quot;الحريةquot; واحد من آلاف المفاهيم التي نحتها الإنسان، لتصير له بمثابة علامات إرشادية، تعينه في مسيرته التي يظنها تتجه دائماً نحو الأفضل، لكن تلك المفاهيم/ العلامات لم تسلم من عبث الإنسان بها، فيسيء فهمها تارة، ويحولها أو يفرغها من مضمونها تارة أخرى، وقد يعاديها ويصب عليها اللعنات، أو يُفْرِط في استعمالها إلى درجة الابتذال، وقد يستخدمها للتزيين والتضليل، فيطلقها على واقع معاكس تماماً لما تشير إليه، كما لو كان كتابة كلمة quot;سكرquot; على عبوة تحتوي ملحاً كفيل بإكساب محتواها مذاقاً حلواً.
قال جان جاك روسو في مستهل كتابه quot;العقد الاجتماعيquot;: quot;ولد الإنسان حراً إلا أنه مكبل في كل مكان بالأغلال. على ذلك النحو يتصور نفسه سيد الآخرين الذي لا يعدو أن يكون أكثرهم عبودية. فكيف جرى هذا التغيير؟ أجهل ذلك. وما الذي يمكنه أن يجعله شرعياً؟ أعتقد أنني أستطيع حل هذه المسألة.quot;
الحرية الفطرية التي يتصورها روسو هي منهج حياة، يتمثل في كل فعاليات الإنسان وممارساته العملية، فالإنسان الحر هو من يعبر عن نفسه وتطلعاته ويحقق إمكانياته بحرية، وقد كانت تلك الحالة متاحة نظرياً عندما كان الإنسان يعيش منفرداً في مرحلة الالتقاط، حين كان يجول حراً، ملتقطاً غذائه من الأشجار، لكنه ما أن بدأ يجتمع مع غيره، حتى تطلب الأمر الحد من هذه الحرية، بالقدر اللازم لإمكانية توافقه منع آخرين في معيشة مشتركة، وكانت تلك النقطة بداية الطريق لتنازل الإنسان عن بعض من حريته، لكنها كانت في البداية مقابل مكاسب أكبر يجنيها، كثمرة للتعاون مع آخرين، حفاظاً على حياتهم المشتركة.
عوامل عديدة بعد ذلك دفعت نحو استلاب حرية الإنسان، دون مقابل من مكاسب يجنيها، فقد تم الاستلاب لصالح جهات عديدة، أبرزها تحالف السلطة السياسية مع رجال الدين، ليصل إلى الإنسان إلى الحالة التي وصفها روسو في منتصف القرن الثامن عشر بأنه quot;يتصور نفسه سيد الآخرين الذي لا يعدو أن يكون أكثرهم عبوديةquot;، ونستطيع أن نقول أن الإنسان بدأ منذ القرن الثامن عشر يسعى لاستعادة ما سلب منه من حرية خلال القرون السالفة، وكان لابد أن يصطدم بتحالف رجال السلطة/ رجال الدين، فقد كان عليه أن يتخطى ويقفز فور حواجز عديدة أقامها ذلك التحالف، ليُبقي الإنسان سجيناً داخل حدودها، ولقد كان ومازال أعلى حاجزين منها هما حاجز الوصم بالخيانة والكفر، لكل من يحاول الخروج من قوقعة العبودية.
عند مقاربتنا لمفهوم quot;الحريةquot; نجد أنه عبارة عن شكل ومضمون، الشكل يمكن تشبيهه بالعبوة أو الصندوق، والمضمون هو محتواه، لكن العلاقة بين الشكل والمضمون أكثر تعقيداً مما يبدو عند المقارنة بهذا التشبيه، الذي يحرض على تصور الانفصال التام بين الشكل والمضمون، وإن خرجنا منه برؤية واحدة، هي أن الشكل بلا مضمون كعبوة فارغة، أي ليس أكثر من وهم أو خدعة.
بين الشكل والمضمون علاقة عضوية، بحيث يستلزم كل منهما الآخر ويستدعيه، إلى الحد الذي يخدع الكثيرين فيخلط بينهما، بل وصار هذا الخلط أحد الآليات المستخدمة لوقف زحف الإنسان نحو التحرر، حين تدفع القوى المهيمنة الإنسان للتوقف في سعيه عند مجرد الشكل، موهمة إياه بأنه قد وصل إلى مبتغاه، في حين أنه لم يصل إلا إلى عبوة فارغة.
