوة الكرسى وبنكنوت مكافآت محاسيب النظام!.
(قفزت إلى ذهنى هذه الخواطر وأنا أتابع قصيدة تم نشرها فى العدد الأخير من مجلة الثقافة الجديدة للشاعر الراحل أمل دنقل فى رثاء وزير الثقافة الراحل يوسف السباعى، مطلعها quot; لست أنساك واقفاً تتشمس / عند باب من الغصون مقوس / حيث للمرة الأولى شهدتك حلو الخطاب أنيق الملبس... سوف ألقاك فى مكانك مهما /فصلت بيننا يد ومسدس /سوف ألقاك واقفاً تتحدى /بإبتسامتك الزمان فيخرس /خلفك النيل صامتاً يتهاوى /بينما أنت واقف تتشمس/وسأشكو إليك حزنى حتى /يظهر الحزن بى براعم النرجسquot;، وطالب الشاعر شعبان يوسف فى مقال بالمجلة أن تضم هذه القصيدة إلى ديوان الأعمال الكاملة لأمل دنقل، لأنه يرى أن أمل كان مقصده نبيلاً من القصيدة، وكان ضد الإغتيال، ويرى أيضاً أن حذف هذه القصيدة من ديوان أمل هو إستجابة لأشكال الإرهاب التى يمارسها شعراء الحداثة، ونشرها هو جزء من حقيقة الشاعر، وجزء لايتجزأ من مواقفه المبدئية، ويؤكد شعبان يوسف على أن المزايدات لن تجدى مع أمل دنقل، فهو لم يكن يوماً شاعر سلطة أو سلطان، وجاهر بموقفه نثراً وشعراً، وهو شاعر الجماهير بحق، رغم حقد الحاقدين، وتخرصات المتخرصين.
(أما من هم الحاقدون والمتخرصون الذين يقصدهم الشاعر شعبان يوسف فهم جماعة أصوات وإضاءة الشعرية التى أصدرت بياناً تهاجم فيه القصيدة بعد نشرها، كان العنوان صادماً ويحمل إتهاماً صريحاً لأمل دنقل، quot;رجل لكل العصورquot;، هكذا كان العنوان، إستفز مشاعر أصدقاء و مريدى ودراويش أمل دنقل، فهاجموا هذه الجماعة وأبرز شعرائها ومنظريها وخاصة الشاعر عبد المنعم رمضان الذى إشتهر بصراحته الموجعة أحياناً والمستفزة أحياناً أخرى، والذى رفض أن يكون درويشاً فى جوقة أمل دنقل، وكان مقتنعاً بأن جماهيرية الشعر ليست مصدر جودته وصدقه، وأن نبل المضمون ليس الطريق إلى الحكم على القصيدة بأنها عظيمة، فمن الممكن أن تكتب عن فلسطين والإنتفاضة شعراً رديئاً برغم نبل القضية وعظمة المضمون.
(طلبت من الشاعر عبد المنعم رمضان أن يعلق على هذه القصيدة ويوضح وجهة نظره بعد مرور أكثر من ربع قرن على نشر قصيدة quot;هذه الأرض وجهها عربىquot; للشاعر أمل دنقل، وليس هذا من باب إحياء القضايا القديمة، فالقضية أكبر من دنقل ويوسف ورمضان، وهى حية ومتجددة فى الواقع الثقافى المصرى، هى قضية مفصلية فى حياتنا الثقافية، وهى علاقة المثقف المبدع بالسلطة، وأيضاً معيار جودة الإبداع الفنى هل هى نبالة المضمون أم ثورة الشكل وتحرره؟، وأترك الشاعر عبد المنعم رمضان يعبر عن وجهة نظره بنفسه، وهذا هو نص خطابه كاملاً، يقول رمضان:
(quot;فى أواخر السبعينات كان يوسف السباعى قد رسخ صورته كأداة هدم ثقيلة يملكها النظام، ويدك بها المنبر الثقافى المقام فى القاهرة، وفروعه فى المدن الأخرى، الرجل أغلق قبضة يده على كل المجلات فإختنقت، وسعى بإخلاص لأن يكون إنسانياً فى علاقاته المباشرة والفردية، كأن يساعد أحد الكتاب أو أحد الشعراء بتعيينه فى أماكن لائقة مثل الصحف أو منظمة التضامن الأفريقى الآسيوى، إنسانية تعلق فى أطراف يديها وسائل ترويض معروفة، وسعى بإخلاص لأن يكون قاهراًً وفظاً فى علاقاته الثقافية الرسمية، فيما يمكن أن نسميه وسائل ترويع معروفة، وكان النظام يترنح وقد أصبحت علاقته مع جماعات الكتاب مأزومة بعد كامب ديفيد وإتفاقيات الصلح، ويوسف السباعى فى هذا النظام رجل من رجال الرئيس الذى يصالح، وكنا نحن جيل السبعينات المتمثل شعرياً فى جماعتى أصوات وإضاءة، ننشغل بعض الوقت ببعض السياسة، وبعض الوقت ببعض الحداثة، وكل الوقت بقصائدنا وأحلامنا وأجسادنا.
(تلك الأيام كان شعراء مصر الأربعة الكبار قد أصبحوا هكذا، أحمد حجازى فى باريس، وعفيفى مطر فى بغداد، وصلاح عبد الصبور فى هيئة الكتاب، وأمل دنقل فى مقاهينا وأرصفتنا، أى أننا لم نكن نواجه إلا صلاح أو أمل، فى كاف نون يكتب حلمى سالم quot;أدونيسيون لا دنقليونquot;!، كان صلاح عبد الصبور يقف عند آخر خط وصلت إليه قصيدة التفعيلة، ويرى مابعد هذا الخط وكأنه خارج حدود رؤيته، وكان أمل يقف قريباً من خط بداية قصيدة التفعيلة، ويرى مابعد هذا الخط فوضى لاتطاق، التمايز بين موقفى أمل وصلاح يرجع إلى كون أمل أكثر تشبثاً وإنتساباً إلى تلك الكلاسيكية الجديدة التى ضمت من قبل أحمد حجازى والسياب، الحقيقة كان أمل أكثر كلاسيكية من الإثنين، وأيضاً أكثر حدة، وفى جماعة أصوات إختلفت مواقفنا من أمل دنقل،بعضنا يحبه، وكلنا يراه فى موقعه الكلاسيكى ذاك. (أذكر أنه لما مات يحيى الطاهر عبد الله فى حادثة السيارة، قلنا مامعناه أن الموت يحب الأخيار، ويحسن الإختيار، وأنه قد بدأ يداهم الثلاثة القادمين من جنوب مصر، بترتيب براءتهم، الأكثر براءة ثم الذى يليه، وسوف يعيش طويلاً ndash;آمل له ذلك ndash; ثالثهم الخالى من البراءة.
أذكر أيضاً فى كافتيريا دار الأدباء بشارع قصر العينى والموجودة ndash;أعنى الكافتريا-بالبدروم، كانت تمتلئ بالكتاب، وذات ليلة أتى يوسف السباعى الوزير، ودخل ليسلم فوقف الجميع فيما عدا يحيى الطاهر عبد الله، هكذا بإستقامة ونزق، لذا فإنه عندما قتل يوسف السباعى لم نشعر بالأسف عليه، شعرنا كالعادة بالخوف من الموت، شعرنا بالإمتعاض من القتل، لكننا لم نشعر بالأسف على يوسف، خاصة أنه لم يكن فى حسباننا أديباً معتبراً إلا لأنه مسئول معتبر، كان فاروق عبد القادر مثلاً وهو أحد الذين علمونا أشياء كثيرة منها عدم الإعتداد بالأديب المعتبر لأنه مسئول معتبر، كان فاروق عبد القادر بملحق الأدب والفن الذى أشرف عليه أيام صدور مجلة الطليعة، يبرز فى عيون بعضنا لتطمس صورته الناصعة صورة يوسف السباعى الباهتة (الباهتة حتى وهو قتيل، أقول لم نشعر بالأسف على يوسف، ولكننا شعرنا بالأسف حقيقة عندما كتب أمل دنقل مرثيته تلك، كنا محقين فى غضبنا من أمل أيامها، كما أن بعضنا يمكن أن يكون محقاً فى تسامحه الآن، إنها فضيلة الشيخوخة وليست فضيلة النضج، كما أنها نسبية الزمن.
(أول أسباب الغضب هو يوسف السباعى نفسه، ثانيها هو كون القصيدة عمودية ومكتوبة تحت وطأة المناسبة، وأنا الآن لاأعيب شعر المناسبة، فلست أعلم ماهى القيمة التى تبقى لشعر المتقدمين من شعرائنا، سواء كان شعرهم فى المراثى أم فى المدح أم فى الفخر، أم فى غير هذه الأغراض، فالمتنبى مثلاً هل كان يرثى أحداً من أهله أو من أهل رجال الدولة التى عاش فى ظلها إلا لمناسبة الوفاة؟، هل تذهب قيمة شعره لأن هذا الشعر هو شعر المناسبة، هذا المنطق أظن أن العقل يرده بسرعة ولأسباب ليس هذا المكان مكانها، فضلاً عن أن الشاعر العام، وأمل دنقل شاعر عام هام وغير منكور، أقول إن الشاعر العام هو فى مناسبة دائمة، إنه يبحث عن آليات تمكنه من القول نيابة عن شعبه، لأنه المفوض بالتعبير عن أفراحه وألامه وأحزانه وآماله، يبقى من مسألة المناسبة ذلك الإفتراض المشكوك فى صحته، إن إجتماع المناسبة والرثاء بالذات فى كوب واحد، يعنى أن شكل الكوب لابد أن يكون عمودياً، وهذا الشكل فى حد ذاته لايضمن جمال أو عدم جمال القصيدة، ولذا كان من الممكن قبول سينية أمل عن يوسف السباعى كما سبق أن قبلنا وأحببنا قصائد شوقى وحافظ والجواهرى، لو أنها ndash;أى قصيدة أمل- كانت مثل قصائدهم فعلاً شعرياً مضافاً، ولكنها كانت عالة على الشعر العمودى بالضبط مثل قصيدته أعين الأعين، أى أنها كانت قصيدة قابلة للنسيان، ولاشك أن عدم إدراجها فى ديوان، وإهمالها من جانب عشاق شعر أمل يؤكد أن الموقف الفنى من القصيدة كان يتمتع ببعض الصواب، وأن مناسبة القصيدة بدت أكبر وأهم من القصيدة ذاتها، الأكيد أن شاعر لاتصالح كان يرثى وزيراًًًًًًً من وزراء الصلح بأدوات قديمة لم يفكر فى إعادة صقلها، مما جعلنا فى ريبة من الأمر كله، أمل شاعر والقصيدة بائسة، لذا حزمنا أمرنا وكتبنا ذلك البيان quot;رجل لكل العصورquot;، كنا نستعير إسم المسرحية الشهيرة والفيلم الشهير، ونشرنا ذلك البيان كتذييل لديوان محمد سليمان quot;أعلن الفرح مولده quot;، أذكر أن سليمان لم يكن راضياً عن ذلك، ولكنه غلب على أمره، بسبب التصويت والأغلبية.
(لاأعتقد أننى الآن راض عما هو وارد فى هذا البيان، بالضبط لأننى لايمكن أن أكون راضياً عن أفعالى كلها، أفعالى الأخرى، أيامها كان سؤالنا، سؤال الصدارة أنت مع الصلح أم لا؟، بسبب هذا السؤال وبسبب إشتراك إسرائيل فى معرض الكتاب أيام ولاية صلاح عبد الصبور وقبوله الإستمرار، وقف صلاح بعيداً عن قلبه، فمات قلبه، ومات صلاح، فى زمان تال أصبح سؤال الصدارة، يدور حول الديمقراطية ونقائضها، وظل هذا السؤال يعمل ربما حتى الآن وإن بات سؤالاً قديماً، وهاهو عزمى بشارة يبشر بأن السؤال القادم سيقوم على الإختيار بين العلمانية والأصولية، لايمكن إذن أن نقفز فوق نسبية الزمن، وأن نسحب إجاباتنا القديمة، لأن بكارتنا مشكوك فيها، هكذا سيصير بياننا quot;رجل لكل العصورquot;صحيحاً أيامها، بقدر مانحن راغبون الآن فى إصدار بيانات أخرى فى إتجاهات ضد هذا الإتجاه لأننا لسنا فى الجنة، لايمكن أن نصبح أبكاراً كل مرة، إذا كانت أقوالى غامضة يمكنكم أن تلوموا فاروق عبد القادر لأنه أحد الأعمدة التى إستندت عليها وأقامت عودى، أحد الأعمدة التى لم تنكسر قط، أحد الأعمدة التى تحرضك على الصراحة والقول والمحبة والعداوة والإستغناء، إنه شاهد لايمكن أن ننساه رغم نسياننا يوسف السباعى وأمل دنقل فى رثائه، وأمل وفاروق توأمان فى الرفض والإستغناء، الفارق أن فاروق لم يحب السباعىquot;.
(إنتهى خطاب الشاعر عبد المنعم رمضان، ولكن هل إنتهت القضية وقيل فيها فصل الخطاب ووضعت النقاط المحددة على الحروف المرتعشة المضطربة؟، بالطبع لا، مازالت الأسئلة تتوالد حول المسافة التى يجب أن يحرص عليها المثقف بعيداً عن السلطة، وهل لابد من وجود مسافة أصلاً ؟،وهل العلاقة مع النظام هى علاقة توأم ملتصق أم أقطاب متنافرة؟، أفتح الموضوع للمناقشة، وأدعو كافة المثقفين للمشاركة فى الكتابة حول هذا الموضوع، فلو قلت لكم أننى شخصياً حسمت هذه القضية أكون كاذباً، فأنا مازلت فى حيرة، أحيانأً أنظر بعين التعاطف إلى المثقف المصرى المأزوم المظلوم الذى إن إبتعد عن السلطة أو حاول تخريبها أو الثورة عليها إبداعياً أو التغريد خارج سرب العادات والتقاليد المستقرة، من الممكن أن يفقد حياته وليس إبداعه فقط، من الممكن نفيه وقتله بالبطئ،بمجرد التجاهل حتى ينطفئ وهجه الإبداعى، وأحياناً أتهم هذا المثقف بالنفاق والتسلق، وأقول هل نحن فقط العالم الثالث؟، لماذا أدب وإبداع أمريكا الجنوبية وهى من العالم الثالث مثلنا، أدب وإبداع متمرد وثائر ويشق طرقه ودروبه الخاصة بعيداً عن حضن السلطة وشوارعها المعبدة الناعمة؟؟؟؟، شاركونى حيرتى أو فلتجيبونى على أسئلتى حتى نلقى حجراً فى بحيرتنا الثقافية الراكدة.