في حياتنا نحن الاعلاميين كثيرا ما نلتقي اناسا لمرات عدة ولكننا لا نذكرهم لانهم لم يتركوا اثرا، ونلتقي باناس ربما لمرة واحدة ولكن ذاكرتنا تظل محتفظة بتفاصيل اللقاء، وما سأسرده اليوم خاص بشخص من النوع الثاني.
في صيف 2003 التقيت ورئيس مجلس ادارة قناة الجديد التي كنت بها اقدم برنامجي بلا رقيب في أحد مطاعم لندن على مائدة غذاء مع شخص انيق الملبس والسلوك، منحاز للحكمة العربية quot; اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب quot; ولكن عيناه وكأنهما مخزن هائل للاسرار، وبالطبع فان فضولي الاعلامي ظل يتقافز سعيا للظفر ببعض من تلك الاسرار, ولكن هيهات لاعلامية مازالت تخطو خطواتها الاولى في مجال الاعلام للفوز بلقاء مع تلك الشخصية التي تسعى الكثير من وسائل الاعلام العربية والعالمية للحصول منه على اجابات على العديد من الاسئلة حول علاقته بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي صاهره وعمل في مكتبه، والسؤال الذي اصبح اكثر الحاحا كان حول ما تردد عن علاقته بجهاز المخابرات الاسرائيلي(الموساد) وخاصة بعد ما ذكره رئيس المخابرات العسكرية الاسرائيلية ايلي زعيرا ـ قبل اسابيع من لقائنا هذا ـ من ان تلك الشخصية الغامضة في بعض جوانبها كانت تعمل لحساب اسرائيل وقدمت لها معلومات مهمة من بينها الاستعدادات المصرية لعبور قناة السويس والموعد النهائي لبدء تلك العمليات الحربية.
الاستاذ تحسين خياط رئيس القناة اخرجني من ترددي ودفعني للمبادرة بطلب اللقاء مع تلك الشخصية اللغز الذي يحمل كنوزا سياسية قد تهدد عروشا في حال انيط عنها اللثام ـ على حد تعبير الاستاذ خياط.
وبادرته بالقول: استاذ اشرف مروان هل يمكنني ان احظى بشرق لقائكم ضمن برنامج بلا رقيب لنتناول علاقتكم بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر او لتنف مزاعم ايلي زعيرا حول علاقة لكم بالمخابرات الاسرائيلية؟ وبدون ان يتخلى عن هدوءه قال وهو يضغط على حروف الكلام: انا ما عملتش مع المخابرات الاسرائيلية او الامريكية، واضاف: انا مش حاطلع في برنامجك او برنامج غيرك.. لا دلوقتي ولا بعدين. وبعدها ظل الرجل على صمته الرهيب الى ان انتهى اللقاء، بالرغم من محاولاتي والاستاذ خياط لتوضيح وجهة نظرنا ورؤيتنا لاهمية مثل هكذا لقاء.
وفي التاسع من يوليو (تموز) وبعد الوفاة الغامضة لذلك الرجل الغامض، قدمت حلقة عن اشرف مروان استضفت فيها شخصيات مصرية وعربية تناولت الرجل وظروف وفاته ومنهم من اعتبره مات مقتولا بفعل فاعل ومنهم من رأى انه انتحر ومنهم من اعتبره وطنيا بامتياز مستشهدا في ذلك بشهادة الرئيس المصري محمد حسني مبارك ومنهم من شكك في وطنيته، واثارت تلك الحلقة ردود فعل اقوى بكثير من توقعاتي، حيث وردتني رسائل مكتوبة وشفهية معلقة على بعض المشاركين سلبا وايجابا، بالرغم انها جاءت اقل من طموحاتي وان اجهز لها حيث كان مقررا ان تشارك فيها السيدة الفاضلة منى جمال عبد الناصر ارملة الراحل وشريكة عمره، ولكن لظروف اتفهمها جيدا اعتذرت عن المشاركة.
والجميع تابع ما نشر وما اذيع بكافة وسائل الاعلام المقروءة والمرئية والمسموعه وشارك فيها محللون سياسيون واخصائيون نفسيون متناولين تركيبة الرجل الشخصية والنفسية ومتسائلين عن مصادر ثروته وعن ما وصفه البعض بالنشاطات التجارية المشبوهة، وما يهمني كاعلامية تلتزم الموضوعية قدر ما امكن وتنحاز للفكر القومي، ان اقول وبكل ثقة من مصادر من معلومات دقيقة ومن قراءة تحليلية موضوعية، ان اشرف مروان من ذلك النوع من البشر الذي لا يمكن له ان يخون بلده واورد هنا بعضا من اسبابي :
اولا: اننا لم نعتد على ان احهزة المخابرات بشكل عام والمخابرات الاسرائيلية بشكل خاص تكشف الغطاء عن عملائها، وخاصة اذا كان قد قدم خدمات جليلة للكيان الصهيوني كما يزعم ايلي عيزرا، ما يجعلنا نرتاب ونتشكك في المعلومات التي اورها في كتابه، ويبقى الهدف والتوقيت محل تساؤل مشروع.
ثانيا: ان الكيان الصهيوني ورجاله مازال يحمل ضغينة وحقدا على مصر وخاصة في الحقبة الناصرية، ما يجعله يبذل قصارى الجهد لمحاولة تشويهه والتشكيك في مصر ورجالتها وخاصة منهم من كانوا على مقربة من عبد الناصر.
ثالثا: ان شخصا كاشرف مروان شديد الايمان بدينه ووطنه لا يمكن له ان يقدم على الانتحار.
وعود على بدء دعوني اسجل ان الاثر الذي تركه لقائي اليتيم باشرف مروان تلخصه عبارة قرأتها في احدى مسرحيات شكسبير، عندما يسأل بطل المسرحية احد الشخصيات العابرة والتي اثارت فضوله: من انت.. وماذا بداخلك؟ فيبادره بالقول: اننا لا نعرف ما بداخلنا ولا ماهي تلك الرغبات التي تدفعنا للتضحية بما نقتنع اننا موجودن من اجله.
وبعد ان رأيت في زيارتي الاخيرة لمصر الحبيبة ذلك الانقسام حول شخصية اشرف مروان، عادت ترن في اذني توصيف تحسين خياط على طاولة الغذاء الاستثنائي التي جمعتنا في صيف 2003 انه لرجل من اخطر الرجال في ذلك الزمان.