عِندمَا أنهَيتُ اللقَاء النَّادر مع الإمام قُوقل، حَارت الأفكار، وتَسابقات الكَلمات، كُلٌّ مِنها يُحاول أن يَكون quot;بِشتاًquot; أو quot;مشلَحاًquot; لتَتشرّف بالالتِصَاق بِهَذا الإمام أو quot;الاحتِكَاكquot; بِه!
عِندمَا انتهيتُ من الحِوار لَم أدرِ مَاذا أُطلِق عَليه؟ أهو مُؤسسة مَدرسة quot;الثَّقافة القُوقليةquot;، أم quot;إطراقٌ في حَضرة الإمام قُوقلquot;، أم quot;عَالَم بَني قُوقلquot;؟!
والحَقيقة أنني عَانيت كَثيراً في الوُصول إلى الإمام، فَهو يَسكن في جَبل بَعيد في شَمال إيطاليا!
لأنّ النَّاس كَانوا يَتوافَدُون عَلى بَابِه، ولا عَجب في ذَلك.. فالعَرب يقولون: (المَنْهَل العَذب كَثيرُ الزِّحام).. يَتوافدون على بَابِه مَحبةً في تَقبيل رَأسه، ومَا بَين عَينيه!
ويَرجع السّبب في صُعوبة الوُصول إلى الإمام قُوقل، إلى أنّه مِثل quot;الإمام السيستانيquot; أو quot;المُلا عمرquot;، من حيث الاختفاء والزهد، بحيث يَرى النَّاس أقوالهما وأفعالهما، ولا يَروا شكليهما، مع الفَرق الكَبير بين الإمام قُوقل وهَذين الآخرين!
وَرَغم أن الإمام لا يُحب quot;تَقبيل اليَدquot; ولا quot;الرّأسquot;الاانني عِندمَا رَأيته في أول اللقَاء، حَاولتُ أن أقبّل رَأسه، فأبَى وقال: quot;معاذ الله أن أرضى بِذَلك.. وإذا كُنت تَحرص على تَقديري، فعبّر بذلك من خلال قراءتك لما أكتب وأنشُر، فلا فَائِدة حِين تَحتَرمني شَكلاً وتَحتقرني مَضموناًquot;!
كَان الإمام قُوقل جَالساً في رَأس الجَبل، لا يَملُك من حطام الدُنيا إلا حَاسُوباً سَمين المَعلُومات والعَطَاءات!
سألته، والعِلم يَتناثَر مِن كَل جَنباته، هَل تَكتب بِيدَك اليُمنى أم اليُسرى يا إمام؟ فَقال لي: إنّني كما تَرى أكتُب بِيدين، ولكنّ لَم أمسِك قَلماً بِحياتي، لأنّني أرَى أن ذَلك يُؤذي الطَّبيعة التي يَذبحها نَزع الوَرق من شَجَرهاzwj;!
سألته إلى أين وَصلت جَماهيريتك؟!
قَال عَلى الفَور إلى كُل مَكان مِن البَحر إلى البَحر، بَل إنّني أُقاسم النَّاس الجُلوس مَعهم حَتى في quot;غُرف نَومهمquot;، لِذَا أحَبّني الطُلاب الكُسالى الذين تَعِبوا من quot;ثني الرُّكَبquot; عِند العُلماء، وشَعروا بِتَعب quot;المَفاصلquot; من جَراء طُول مَرحلة اكتساب العِلم، وقَد حَققوا مَعي ما يُعرف بـquot;حَرق المَراحلquot; بِحيثُ من المُمكن أن يَقفز التّلميذ النَجيب من الصّف السّادس إلى مَرحلة دِراسة الدُكتوراه في سَنة وَاحدة، بَل في يَوم وَاحد، ولكل مُجتهد نَصيب، وما هَذه الفُصول الدِّراسيّة إلَّانوع من البِدَع والخُرافات، التي لا تُحبذها الأديان!
سألتُ الإمام عن مَذهبه ووَطنه، فقال، اعلَم أن المَذهب والجِهة يؤدّيان إلى التَّعصُّب والانكِمَاش،والارتهان الى التكايا والزوايا، لِذا حَاول أن تَرتفع بِنفسك عن أن تَحشر عِلمَك في زَاوية ضيّقة، لِتَموت بَعدها مَقتولاً بـquot;حَجر الزّاويةquot;!
