كنت أتجوّل في مكتبي، مفكرًّا فيما بعد الممات، فهرعت - كما يهرع رجال الدّفاع المدني إلى أماكن الحريق- هرعت إلى رفّ الوصايا، على اعتبار أنّ الوصايا هي رسالة الأموات الخالدة.. تلك الرّسالة التي لا يدركها التّعب، ولا يمسّها الوصب.
في الرّف، وجدت كتيب quot;وصيتيquot; للأديب الكاتب أمين الرّيحاني، منتبذًا من المكتبة مكاناً قصيّا! وإلى جواره يقبع كتاب يُسمّى quot;أغرب الوصايا في الغربquot;.. للأستاذ سيِّد صدّيق عبدالفتّاح.
في تلك اللّيلة التي ستر النّجوم ظلامها، فكّرت بالرّحيل عن هذه الدّنيا التي كانت تُسمّى quot;المعمورةquot;، فأضحت بفعل البشر الأشقياء، تُسمّى quot;المهدومةquot;. نظرت إلى كفّي، فوجدتها خالية إلا من الأصابع العشرة، واحد للتّشهد، وتسعة تستخدم للكتابة.. نظرت إلى الحال، فتذكّرت ببيت الشّاعر الشّحّاذ المتنبي عندما قال:
لا خَيْلَ عِنْدَكَ تُهْدِيْهَا ولا مَالُ
فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لَمْ تُسْعِدِ الحَالُ!
حسنًا.. على نظرية المتنبي، مع خلوِّ اليدين من زينة الحياة الدّنيا، طفقت في كتابة وصيّتي منطلقًا من عرض quot;النّطق السّعيدquot; أو الألفاظ المريحة. لذا ستكون الوصيّة على النّحو التّالي:
نظرًا لما أمتلك من قواميس ndash; بحكم طول العشرة ndash; فقد وهبت ثلث المعاجم اللّغويّة من أمثال quot;لسان العربquot; وquot;القاموس المحيطquot; وquot;الجاسوس على القاموسquot;، وهبنا ذلك كلّه للقرّاء، فليقرؤوها مثنى وثلاث ورباع. أمّا الشّعراء والمبدعون والعشّاق فقد وهبت لهم quot;العالم الخياليquot; الذي كنت أعيش فيه، كما وهبت للأطفال أناشيد الصباح وقصص المساء، ابتداءً من quot;أم العنزينquot; حتّى أنشودة quot;ربوع بلاديquot;! والشّباب وهبت لهم التّمتّع بمشاهدة كرة القدم، وخاصّة مباريات فريق الاتّحاد، quot;هذا المارد الشّديد في الزّمن العنيدquot;، كما أُوصى لهم بكلّ دواوين الشّعر الغزالي، العذب منها وغير العذب، مردّدًا مع كلّ واحد منهم قول الشّاعر صريع الغواني:
لا تُخْفِ مَا فَعَلَتْ بِكَ الأشْواقُ
واشْرَحْ هَواكَ فَكُلُّنَا عُشَّاقُ
فَعَسَى يُعِيْنُكَ مَنْ شَكَوْتَ لهُ الهَوَى
فِي حَمْلِهِ، فالعَاشِقُونَ رِفَاقُ!
أما الكُتَّاب والمثقّفون فقد أوصيت لهم بكُتب الجاحظ والمنفلوطي والرّافعي ومقدمة ابن خلدون وحسن أولئك رفيقا. والعائلات نصيبها من وصيتي الحدائق العامّة، والسّاحات الخضراء والغبراء، والجوِّ اللّطيف، والهواء النّظيف، فليجلسوا فيها، وليمشوا في مناكبها لعلّهم يفرحون.
كما أوصيت لمن بعدي من العرب والمستعربين بالحروف الهجائيّة، على أن يستخدموها في ما يُرضي الله، وعليهم مراعاة قواعد الإملاء، والإكثار من استخدام همزة الوصل لأنّها تصل بينهم، والحذر من همزة القطع فهي بعيدة عن معاني الوصال.
أمّا بالنسبة للأراضي والنُّجوم والسَّماء، فهي من أملاكي، فقد وهبها لي جدي الشّاعر إيليا أبو ماضي، عندما رآني quot;عبوسًا قمطريراquot;، فقيرًا مستطيرًا، عندها سألني قائلاً:
لِمَ تَشْتَكِي وتَقُولُ إنَّكَ مُعْدَمُ
والأرْضُ مِلْكُكَ والسَّما والأنْجُمُ؟
عَطْفاً على ذلك، فقد وهبت السَّماء لطائراتكم على شرط ألا ترضُّوا برجًا، أو تؤذوا طائرًا، أو تخطفوا راكبًا.. كما وهبت النُّجوم للهائمين التّائهين، العابرين الذّاهلين، وأحذّركم من quot;القمرquot; فقد طردته من quot;ثروتيquot; لأنّه خدع نبينا إبراهيم عليه السّلام حين أضاء له ثمّ أفل فقال عليه السّلام: quot;يا قمر.. إنّي لا أحب الآفلينquot;، الأمر الذي جعلني أصرخ بوجهه الآفل قائلاً:
لَمْلِمْ ضَيَاءَكَ، وارْحَلْ أيُّها القَمَرُ
ما عَادَ يَهْواكَ لا لَيْلٌ، ولا سَهَرُ!
أمّا الأرض فهي أمُّ المشاكل، فبسببها، قامت وتقوم quot;أمّهات المعاركquot;، لذا اجعلوها شراكة بينكم، واسعوا في ممرّاتها وطرقاتها، وأعطوا الطّريق حقّه، ولا تتنازعوا عليها، واعملوا أنّها أرض الله، ولا تصدِّقوا ذلك الفلاح العراقي الذي أقسم بالذي رفع سبع سموات وأنزل ستة أراضين،
فقال له القاضي ويحك أين الأرض السّابعة؟ فقال الفلاح على الفور: quot;أخذها الإقطاعيّونquot;!!
هذه وصيّتي تمسّكوا بها، وعضّوا عليهم بالنّواجذ والكمبيوترات، وأرسلوا صورة مع التّحية إلى المؤرّخين والتّراثيّين وأهل المتاحف والآثار. والله من وراء القصد.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه