من الأمور المتفق عليها قانونا أن القومية تتشكل من جملة من العناصر، اولها الحيز الجغرافي الذي تشغله مجموعة بشرية، وتترابط هذه المجموعة ضمن تاريخ مشترك، بالأضافة الى أساطير وموروث أجتماعي وثقافة شعبية مشتركة، ووجود ترابط مصيري بين ابناء تلك القومية تعززها تلك اللغة المشتركة، بالأضافة الى وجود الحقوق والواجبات.
ورغم إن الفقيه ( جيلنر ) يرى أن القومية quot;هي أساساً مبدأ سياسي يقوم على ضرورة التطابق بين الوحدة السياسية والوحدة القومية، الا إن الصفات الثابتة والمشتركة بين ابناء الأمة الواحدة هي التي تحدد معناها وخصائصها.
ويركز بعض الفقهاء على الجغرافية واللغة والثقافة المشتركة والتاريخ، في حين يركز غيرهم على مكونات الأمة.
وهذه القومية هي انتماء اكثر منها رغبة، ولايمكن لجهة رسمية أن تشطب بقرار سياسي على قومية معينة، كما لايمكنها إن تلغي الوجود القومي لأية مجموعة بشرية مهما كبر أو صغر حجمها.
ومهما يكن التحديد فأن الكورد أمة تم تقسيمها وتجزئتها وفقا للتقسيمات الأستعمارية والمصالح الدولية في المنطقة، ولايمكن لأي صاحب وجدان إن ينكر وجودهم القومي وحقوقهم المشروعة، وتضم العديد من البلدان قوميات مشتركة تتعايش بسلام وأنسجام تام، ولم يكن الدين مطلقا ركنا من اركان القومية.
ولعل العراق من البلدان النموذجية التي يضم مجتمعها قوميات متعددة و مشتركة، وكان القانون الأساسي الصادر في العام 1925 قد تغاضى عن ذكر القوميات المتآخية في العراق، مكتفيا بنص المادة السادسة التي ذكرت إنه لافرق بين العراقيين في الحقوق إمام القانون، وان اختلفوا في القومية والدين واللغة، مع إن الحقيقة هي الوجود القومي للعرب والاكراد والتركمان والكلدان والاشوريين والأرمن في العراق، في حين ذكر الدستور المؤقت لعام 1958 بعد قيام الجمهورية ونهاية النظام الملكي في المادة الثالثة منه أن الكيان العراقي يقوم على أساس من التعاون بين المواطنين كافة بأحترام حقوقهم وصيانة حرياتهم، ويعتبر العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن، ويقر الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية.
وحدد النص المذكور أعتبار القوةميتين الكبيرتين في العراق هما الشركاء في هذا الوطن، وأن على الدستور والقوانين التي تتفرع عنه إن تشير الى جميع الحقوق القومية للكورد بما فيها الأقرار بالوجود القومي والحقوق القومية المشروعة.
وضمن هذا الأقرار الصريح تلزم الحكومات العراقية أحترام الحقوق وصيانة الحريات، وأقرار الحقوق القومية ما يلزم السلطات العراقية على توفير مستلزمات الأقرار والصيانة، بتوفير ما يستلزم في وجودهم القومي وحريتهم في الأختيار ومنحهم الأوضاع القانونية التي تكفل لهم تلك الحرية ضمن أطار الوحدة العراقية.
وبديلا عن كل نصوص الدستور والدساتير اللاحقة، كانت السلطات المتعاقبة تكرس كل ما لديها من امكانيات لمقاتلة الأكراد بغية منعهم من المطالبة بتوفير مستلزمات تلك الحقوق، وتنكر عليهم الأقرار بها، وبالرغم من تعاقب سلطات وتغيير دساتير مؤقتة، بقيت مسألة الأقرار بحقيقة الشراكة الحقيقية في الحياة العراقية بين العرب والأكراد والتركمان تتقاطع مع فكر السلطات الشوفينية، وليس اكثر بشاعة في مظاهر تلك الشوفينية ما تعتقد به سلطة البعث، حيث توضح الموقف الشوفيني الحاد عمليا بعد استلام السلطة بأنقلاب 8 شباط 1963، مرورا بالأنقلاب الثاني وأنسحاب سلطة صدام من كوردستان في العام 1991، وحتى سقوط سلطة الدكتاتور في نيسان 2003.
تزعم سلطة صدام إن سجلات الحكم العثماني قيدت حالات موروثة أربكت الحقائق ضمن المجتمع العراقي، وبهذا الزعم تشير الى أن عراقيين سجلوا على حساب قوميات هم ليسوا منها، وهذه الحقيقة غابت عن سلطة صدام حينما اقدمت على تسفير العراقيين من ابناء التبعية، كما أقترفت جريمة بشعة في تسفير الكورد الفيلية من العراقيين بحجة أصولهم الآيرانية.
ولغرض التطبيق الشوفيني المقيت فأن سياسة حزب البعث في أعتبار جميع العراقيين بعثيين وان لم ينتموا، مهما كانت قومياتهم وبالرغم من إن البعث حزب قومي عربي، لذا فأن على الكوردي والتركماني والكلداني والآشوري إن يعمل على تحقيق أهداف البعث والأنصهار ضمن ذلك التنظيم وذوبان القوميات جميعها ضمن شعار البعث، ولذلك ساهمت السلطة في أدخال مئات الالاف من ابناء العراق من القوميات غير العربية في تنظيمات حزب البعث، تحت وطأة الوظيفة والحاجة والمنفعة والمصالح وحماية النفس والعائلة، وفي هذا الأسهام حققت سلطة صدام برنامجا شوفينيا يقضي بأعتبار كل الذين انتموا الى حزب البعث من ابناء القوميات الأخرى عربا شاءوا ام ابوا.
كما أتخذت قرارات رسمية في أعتبار كل من يتحدث بالعربية عربيا، وكما استخدمت سلاح تغيير القومية سلاحا تشهره في وجه ابناء القوميات، وكان الأمر يخص مدينة كركوك حصرا من اجل تعريبها، ومحاولة اضعاف العنصر الكوردي والتركماني فيها وتغليب العنصر العربي، وفعلا حققت تلك السياسة بعض النجاح في أستمالة العشائر العربية في مناطق الديوانية والكوت والعمارة حيث تم نقلها الى مناطق كركوك، بالأضافة الى تعليمات تقضي بمنح الموظف العراقي من العرب ممن يتم نقله الى كركوك بعد نقل سجل الأحوال المدنية الخاص به وبعائلته، مبلغ عشرة الاف دينار ( يعادل أكثر من ثلاثة الاف دولار في حينه )، الا أنها توسعت في هذا ألأمر حينما قامت بتطبيقه في مجال التملك للعقارات وعمليات الأيجار والأستئجار والتوظيف وأستخدام العمال في مناطق الموصل وبغداد وكركوك وديالى وصلاح الدين، حين أرغمت الكورد على تغيير قوميتهم بطلبات يقدمونها بخط يدهم، تقدم الى دائرة الأحصاء لتسجيلها ومن ثم تأشير ذلك في سجلات الأحوال المدنية، حتى يمكن إن يتم اجراء البيع أو الأيجار أو المباشرة بتقديم طلب التعيين في العمل في تلك المناطق.
وبالرغم من أن مقدم الطلب المذكور يقع قانونا ضمن عملية الأذعان، ويكون المواطن الكوردي مكرها على الأقدام بطلب تغيير قوميته، وبالرغم من انه من المضحك على سلطة دولة تجبر مواطن على تغيير حقيقة من حقائق شخصيته أو من حقائق المجتمع العراقي، أذ اقدم العديد من الكورد على تغيير قوميتهم وأختيارهم القومية العربية وهم لايفقهون اللغة العربية، ولم يكونوا من ابناء مناطق الوسط والجنوب،، ولذا فأن التصرف الذي اقدم عليه بعض منهم بطلب تغيير قوميته وتأشير الموافقة على الطلب في دوائر الأحوال المدنية طلبا غير مشروع وباطلا لايتمكن اعتباره مستوفيا شروط أي عقد، وبالتالي فأن فعل الأكراة المتمثل في أجبار المواطن الكوردي تحت وطأة البحث عن لقمة العيش أو السكن، هو تصرف لايمت للحق بصلة ودون رضاه وأن كان قد تقدم بطلب يحمل توقيعه.
اهتمت السلطة العراقية الصدامية البائدة بمسألة تغيير قومية العراقي من غير العرب
الى القومية العربية، ترغيباً أو ترهيباً، قسراً أو بالمحاصرة.
وأمعنت في عملية الإذلال بأن أجبرت المواطن أن يتقدم بطلب بتوقيعة الشخصي يطلب فيه تغيير قوميته بالرغم من كونه مذعناً ومسلوب الأرادة في الطلب تحت تأثير عوامل عديدة سنأتي عليها لاحقاً لتصويره كمن طلب شخصياً تغيير قوميته بأرادته وبرغبته الشخصية كشكل من أشكال الحيلة والأساليب الملتوية وغير القانونية التي كانت تنهجها سلطة صدام في العديد من القضايا.
ووظفت لهذا الأمر دوائر ومؤسسات وموظفين متخصصين في قضايا تغيير القومية، وأصدرت السلطة البائدة القرارات التشريعية التي تمنع المواطن العراقي غير العربي من الانتقال الى مدن أخرى أو التملك في مدن أخرى أو بيع العقار الى مواطن أخر الا وفق الضوابط والشروط التي وضعتها، وحددت حركته وتصرفاته القانونية وربطتها بموافقة الجهات الأمنية التي كانت تبتز الناس مقابل تغيير قومياتها ونزع جلودها وحقيقتها الى العربية.
وأعتمدت شرط أساسي لتمشية جميع المعاملات الرسمية للمواطن العراقي غير العربي في الحصول على وثيقة تدعى ( أثبات القومية )، وهذه الوثيقة تمنحها دائرة التخطيط المركزي في بغداد بناء على معاملة طويلة عريضة تجريها دوائر الأحصاء في المحافظات.
كما قامت السلطة البائدة بتغيير معالم المقاطعات التابعة للمحافظات الكردية ومنطقة كركوك، بأقتطاع مقاطعات تابعة حكماً الى المناطق الكردية وألحاقها بالمحافظات العربية القريبة منها، أو أقتطاع مناطق من كركوك والحاقها بالمحافظات القريبة منها أيضاً.
كما أقدمت السلطة البائدة على نشر تعليمات تقضي بدفع مبلغ مالي مغري الى كل موظف أو مواطن من العرب الساكنين في الوسط والجنوب ينتقل مع عائلته الى محافظة كركوك بالأضافة الى منحه قطعه أرض وسلفة مالية لبناء دار فيها، على أن لاتتم أعادته الى مدينته لأي سبب بعد ان يتم نقل سجل الأحوال المدنية الخاص بالعائلة الى تلك المدن.
كما قامت السلطة البائدة بترحيل عشائر عربية من وسط وجنوب العراق و قامت بتمليكهم الأراضي الزراعية التي يتم انتزاعها من المواطنين الأكراد والتركمان، وأسكانهم بدلاً عنهم بقرارات تعسفية وأوامر لاتمت للحق والحقيقة والقوانين بشيء.
كما كانت السلطة العراقية البائدة تبالغ في دقة توزيع الموظفين الأكراد على مناطق الوسط والجنوب، بغية ارغامهم على الأستقرار في تلك المدن والقصبات، ووضعهم تحت المراقبة، وأضعاف توحدهم ضمن منطقة كردستان.
كما اوعزت السلطة البائدة الى مؤسساتها الأمنية والأستخبارية والحزبية أن تعمل على أرغام كسب المواطنين الكرد والتركمان في تنظيمات حزب البعث العربي وأعتبارهم منتسبين لهذا الحزب بأرادتهم وبناء على طلبهم، مقابل مغريات القبول في الكليات الأنسانية والوظائف الخاصة أو عدم التعرض لهم من قبل عناصر الأمن والجيش الشعبي والحزب التابع للسلطة، واعتبار هذه العناصر لمراقبة بني جلدتهم ورفع التقارير عنهم وأبقائهم كعيون في المنطقة لنقل الأخبار والتحركات عن المعارضة الكوردية للسلطة الشوفينية، بالأضافة الى أسقاط هذه النماذج الأنسانية في نظر أخوتهم.
وكانت الدوائر الأمنية من أكثر الدوائر أهتماماً بمسألة القومية وجرد العناصر الموالية للسلطة أو المعارضة، وكانت الى جانب الدوائر والمؤسسات الحزبية تهتم بمسألة الجرد السكاني وأستمارات الأحصاء التي تحتوي على العشرات من الأسئلة التي لاتترك شاردة أو واردة للسؤال عن حالة المواطن الشخصية عن المعلومات المطلوبة عن اقاربه لحد الدرجة الخامسة.
