لا يسع المتابع لما
يجري في منطقتنا، سوى الاستهجان ممّا هو حاصل في هذه البقعة من الأرض. لقد آلت الحال في هذه الرّبوع إلى ما يمكن أن نُطلق عليه quot;دول الطّوائفquot;، مستعيرين مصطلحًا قديمًا لوصف الوضع الّذي وجد العرب أنفسهم فيه بعد قرون طويلة. ودول الطّوائف البارزة الآن على السّاحة هي في الحقيقة أشباه دول تتحكّم بمقاليدها الطّوائف على اختلاف تشكيلاتها الإثنيّة، القبليّة والدّينيّة.

فها هو العراق الّذي
كشف عوراته على الملأ، بعد أن كانت مُغطّاة بشعارات تدغدغ العواطف من جهة لدى مراهقي العروبة، وبعد أن كانت مغطّاة بتلك القبضة الاستبداديّة الّتي عملت قتلاً وسحلاً في بلاد الرّافدين في الحقبة الصدّاميّة من جهة أخرى. وها هو الجرح العراقيّ لا يني ينزف صبح مساء مخلّفًا وراءه بركًا من دم الأبرياء المهدور، على اختلاف ملل ونحل هؤلاء الأبرياء. قد يقول البعض إنّ الإدارة الأميركيّة الغبيّة هي السّبب من وراء ما يجري على السّاحة العراقيّة، وفي قولهم هذا الكثير من الحقيقة، غير أنّ هؤلاء البعض، أصحاب هذه المقولة، يُخفون من ورائها نوايا سيئة للغاية. إذ أنّهم في الغالب يميلون إلى رفع راية الاستبداد السّياسي والدّيني والثّقافي والاجتماعي من وراء مقولاتهم. هؤلاء، في الغالب، لا يُسمعون صوتًا ضدّ صنوف هذه الاستبدادات القائمة في بلادهم، ولذلك، ففي الحقيقة لا يمكن الثّقة بأقوال هؤلاء لأنّهم يوالون استبدادًا آخر. وبين هذا وذاك يتحوّل العراق إلى دول طوائف ومحاصصات طائفيّة. وإذا كانت هذه الحال، فما هو العراقُ، هذا المصطلح الواهن، إذن؟

وها هو لبنان
وعلى صغر رقعته الجغرافيّة، يكشف صبح مساء عن كونه تركيبة عجيبة غريبة من دول الطّوائف، فلكلّ طائفة حزبها، أي ربعها في الواقع، تتناحر على كعكة لبنانيّة في خضم هذا الهيجان الّذي يضرب المنطقة. على السّطح تطفو لدى جميع هؤلاء شعارات وحدة لبنان واللّبنانيّين، وهي شعارات من نوع الكلام المعسول الّذي لا يخرج من الأعماق، لأنّ في الأعماق أمورًا أخرى لا تقبلها quot;اللّياقة السّياسيّةquot;. فهل عمل لبنان هذا، على مرّ سني استقلاله، على خلق هويّة لبنانيّة عابرة لطوائفه وإثنيّاته وصهرها جميعًا في هويّة واحدة؟ أشكّ في ذلك شكًّا كبيرًا. والحال اللّبنانيّة هذه هي حال كلّ البلاد العربيّة الّتي تتعدّد فيها الطّوائف والملل والنّحل.

وعلى مقربة من لبنان شرقًا،
وبعد سنين طوال من حكم مستبدّ مطلق، شاء الرئيس الرّاحل الأسد أن يُطلق عليه، تلطيفًا، اصطلاح quot;ثورة تصحيحيّةquot;. فماذا تصحّح في هذه الثّورة سوى تشديد القبضة على الملل والنّحل السّوريّة ابتغاء العمل في نهاية المطاف على تحضير الأرضيّة لتوريث هذه الرئاسة إلى الأسد الإبن، سيرًا على نهج الأسلاف. إذ أنّ الخلافة ومنذ القدم تمّت هكذا في هذه البقعة. وعندما أزفت السّاعة، وظهر أنّ ثمّ عائقًا في طريق التّوريث، فقد تمّ الإسراع إلى عقد جلسة quot;مجلس الشّعبquot; والعمل على تغيير بنود الدّستور لهذا الغرض. وقد صفّق الجميع، وكان ما كان من التّوريث الجمهوري القبلي، قمّة البدع السّياسيّة العربيّة.

وها هي حال مصر،
على ما يُشاع كثيرًا في الأروقة المصريّة، تُنبئ بالتّحضير إلى توريث الرّئاسة المصريّة لتصبح السّلالة المصريّة الأولى في العصر الحديث. إنّ الغريب في الأمر هو أنّ المصريّين، وبخلاف المجتمعات العربيّة الأخرى، ليسوا مجتمعًا قبليًّا، فعبد النّاصر والسّادات ومبارك لا ينتمون إلى قبائل مصريّة. ومع ذلك يبدو أنّ عدوى القبليّة العربيّة أصابت مصر أيضًا. القبليّة والطّائفيّة هي داء عضال تعافت منه الشّعوب الأخرى ببناء الدّولة المدنيّة وفصلها الدّين عن هذه الدّولة. إنّ هذا المرض -الوباء- الّذي بدأت تتّضح أعراضه الوراثيّة عاد ليفتك بالعرب في كلّ مكان ويعيق مسيرتهم، يعيق تطوّرهم ويعيق اندماجهم في ركب التّقدُّم البشري.

وعلى مقربة من مصر غربًا،
ها هي حال الإمبراطوريّة الجماهيريّة الإشتراكيّة العظمى (وإن كنت نسيت نعتًا آخر لهذه الإمبراطوريّة الكبرى، فمعذرة من مقام القيصر!). وبعد عقود من النّزق السّياسي والثّقافي (وللصّراحة أقول إنّ هذا النّزق كان يروقني في بعض الأحيان نظرًا للخواء العربي العام)، فقد بدأت تظهر على السّطح آثار هذا الوباء الفتّاك المتمثّل بالخطوات الحثيثة لتوريث الحكم هناك للابن الّذي يضع القذّامي في مقام الثّوابت والمحرّمات الّتي إن مسّها أحد مسّته ضرّاء، كما ورد في الأنباء.
أمّا بخصوص الممالك، الإمارات والسّلطنات، فحدّثوا ولا حرج على المؤمنين والمؤمنات، العاربين والعاربات.
وأخيرًا، قد يسأل سائل كريم، ما العمل من أجل الخروج من هذه المآزق المُحدقات؟
وعلى ذلك أجيب: ليتني كنتُ من العارفين!
فشفانا العقلُ وإيّاكم من هذه الحالات الطّيّبات!


وملاحظة أخيرة:
سأغيب عن القرّاء لبعض الوقت، قد يقصر أو يطول، لأنّي quot;مُسافرٌ زادُهُ الخيالُquot;. غير أنّ عُلماء quot;أهل الضّلالةquot; قد اخترعوا لنا آلةً، وأيّ آلة، يُطلقون عليها اسم الحواسيب النّقّالة. ولأنّي مصاب بعلّة الكتابة الجوّالة، فقد أسمح لنفسي برفدكم من هنا بمقالة، ومن هناك بمقالة، ولن نزيغ عن الإيمان بأنّ الكلمة الحرّة هي سيّدة الدّلالة.

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية