عن ادريس البصري:

البصري عاش مبعدا في أيامه الأخيرة

المغرب: وفاة أقوى وزير داخلية في عهد الحسن الثاني

خيرالله خيرالله :لم يكن الراحل أدريس البصري الذي أمضى عقدين وزيراً للداخلية في بلده حدثاً عابراً في تاريخ المغرب الحديث. كان رجل مرحلة أرادها الملك الراحل الحسن الثاني، رحمه الله، فوجد فيه الرجل المناسب لها. أنها بكل بساطة مرحلة الأوفقيرية من دون الجنرال أوفقير، أي الرجل القوي الذي يحفظ الأمن في البلد ولا يمتلك في الوقت ذاته الطموحات السياسية لأوفقير. كان أدريس البصري رجل التفاصيل الصغيرة والكبيرة يهتم بها عبر وزارة الداخلية التي صارت في عهده، بين العامين 1979 و1999 من القرن الماضي، المؤسسة الأهم في الدولة المغربية خصوصا بعدما حرص على أن يجمع في مرحلة معينة بين حقيبتي الداخلية والأعلام. والحقيقة أن وزارة الأعلام بقيت في عهدة البصري حتى عندما تخلى عنها وصارت في عهدة وزير آخر يصعب على المرء تذكر أسمه.

أمسك أدريس البصري، الذي توفي يوم الأثنين الواقع فيه السابع والعشرين من أغسطس- آب 2007، بخيوط السلطة لأن الحسن الثاني أراده أن يمسك بها ألى أبعد حدود. تلك كانت أرادة الملك الذي شاء التفرغ لرسم الخطوط العريضة للتوجهات المغربية على الصعيدين الأقليمي والدولي تاركا للبصري الأهتمام بالتنفيذ خصوصا داخل المغرب فصال وجال من دون أن ينسى يوما الحدود المرسومة له من قبل الملك. كان في الواقع رجل مرحلة معيّنة كان الحسن الثاني في أشد الحاجة اليها، فبقي في موقعه، موقع الرجل القوي، طويلا بعدما أبدع في فهم حاجات المرحلة والدور الذي عليه تأديته. فهم ذلك بالحذافير وبالتفاصيل المملة فعمّر في وزارة الداخلية وفي موقع المسؤول عن الأجهزة الأمنية كلها تقريباً. بسط سلطة وزارته على الأجهزة وعلى الحياة السياسية في البلد خصوصا عندما أدرك ما الذي يريده الحسن الثاني تماما وما يرغب به في مرحلة معينة عرف خلالها المغرب كيف يتعاطى مع الملفات الأقليمية على رأسها ملف الصحراء من دون أن يكون أسيرا لها.

كان مطلوبا وقتذاك أن يكون المغرب أسير ملف الصحراء، نظرا ألى أن الهدف الجزائري، الذي لم يتبدل يوما، يمكن أختصاره بأن حرب الصحراء أفتُعلت منذ البداية لتكون حرب أستنزاف للمغرب على كلّ الصعد أقتصاديا وسياسيا وعسكريا. وألأهم من ذلك كله جعل المغرب مكبّلا أسير صحرائه في ظل الحرب الباردة التي كان ملف الصحراء جزءا منها.

كان أدريس البصري ضرورة أملتها ظروف معينة، خصوصا مرحلة ما بعد أوفقير الذي تبين مع مرور الوقت أنه كان وراء محاولتين للتخلص من الحسن الثاني. كانت الأولى في الصخيرات في يوليو ndash; تموز 1971 وكانت الواجهة فيها مجموعة من الضباط جاءت بتلاميذ المدرسة الحربية ليطلقوا النار على المشاركين في أحتفال الملك بعيد ميلاده بشكل عشوائي وعلى الحسن الثاني شخصيا بشكل غير عشوائي نظرا ألى أنه كان هناك من هو مكلف بقتله. وكانت المحاولة الأخرى في أغسطس - آب من العام 1972 فيما كانت طائرة العاهل المغربي تستعد للهبوط في مطار الرباط بعد عطلة صيفية أمضاها الحسن الثاني في فرنسا تاركا البلد في عهدة أوفقير وزير الداخلية والدفاع في آن. فجأة، أطلقت أحدى الطائرات المواكبة، وهي من سلاح الجو المغربي، النار على المقصورة التي كان مفترضا أن يكون فيها الملك، لكن الحسن الثاني نجا بأعجوبة وتوجه ألى مقدم الطائرة وتحدث بأسم قائدها طالبا من برج المراقبة السماح له بالهبوط quot;لأنّ الملك أصيبquot;. في المرتين، أستطاع الحسن الثاني أنقاذ حياته بنفسه. في الصخيرات، تصدى لتلميذ الضابط الذي رفع سلاحه في وجهه وطلب منه أن يقبل يده، فرضخ التلميذ، الذي هو مواطن مغربي قبل أي شيء آخر، لرغبة أمير المؤمنين. وفي الطائرة التي أخترقت الرصاص مقصورة الركاب فيها، أخذ المبادرة وأقنع برج المراقبة بأن الملك أنتهى. بعد المحاولة الثانية، تكشف للملك الوجه الحقيقي لأوفقير الذي يُروى أنه quot;أنتحرquot; بأكثر من رصاصة واحدة في رأسه في الساعات التي تلت المحاولة الفاشلة لأغتيال الملك.

لا يمكن فهم الحاجة ألى رجل مثل أدريس البصري في مرحلة ما من دون التمعن في هذين الحدثين المهمين وما تركاه من آثار في نفس العاهل المغربي الراحل. بعد غياب أوفقير، بقيت الحاجة أليه، أي ألى رجل قوي ولكن من دون طموحاته السياسية. هذا ما جسده أدريس البصري الذي أحاطته المعارضة المغربية بهالة لا يستحقها. الدليل على ذلك أنه بمجرد دخول المغرب في عهد جديد، لا حاجة فيه ألى رجل قوي، هو عهد الملك الشاب محمد السادس، أُعفي أدريس البصري من منصبه في نوفمبر ndash; تشرين الثاني 1999 من دون ضجة تذكر. أخطأ أدريس البصري بعدم الأنصراف بهدوء وبذهابه ألى فرنسا. عندما تكلم لاحقا عن المغرب لم يحدث أي ضجة. لم يفهم أن دوره أنتهى وأنه كان مدينا بكل شيء، بما في ذلك سطوته، للحسن الثاني. لم يفهم أدريس البصري أنه لم يعد لديه حتى ما يقوله وأن الأسرار التي يستطيع أن يهدد بها ليست أسرارا بما في ذلك موت الجنرال أحمد دليمي quot;في حادث سيرquot; أقل ما يمكن أن يوصف به أنه غامض وذلك في يناير ndash; كانون الثاني من العام 1983 عشية وصول الرئيس فرنسوا ميتران ألى مراكش. لن يمر وقت طويل ألا وستعرف كل تفاصيل quot;حادث السيرquot; الذي وضع نهاية لحياة جنرال طموح آخر من مدرسة أوفقير. جنرال حقيقي ربح حرب الصحراء عسكريا عن طريق أستراتيجية quot;الجدرانquot; التي عطلت الهجمات التي كان يتعرض لها الجيش المغربي. وسيعرف أيضا ما أذا كان الجنرال دليمي أراد قطف ثمار نجاح أستراتيجيته العسكرية سياسيا عن طريق محادثات سرية مع ضباط جزائريين في جنيف أو غير جنيف. كذلك لن يمر وقت طويل ألا وسيعرف كل شيء عن عملية خطف المعارض المهدي بن بركة في باريس ثم تصفيته والأسباب التي أدت ألى ذلك ومن يقف فعلا وراء عملية الخطف. لا حاجة ألى أدريس البصري لكشف أي سر من الأسرار. السر الوحيد الذي يدفن مع أدريس البصري هو ذلك المتعلق بالأسباب التي جعلت ذكاءه يخونه في مرحلة ما بعد أعفائه من موقع وزير الداخلية. ألم يعي أن المغرب دخل عهدا جديدا أسمه عهد محمد السادس وأن لا رجل قويا بعد الآن؟ فاته ذلك. أنه من أولئك الذين لم يدركوا أن حدود الذكاء عند الأنسان تتوقف عندما يستخف بذكاء الآخرين! ربما نسي أدريس البصري، تغمده الله برحمته في أي بلد كان في موقع وزير الداخلية ...