هناك وجوهٌ كثيرةٌ، تراها في فاتحة لقاءٍ، فتشعر بأنك أمام وجهٍ مألوفٍ هادئٍ دافئٍ، يتخلّل الأضلاع، ويتوغّل في الفؤاد.. وأبوعبدالإله محمد بن فرج التونسي - وفّقه الله أينما ذهب - من أولئك النّفر، الذين تشعر بحبهم أو (بِبُغضهم) عند اللقاء المبدئي، أو الصدمة الأولى..!! وأبوعبدالإله، تقترب منه كلّما عرفته، حتى لا يبقى بينك وبينه إلا أن تفكرا بصوت واحد..!! وحبّي لأبي عبدالإله جزء من ولائي للمدينة المنيرة - على ساكن ثراها الصلاة والسلام - حيث يجمعنا هو وأنا طفولة مدنية، وحارات من طيبة الطيبة، تركها العمران، ونسي هدمها.. أتذكر أبا عبدالإله، وهو شاب لم يتجاوز العشرين، يصحبه والده (العمّ فرج) رحمه الله إلى المسجد النبوي، ليُصلي بالناس بين التراويح والقيام، كان والده يتمنى هذا الفتى (الصحفي) أن يكون إما عالم ذرّة أو إمام مسجد، فترك رغبة الوالد، واتجه إلى الصحافة، لأنه وجد نفسه في روائح الحبر، ولفائف الورق، و(الخبطات الصحفية)، لأنها أرقّ وألطف من (خبط البشر)..!!
قبل سنوات، كان الأستاذ محمد التونسي، ضيف حوارٍ في اليمامة، فقال: (لن أستمر في رئاسة التحرير أكثر من عشر سنوات)، لأن تجديد الدماء من نسيج التونسي الفكري، وحقّق ما وعد، وترك رئاسة تحرير الاقتصادية، مع أن القوم الأعاريب كشعرائهم (يقولون ما لا يفعلون)..!! قد يكون من المُهم أن نقول إن محمد التونسي كبر على يدي الاقتصادية، ولكن الأهم أن نقول إن الاقتصادية كبرت أيضاً على يدي محمد التونسي وطائفة من الذين معه، إنه الرجل الذي أشعل خطوط التّماس بين المُستهلك والمسؤول، وأوجد فكراً اقتصادياً شعبياً، حين جعل نظرية العرض والطلب، كقصيدة للمتنبي، يحفظها المستهلكون، ويردِّدها المُحتاجون.. وقبل أن يترك التُّونسيّ الاقتصادية تَحصَّل على إشادة من سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز للاقتصادية، فأصبحت الإشادة حِزاماً من الحب والتقدير، يحميها من السؤال والاستفهام، ويُدخلها في إطار الصدق الصحفي والعمل المُخلص، مُعتبراً التُّونسيّ نفسه مفرداً بصيغة الجمع، عادًّا الإشادة تتجاوز خصوص السبب إلى عموم اللفظ..
والآن ها هو أبوعبدالإله محمد بن فرج التُّونِسِيّ يتولى رئاسة تحرير جريدة عُكاظ ولهُ منَّا كل الدُعاء والمُساندة والدَّعم والمُعاضَدَة.. كيفَ لا وهو الصحفيّ الذي ابتكر مدرسة جديدة في فنّ الصحافة السعودية الحديثة.. وهُنا لابُد أن أذكُر شهادةً لله ثم للتاريخ ثم للأجيال القادمة.. شهادة قالها لي السيد/ هشام علي حافظ* قبل وفاته ndash; يرحمه الله ndash; بشهر بحضور الصديقين الكاتبين أحمد عدنان وأنس زاهد قال: (إن محمد التونسي أفضل رئيس تحرير مرّ على الشركة)، فبَادرته سائلاً: كيف حقق ذلك؟ فأجاب بقوله: (أنت تُخبره بما تُريد واترك الباقي عليه.. أي أرسل حكيماً صحفيًّا ولا
توصِه)
أكثر من ذلك سألت الصحفي النادر /سلطان القحطاني عن الاستاذ التونسي _ بحكم أن الأخير عمل في ايلاف _ فقال:
(كان ابو عبدالاله كتلة حريق لا تنطفئ., لهبٌ يسير على قدمين,
أو طقطقة أصابع قلقة لا تتوقف عن صناعة الفكرة تلو الفكرة، والسبق تلو السبق، والخبطة في ظهر أختها.
لم يعرف الركون إلا أحياناً حينما تفرض عليه الخطوط الحارة أن يقف بعيدا عن الجسر حتى لا تسحبه مياه النهر الغاضبة من تحته.
كان مؤمناً بإنه من الأفضل أحياناً إراحة جياد العربة قبل عبور الجدول الصغير الراكد، تماماً مثل إيمانه بأن الحرب خدعة، وأن الهدنة جائزة شرعاً إن أقتضت لها الضرورات.
شخصياً، لقد حظيت منه باهتمام كان يفوق حجمي عشرات المرات، ولا أعرف ماالسر الذي يجعلني حوارياً لكل الأنبياء،
بيد أنني لا زلت مفتوناً بتلك اللحظات الساحرة التي قضيتها بين يديه تحت أب علمنا جميعاً السحر، وهو الصحافي الأسطوري الكبير الأستاذ عثمان العمير، فلولاه لما كانت هناك جياد، ولا عربة، ولا نهر، ولا طقطقة أصابع قلقة)
أخيرا أقول من القلب
أبا عبدالإله.. ألف مبارك لك.. ورُفعت في الدارين.
...................................
(*) مؤسس وصاحب أكبر إمبراطورية صحفية في الوطن العربي (الشركة السعودية للأبحاث والتسويق).