بين الحين والآخر كان يأتيني صوته عبر سمّاعة الهاتف. لم أدر كيف ذا يأتيني صوتُه مُفعمًا بروح كلّ ما تنشده هو الخير للنّاس من حوله، للنّاس في كلّ مكان؟ أقول لا أدري كيف يأتيني صوته هكذا، لعلمي بالقاع المظلمة الّتي وجد نفسه فيها. لم يختر هو تلك القاع، كما أنّ القاع لم تختره. لا شكّ أنّ أهله قد سقطوا فيها، مع من سقط، بعد أن تقطّعت بهم السّبُل فتفرّقوا أيدي سبأ في العام الّذي انتكب فيه أهله وأهل الكثيرين. لقد وُلد في تلك القاع، ترعرع فيها وها هو لا زال يعيش فيها.
كان يظنّ أنّ القاع الّتي وجد نفسه فيها هي نهاية المطاف، وأنّه من هذا القعر لا طريق سوى الصّعود، غير أنّه اكتشف، مثلما نكتشف جميعنا صباح مساء، أنّ القيعان العربيّة لا قرار لها.
كلّما ظننا أنّا وصلنا إلى القعر سرعان ما نكتشف بعد حين أنّ ثمّ قيعانًا أخرى لم نكن نعلم بوجودها.

***
صحيح، لدينا مؤتمرات قمّة، على سبيل الفأل طبعًا، غير أنّ هذه القمم لم تكن في يوم من الأيّام سوى حفلات مناسف عربيّة غنيّة بالدّسم الكلامي، شحيحة بالعمل المبني على العقل. ولمّا كُنّا نفتقد هذه الملكة البشريّة فلا يمكننا أن نسير على هدى مقولة quot;اعقل وتوكّلquot;. كيف سنعقل والحبال ملفوفة حول أعناقنا؟ كيف سنتوكّل، بينما لا متّسع لدينا لهذه الكماليّات؟
قبل مدّة قرأت عن تعرّض صديق شاعر لاعتداءات جسديّة، وقبل مدّة سمعت عن تعرّض آخر لاعتداءات على بيته وربعه، وفقط صدفة لم يحدث له ولهم مكروه. هنا وهناك في بلاد العرب، لم يعد مكان لقول كلمة حقّ. لقد غرق الجميع شعوبًا وأنظمة في دوّامة اللؤم الّذي لا يبقي ولا يذر.وإذا ما دخل اللؤم بلاد قوم فلا ينتظرنّ أحدٌ في هذه البلاد خيرًا.

***
ننظر إلى ما يجري في العراق فلا نصدّق رأي العين. قتل وسحل وتذرّر إلى بطون وأفخاذ وقبائل وطوائف متصارعة. هكذا هي الحال في لبنان، وفي كلّ مكان يقع عليه بصرنا في هذا الشّرق، في بلاد العربان. حيثما وقع بصرنا نرى ما يحزننا. هل هو قدرنا الّذي كُتبَ علينا منذ أربعة عشر قرنًا؟
الحقيقة الّتي يجب أن تُقال جهرًا هي أنّنا ربينا طوال هذه العقود والقرون على الأوهام.لقد أُشبعنا وهمًا أنّنا شعب واحد، لقد أُشبعنا وهمًا أنّنا أمّة واحدة، لقد أُشبعنا أنّنا خير أمّة، لقد أُشبعنا وهمًا حتّى صار الوهم سمة لصيقة بنا. نكذب على أنفسنا كثيرًا منذ نعومة أظفارنا، أظفارنا الفرديّة وأظفارنا القوميّة، لدرجة ننسى معها أنّها كانت كذبة منذ البداية. وهكذا تتراكم الأكاذيب فوق رؤوسنا سنة تلو سنة عقدًا تلو عقد، قرنًا تلو قرن حتّى لم نعد نفرّق بين حقّ وباطل، بين خير وشرّ، بين عقل وجهل.
ألم يحن الوقت لكي نصرّح على الملأ أنّنا نحن العرب، كُنّا كذبة منذ القدم، وها نحن لا زلنا حتّى يومنا هذا كذبة مُعولمة. كذب ماضينا هو كذب حاضرنا وما سوف يكون: عُقلاؤنا مهجّرون، سفهاؤنا مُفوّهون، جُهلاؤنا حاكمون مستبدّون.
وإذا كانت هذه هي الحال، وهي كذلك بلا أدنى شكّ، فيا أيّها العقلُ، من نكون؟

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية