لا يلقى محافظ الإسكندرية الحالي عادل لبيب مودةً من أهالي المدينة، مثل تلك التي كان يلقاها سلفه عبد السلام المحجوب، والسبب أنَّ لبيب ينفذ القانون.
المحافظ السابق كان ينفذ القانون أيضاً لكنه وكما يقول أحد أبناء الإسكندرية كان يراعي البعد الاجتماعي في التنفيذ، ويتعلق الأمر هنا تحديداً بإزالة المباني المخالفة لشروط البناء من حيث الأدوار الزائدة عن المُرخص بها على سبيل المثال، لكن لبيب يضع القوة في مواجهة المخالفين ويهدم، ليعيد إلى المدينة المنكوبة بالفوضى شأن كل مدن مصر قليلاً من الهيبة والتنظيم والجمال إنْ أمكن.
عادل لبيب جاء إلى الإسكندرية محمَّلاً بتجربته في محافظة قنا التي حوَّل عاصمتها إلى مدينة نظيفة ومنظمة، وإنْ كان ذلك كما يقول البعض أيضاً باستخدام القوة وبإجبار رجال الأعمال في قنا على المساهمة في حملة إعادة البناء والتطوير والتنظيم.
لنترك الاتهامات جانباً الآن، ولننظر أولاً في جوهر الموضوع: عادل لبيب يطبق القانون، وهذه مسألة غريبة للغاية على المواطن المصري في بلده، كما أنَّ هذا المواطن يشك دائماً ومعه حق في أنَّ تطبيق القانون سيشمل الجميع، أي أنَّ أجهزة تنفيذ القانون ستتعامل بحياد مع جميع الحالات وهذا لا يحدث، إذ يتم التمييز دائماً بين من هم فوق ومن هم تحت، وينجو دائماً من تطبيق القانون من هم فوق، إنَّ تلك النقطة رئيسية للغاية في نظرة أهالي الإسكندرية إلى المحافظ الحالي، إذ سمعت شخصياً عن قصة quot;الحضَّانةquot; وهذا تعبير مصري لطيف عن مكان احتجاز السيارات المخالفة، حيث يتم سحب مئات السيارات يومياً إلى هذا المكان وهي في الغالب سيارات تاكسي أو لمواطنين مخالفين ليس لهم quot;ظهرquot;.
ولا يُلام المحافظ عادل لبيب شخصياً على ذلك، لأنَّ الإفلات من تطبيق القانون ليس في مخالفة سيارة فقط وإنما في قضايا كبيرة للغاية ـ مثل قروض البنوك ـ سمةٌ غالبة في مصر، وحتى لو أراد لبيب أو غيره أنْ يعالج المشكلة فلن يتمكن لأنها مشكلة بعمر بلدٍ كان دائماً فيه الكبير والصغير وبطبقية وإنْ لم تكن ظاهرة إلا أنها منغرسة في جسم المجتمع، وهذا مثال بسيط رأيته بعيني في منطقة الحسين بالقاهرة، إذ كان شرطي المرور يحرر مخالفة لسيارة بها شاب بجواره فتاة، فما كان من الشاب إلا أنْ حذر الشرطي من تحرير المخالفة وإلا نزل ومزق دفتر المخالفات، وتوقف الشرطي عن تحرير المخالفة وانصرف، لا نتحدث عن نكتة مصرية وإنما عن مناخ كامل من الفساد وعدم احترام القانون، وهنا تحديداً تأتي قصة عادل لبيب في الإسكندرية، إنه يطبق القانون، فهل سيؤدي ذلك حقاً إلى احترام الناس للقانون في الإسكندرية، شخصياً أشك في ذلك وأنا من سكان المدينة الذين عاصروا كيف quot;انفلشتquot; الإسكندرية في بداية السبعينات وتحولت من مدينة منظمة ونظيفة إلى حد كبير إلى غابة من العمارات القبيحة المُنَفِّرة، قامت وتقوم على مخالفات لا تحصى من حيث شروط البناء والمساحات والشوارع، ويمكن لمن يريد أنْ يرى بعينيه أنْ يذهب على سبيل المثال إلى منطقة الحرمين المواجهة مباشرة لقصر المنتزة، أو حتى إلى منطقة العجمي التي نالها النصيب الأكبر من قرارات الهدم في عهد المحافظ الحالي والتي كانت في بداية السبعينات منطقةً بكراً، يكمن تنظيمها وتنسيقها.
إنَّ عادل لبيب يحاول محاولةً جادة في مناخ يفتقر كله إلى الجدية، ولما كان يواجه التيار العام بجميع فئاته وأقصد هنا شرائح مجتمع الإسكندرية الذين يعيشون على اقتصاد هو الآخر قائم على الفوضى، فإنني أشك في أنه سيكون قادراً في المدى المنظور على تطبيق رؤيته للمدينة، ليس لنقص في الحماس أو الإرادة أو حتى أدوات التنفيذ، وإنما للأسباب الضاربة عميقاً في تقاليد الكسب quot;وأكل العيش التي أصبحت بنية تحتية للمواطن المصريquot; وعلى سبيل المثال أيضاً، ثمة مواطنون يكسبون رزقهم من البيع على الأرصفة وثمة أسواق كاملة في الإسكندرية تحتل شوارع رئيسية وتغلقها بشكل يكاد يكون تاماً، وشارع المعهد الديني في حي العصافرة قبلي نموذج لذلك، عدا عن أنَّ كل صاحب محل في مدن مصر ومهما كانت الخدمات التي يقدمها هذا المحل، يعتبر نفسه مالكاً حصرياً للجزء المقابل لمحله من رصيف المشاة ويتمدد ببضاعته أو بخدماته على هذا الجزء، وإزالة كل هذا تنفيذاً للقانون يحتاج إلى قراراتٍ بالطبع ولكنه يحتاج أيضاً إلى ثقافة مختلفة، يدرك فيها المواطن المصري أنْ كسبه لرزقه لا يعني تلقائياً حرمان الناس من رصيف نظيف وسالك وخالي من المعوقات التي لا تُحصى، هذا إنْ لم نتحدث باستفاضة عن وسائل النقل البدائية في الإسكندرية quot;الكرتة نموذجاًquot; والتي يذهب ضحيتها قتلى بين حين وآخر، كما أنَّ تطبيق القانون لا يجب أنْ يتم حصره في المخالفين فقط وإنما أيضاً في محاسبة الذين أجازوا للناس المخالفة، فلا شك أنَّ مقاولاً يغش في مواد البناء، أو صاحب عمارة قام بتعليتها رغم أنف القانون، لا شك أنَّ هذين وغيرهما وجدوا quot;تسهيلاتquot; من مسئولين عن تطبيق القانون، وبالتالي قبل أنْ يتم هدم عمارة أو طوابق مخالفة، لابد من السؤال عن جميع الذين كانوا وراء هذه المخالفة التي يذهب ضحيتها في الغالب مواطنون تعبوا أو استدانوا أو تغربوا حتى يحصلون على شقة سواء أكانوا يعرفون أو لا يعرفون أنها مخالفة لشروط البناء القانونية، ولا يُحتج هنا بالعبارة الذائعة الصيت في مصر quot;القانون لا يحمي المغفلينquot; لأنَّ الناس في زحام حركة الحياة الراهنة لا يتوفر لها الوقت الكافي لكي تدقق في كل كبيرة وصغيرة متصلة بشروط البناء والعمران، ومن واجب الدولة ممثلة في القانون ومؤسسات تنفيذه حماية الناس من النصب والاحتيال، حتى لو وقعوا في هذا الشرك عن عدم معرفة أو عن جهل أو استغفال.
قال لي شاب سكندري كنت أناقشه فيما يفعله المحافظ عادل لبيب إنَّ المحافظ أمر بهدم عمارة من تسعة طوابق، وسألته أنا إنْ كان لقرار كهذا رغم ما قد يكون فيه من تسرع أو عدم مراعاة للبعد الاجتماعي قد يردع الناس في المستقبل عن مخالفة شروط البناء؟ وقال الشاب إنه يظن ذلك، وهذا بالضبط ما آمل فيه، أنْ تؤدي تجربة محافظ الإسكندرية الحالي عادل لبيب إلى تنمية حس السكان بضرورة القانون، ربما أدى ذلك في المستقبل إلى شروط أفضل لحياة الناس ولمدينة الإسكندرية ولمصر كلها، وفي سعي المحافظ إلى تطبيق القانون لا يملك مواطن مثلي إلا أنْ يحييه مع الأخذ في الاعتبار بالطبع جميع النتائج المترتبة على هذا التطبيق ومعالجتها بما يضمن مصالح الناس واستقرارهم، حتى لو تطلب الأمر أنْ تدفع المحافظة تعويضات مباشرة لأصحاب الشقق التي تم هدمها أو تلزم المالكين المخالفين لشروط البناء بدفع تعويضات كاملة، أما إعادة هيكلة مدينة الإسكندرية ورغم كل الجهد الذي تم بذله في السنوات الماضية، فإنه أمر فات أوانه، ومن الأجدى البحث عن حلول أخرى خارج المدينة التي أصبحت متضخمة مثل القاهرة تماماً، وأي خطة أو تفكير لإعادة تنظيمها قد يتطلب جراحات عميقة وإزالة أحياء بكاملها وشق مترو أنفاق بدلا من قطار أبو قير، وهذا في رأيي لا يمكن لمحافظ أنْ يقوم به في الوقت الحالي.
شاعر وصحفي
[email protected]