ولم تكن تلك الأستمارات دون هدف، ولم تكن بشكل أعتباطي، وأنما كانت تدخل ضمن المخطط الرامي لتهجين الشعب الكوردي وأنهاء الوجود التركماني في المنطقة، وكانت تهدف الى تنفيذ مخططها الشوفيني في عدم ابقاء أي عنصر غير عربي على الأرض العراقية، بالأضافة الى عدم أيمانها وأعتقادها بحق الشعب الكوردي في الحياة وبالتالي حقه في أختيار شكل الحكم الذي يريد.
ونال الكورد الفيلية من هذه المسألة أضعاف مانال غيرهم، فقد جرى تسفير عوائلهم، كما جرى تفريق الشباب عن اهلهم، وسوق الشباب الى المعتقلات والسجون القصية، وابعاد الشيوخ والأطفال الى المنافي الصحراوية، وتسفير العدد الكبير منهم الى الأراضي الآيرانية بحجة تبعيتهم الى أيران، وبقائهم في آيران التي أعتبرتهم عراقيين في حال لايحسد عليه دون جنسية ودون معرفة مستقبلهم ومصيرعوائلهم ودون أن تلتفت اليهم أية منظمة دولية أو انسانية ن ولم تزل مجموعات كبيرة منهم حتى اليوم في مخيمات اللجوء.
كما نال الشبك مانال أخوتهم الكورد الفيلية من ناحية الترحيل عن مناطفهم السكنية وقرآهم بالرغم من فقرها وأنعدام الخدمات بها، الا أن السلطة بالغت في أيذائهم وتشتيت تجمعاتهم وسكنهم وهدمت بيوتهم بالنظر لتعاطف الكثير منهم مع الحركة الكوردية المسلحة أو معارضتهم لنهج السلطة الشوفيني.
والمتابع لنهج السلطة هذا يجده ليس فقط أمتداد لسلطة البعث الثانية في 17 تموز 68 وليس ايضاً في شباط 63 وأنما كان أستمراراً لنهج طائفي وشوفيني حاقد ودفين يطغي على عقول الحكام والسلطات التي تعاقبت على حكم العراق، وهو نهج ليس فقط مضر بالعراق ولايعرف التطبيق العادل للسلطات وأستحقاقات المواطنين بغض النظر عن قومياتهم مثلما تشير الدساتير الدائمة أو المؤقتة التي أقرت من قبل الحكومات في العراق، انما مخالف لأبسط حقوق الأنسان التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالأضافة الى مخالفتها لكل الشرائع والأديان.
ووظفت السلطات العراقية العديد من القضايا القانونية لصالح تطبيقاتها الشوفينية الكريهة بحق الكورد حينما أستعملت أسوأ أستعمال شهادة الجنسية العراقية التي كانت تستعملها كسيف مسلط على رؤوس العراقيين، كما قامت بتشريع قوانين تمنع الكردي والتركماني من ممارسة حقوقه الوطنية المقررة في الدستور العراقي بحجة التنظيم والأصول والضرورة والوضع الأستثنائي، وربطت تصرفات قانونية بأجهزة الأمن والمؤسسات الأستخبارية مع مقدار تعاون المواطن ورضاها عنه، دون الآلتفات الى نصوص الدستور التي كانت تصرخ بالشراكة الوطنية للجميع دون تطبيق ودون أن يلتفت اليها أحد.
يقينا أن السلطة الصدامية البائدة كانت تضع في اعتقادها انها تستطيع أن تغير معالم المنطقة، وان تغير بعد زمن خارطة السكن فيها وتقوم بتخفيف الثقا غير العربي فيها، وانها ستكسب العديد من الناس ممن سيغيروا قوميتهم على الورق، ولكن غبائها أعمى بصيرتها أن الأنسان لايغير قوميته بطلب رسمي يوافق عليه رئيس الدائرة، لأن القومية حال وواقع ولصيق بالأنسان وتنبع من القلب ولايقدر الطلب الرسمي أو رغبة السلطة أن يلغيها.
ولذا فأن الأمر بحاجة الى دراسة هذا الواقع المرير الذي تعانيه تلك الشرائح التي وقعت ضحية تلك الأساليب، وهم بحاجة ماسة الى قرار تشريعي يعيد لهم حقيقتهم القومية ويلغي جميع الأجراءات التي تم تأسيسها على ضوء ذلك القرار، من باب اعادة الحق، ونحن بأنتظار قرارا تشريعيا من مجلس النواب.
- آخر تحديث :
التعليقات