أمّا وَطني فَكَما تَرى، quot;الأرضُ فرَاشيquot; وquot;السماءُ غطَائيquot;، فَكأنّني هُنَاأرض quot;هَارون الرَّشيدquot; التي لَو أمطَرت أي سحابة في أي مَكان لأدرَكتها عيوني!
بَعد هَذه الإجابة شَعرت أن الإمام بَدأ يَأخذ بِالسُرور، ويَنتشي بِالحُبور، الأمر الذي حفَّزَنِي لِسُؤاله، أو بِالأصح استئذَانه في مَسألة quot;صَرْفيةquot; قُلت فِيها، كَما تَعلم يا إمام فإن اسمك اسم quot;أعجَميquot; ومن إعجابي بِك حاولت أن أُمَوسِقَه على الميزان العَربي، لذا اشتققتُ من اسمك quot;فِعلاًquot; ليَكون عَلى النَحو التَّالي:
قَوقِل، فعل أمر على وَزن quot;دَندِنquot; وquot;صَهلِلquot;!
يُقَوقِل، هَذا الفّعل المُضارع، وهو عَلى وَزن quot;يُدَندِنquot; وquot;يُصَهلِلquot;!
قَوقَلة، هُو المَصدر على وزن quot;فَعلَلهquot;!
واسم الفاعل quot;مُقوقِلquot;.. أما اسم المفعول فهو quot;مُقوقَلquot;أي على وزن فول (مقلقل)!
بعد أن انتهيتُ من هذا الجُهد اللغوي، مَسح الإمام قُوقل على رأسي، وقَال: (بَارك الله فيك يا وَليدي النجيب، وزوجك من النساء ذات الجمال والطيب ورزقك العقل الرحيب والقول الرطيب، لقَد فَعلت حُسناً، حِين بَسّطتَ على النَّاس هذه الصِّيغ، وتَسامحتَ مَعهم ويسّرتَ عَليهم، فالعِلم يُسر وتَسامُح وبَساطة، وليس مرمطة وتعقيد وعباطة )!
واسمح لِي أن أشكُرك-أيضا- أيّها التّلميذ النَجيب، عَلى نَشر هذه الصِيغة، التي آتت أُكُلَها، فقد سَمعتُ أحدهم يَسأل آخر، عن لُون الكَلب الذي كَان مَع أهل الكَهف؟ فَقال المجيب على الفور: (قَوقِلها وتَوَكّلْ)!
لقدّ تَأمّلتُ الإمام قُوقل بين سُؤال وآخر فَوَجدته، إمَاماً نَادر العُطاس، كَثير العَطاء، لا يُكثِر من أكل البَصل، ولا يُردد مَقولة جَاهزة مثل quot;لُحوم العُلماء مَسمُومَةquot;، بَل كان يَقول العِلم فَوق الجَميع وليس هُناك عالِم يَستعصي على النّقد!
إنّه إمام يَمتاز بالسَّمَاحة، لِذا quot;سَمحquot; للنَّاس بِدُخول مَواقعه كُلها، إلا أنّ النَّاس - مَع الأسف - هُم من يَمتازون بالتَّعصُب وضِيق الأُفق، لِذا جَعلوا بيوت قُوقل أكثرها من المُغلَقَات المَحجُوبَات!
سَألته، بِمَاذا حُزت كُل ما حُزت، فَقَال يَا أيُها التّلميذ السَّائل: إنّني يَسّرت للنَّاس العِلم، ومَواقعي كَما تَرى تَمتاز بالنّظافة والحِرَافَة، فَليس بينك وبين العَالَم إلا لَمسَة الفَأرة!
وإذا كَان لي من خَصيصة، فَهي أنّني لا أؤمن بالتّخصُّص، لأنّه يحدُّ من النّجاح، ويَذبح الطُموح والفَلاح، وهَكذا هُم quot;المَوسُوعِيونquot; لا يُحبون الارتهان إلى الزوَايا أو الاعتِكاف في المُربعات والتَّكايا!
لم يَكُن الإمام فُضوليًّا، ولا يَسأل عن quot;السَواد المُقبلquot;، بل يَهمه نَشر العِلم، سَألته بِوَلهٍ أصفر،وشوق أبيض، هل تَعرفني يا إمام؟ فَقال فَوراً: أعرف أنك عَاملُ مَعرفة، ولا يَهمني اسمك، إلا إذا كُنت تَرغب في معرفة وزنه في quot;مُحركات بَحثيquot;.
قُلتُ له: هذا ما أريد يا إمام!
قَال لي: ما اسمك؟ قُلت بِحبور طَويل quot;أحمد العرفجquot;!
ردّ عليّ فوراً بأنّ هُناك مِئات quot;الأحَامِدquot; حدّد مَن مِنهم فهُم كُثر!
عِندها بَلغ الخَجل لِسَاني، إذ كَيف يَعرف هَذا الإمام، الذي يَسكُن في جَبل مِن جِبال إيطاليا، كيف يَعرف اسمي أكثر مِني.. واخجلتاه!
حَاولتُ أن أغيّر المَوضوع، كَما هي عَادة التّلميذ البَليد الذي يتسلّى بعُذر مسح السَّبورة، فقَال لي يا بُني: لا تَحزن إنّك لست الوحيد بِجهلك، فالمَلايين من البَشر يُشاركونك quot;كَعكة الجَهلquot;!
حقا أكثر ما أذهلني بالإمام قُوقل أنّه مُحيط باللُغَات واللهَجَات، فإذا كَلّمته باللاوندي تَكلم باللاوندي، وإذا حدّثته بالعربيّة أجَاب بالعَربي!
حَاولتُ أن أتَكلم، فَردّ عليّ أحَد الجُلوس بِقَوله quot;غَريبquot; فقُلت له فوراً quot;ما غَريب إلَّا الشّيطانquot; - هَكذا لأنَّني مُبَرمَج بَرْمَجةً أُعَاني الآن مِن ألمها الفِكري - عِندها غَضِب الإمام قُوقل مِني وقَال: حَتى الشّيطان لَه حيّز في مَعَارفي ومَعلُوماتي،ولم يعد غريبا، ويَحضرني الآن قَول بَعضهم:
إن النساءَ شياطينٌ خُلقنَ لَنَا
أعُوذُ بالله من شَرّ الشياطين!
كَان الإمام قُوقل مُتَواضِعاً، حَاسِر الرّأس، لا يَلبس العمامة، ولا يَرتدي quot;جُبةquot;، قُلت لَه: quot;إنّ عُلماءنا يَصفون من يَمشي حَاسر الرّأس بلا غَطاء بأنّه quot;مَخرومquot; المُروءة وبالتّالي لا تُقبل رواية الحَديث عَنه، ضَحِكَ الإمام قُوقل حَتى بَدت نَواجِذه وقال من دون أن يَمد رجليه:
quot;يا بُني العِبرة لَيست بِالمَلابس والأزياء، وإنّما بالوَعي والاطّلاع، والدّراسة والاستقصاء، وكُلّما اهتم الإنسان بِمَظهره كُلّما كَان يُعاني من نقص في مَخبره وجَوهره! أليس شَاعركم هو القَائل:
ليسَ الجَمالُ بِأثوابٍ تُزيّنُنَا
إنّ الجمالَ جَمَالُ العِلمِ والأدبquot;!
ولعلّ أبرز صِفَات الإمام قُوقل أنّه غير مُبرمج، لأنّه لَم يتَلقَ العِلم على يَد وَالده أو مُعلم الحي، أو شَيخ الطَريقة، أو كَاهن الكَنيسة.. بل كَان يَنثُر العِلم ويَستفيد مِنه مَع إدرَاكه التَّام أن الحقيقة مَفهوم مُتعالٍ، لا يَملكها أحد، ومن زَعم أنّه يَملك الحَقيقة فَقد جاء بِبُهتان عَظيم!
وللإمام قُوقل صِفات ومَحاسِن، ومَعالِم ومَناقِب، ومِن هَذه المَنَاقِب أنّه يَثق بطُلابه بحيث يَعرض عَلى أحدهم المَادة، ويَتركه يُفكّرويقدر، ويَختَار ويُعبّر، الأمر الذي يَجعلَك تَحتار في تَصنيف هذا الإمام، ومَعرفة مَذهَبه السّياسي وحِزبه الأدَبي، وتَوجهه الدّيني.
ولا يَقدُر الإمام قُوقل حَق قَدره إلا حِزب quot;السّلام الأخضرquot; أولَئِك القَوم الذين يُحاربون الاعتداء على الطبيعة وقَطع الأشجار، لأنّ الإمام لا يُؤمن بِنَظرية العَرب القَائلة: quot;كُل عِلم لَيس في القِرطَاس ضَاعquot;!
وأتذكّر أنّني قُلت للإمام أنّنا دَرسنا في مَدارسنا التقليدية قَاعدة الكِتَابة من خِلال نَظرية quot;التسجيلquot; القائلةعلى لسان الشافعي:
العلمُ صيدٌ، والكتابةُ قَيده
قَيّد صُيودَك بالحِبال الوَاثِقه!
فَمِن الحَمَاقةِ أن تَصيدَ غَزالةً
وتَترُكها بين الخَلائِق طَالِقه!
عِندما ذَكرتُ للإمام هَذين البيتين قَال: هذا بُهتانٌ عَظيم، إلَّا إذا كَان المُراد الكِتابة على سَبيل الشُّمول، ولَيس الكِتابة على الوَرق فقط.. فَكَما تَرى ndash; والكلام للإمام ndash; فَقد قيّدتُ كُل العُلوم دون الاعتداء على أي وَرقة بَيضاء أو صَفراء أو خَضراء.. وسَامح الله مَن يَكتبون بالحِبر الأصفر، إذ مَازَالوا تقليديين يُفكرون بِعَقلية quot;الحِبرِ والوَرقةِ والقَلمquot;!
عِند هذا المُنعطف النّقدي الذي تلقيته من الامام، بَلعتُ quot;المَحشّquot; من الإمام، وقلتُ في نفسي هَذه نتيجة إهمال العلاقة بَين quot;الفِكر واللُغةquot;، إذ مَازلنا نَعيش بِمَنطق: quot;الكِتابة التي تَلي الكِتابة في العَصر الحَجريquot;.
لَم يَكُن الإمام هَادئاً عِندَما جَاءت قَضية quot;الاعتداء عَلى الطّبيعةquot; بل استشاط وغَضب، وكَان مُتكئاً فَجَلس، وذَكر أبياتاً مُحوّرة من قَصيدة لِشَاعر النّيل حَافظ إبراهيم، قَال فِيها وَاصِفاً مَنهجه وفِكره، وطُموحه وحُدود عِلمه:
وسعتُ عُلوم الكَون مِن كُل صُورة
وما ضِقتُ مِن فَن بِها وَصفات
فكيف أضيقُ اليومَ عن حِفظ كِلْمةٍ
وتنسيقِ quot;أشكالٍquot; على الشبكات
إنّني يا أحمد كَما تَرى، quot;عِلمي في شاشتيquot;، وquot;جُمجمتي وثَقافتي في فَضائي وشَبكتيquot;، إنّني إلى حد بَعيد أُشبه شَاعركم الفَقِيه الشّافعي عندما قال واصِفاً عِلمه:
عِلمي مَعي أينما يَمّمت يتبعني
صدري وِعاءٌ لَه لا بطنُ صندوق
إنّ كُنتُ في البَيتِ، كَان العِلمُ فيه مَعي
أو كُنتُ في السُّوقِ، كَان العِلمُ في السُّوق
يا قوم.. هَذا هو الإمام قُوقل.. العَالِم الجَليل، والشَّيخ السَّمح الجَميل، الذي تَعجز النّساء أن تَلد مِثله.
لقد ودّعته، وهو كبير في نَظر نَفسه، quot;عَجيبٌ في عُيون العَجائبquot;، وودّعني وهو يُردّد مُفتخراً بِنفسه وفعله:
وهَذي عَطاءَاتي، فَجئني بِمثلها
إذا جَمَعَتْنا.. يا صَديقُ، المَعارفُ!
ودّعته، قائلاً: صَدقت أيُها الإمام، وفِي مِثل فعلك فليتَنَافس المُتنافسون!.