الشكل في مفهوم quot;الحريةquot; هو عبارة عن مجموعة القواعد والنظم المجتمعية التي تتيح للإنسان أن يمارس المضمون، والمضمون هنا هو حالة حياتية يعيشها الإنسان، تتيح له أنه يعبر عن نفسه بصدق، وأن تنطلق كل ملكاته الإبداعية، وأن يشبع نوازعه الإنسانية الفطرية والمكتسبة، دون ما عوائق أو حواجز.
فإذا تحدثنا مثلاً عن حرية الاختيار، نكون نتحدث عن الحرية من حيث الشكل وليس المضمون، فأن تخيِّر عبد بين أن يظل تحت عبودية سيده، أو أن يتحرر ويذهب إلى حال سبيله، فإذا ما اختار بملء إرادته أن يبقى تحت نير العبودية، فإن هذا الشخص يكون قد صار حراً من حيث الشكل، لأنه اختار الحالة التي يتواجد عليها، لكنه لم يصر حراً من حيث المضمون، فهو سيمارس حياته وفق ما يأمره به سيده، وستظل ملكاته الفكرية والشخصية مرتهنة بطرف خارجي هو سيده، وإذا عممنا هذه الحالة، واختار شعب أن يظل مستعبداً لحاكم ديكتاتور، زين له أنه قادر بإرشاده وتوجيهاته أن يحقق له المجد والرفعة، أو لحفنة من رجال الدين، يدَّعون أنهم سيوجهونه وفقاً لتعاليم السماء، فإن مثل هذا الشعب لا يكون قد انتقل من حالة العبودية إلى حالة الحرية، فقد مارس الحرية من حيث الشكل، وضاع منه مضمونها، مادامت حياته ستظل مرتهنة بما يفرض عليه من قيود وأوامر ونواهي، فالأمر هنا يشبه أن تحصل على عبوة مكتوب عليها quot;حريةquot;، لتجد بداخلها أشواك العبودية، بدلاً من زهور الحرية، فرغم أن الحرية قيمة مطلوبة للإنسان بذاتها، إلا أنها أيضاً وسيلة لاستفادة الإنسان من انطلاق ملكاته الإبداعية، وتسخيرها لتأسيس حياة أفضل وأرقى.
نحن لا نستطيع مثلاً أن نصف محاكمة سقراط في ديموقراطية أثينا بأنها كانت محاكمة حرة وعادلة، رغم أن الحكم قد أصدره مجتمع أثينا كله، فلقد حكموا بالموت على أحكم حكماء ذلك العصر، وحكموا بالموت معه على حرية الفكر، بل وحرية التساؤل، حيث لم يفعل سقراط أكثر من طرح أسئلة، ليحرض الناس على التساؤل، فهل يمكن أن نصف شعب محروم من التساؤل، بأنه شعب حر؟
لم يحصل الشعب الإيراني أيضاً على الحرية، رغم أنه أطاح بدكتاتورية الشاه بثورة شعبية، لكن حرية الشكل لم تصل به إلى حرية المضمون، حين دخل زنزانة أشد ضيقاً من زنزاته الأولى، ولا يخفف من ضيقها وكبتها للحرية أن نزلاءها قد دخلوها بإرادتهم الحرة، كذا الأمر بالنسبة لأهل غزة الفلسطينيين، الذين اختاروا حكم حماس في أكثر الانتخابات الديموقراطية نزاهة في المنطقة، فلقد أدى بهم خيارهم الشكلي الحر إلى الدخول في زنزانة خانقة، لا يستطيعون فيها مجرد الاستمتاع بالسباحة في شواطئ بلادهم، ويُغتال فيها المخالفين ديناً، وتحرق كنائسهم وبيوتهم، على نفس النمط أيضاً لا تكون جماعة الإخوان المسلمين المحظورة بمصر تعد الناس بالحرية، عبر برنامجها السياسي الذي قدمته أخيراً، فهي لا تقدم للناس خيار يحتوي من حيث المضمون على الحرية، لكنها تدعوهم لأن يختاروا بحرية من حيث الشكل، مضموناً هو أقسى أنواع العبودية لرجال الدين، ليتحول ما أسميناه حلف السلطة/ رجال الدين، إلى جبهة واحدة معادية للإنسان وللحرية، هي جبهة رجال الدين المسيطرين والمهيمنين على حياتنا من كل جوانبها.
لا ينبغي لنا إذن أن نصنف كل داعية لرأي مختلف، أو حتى داعية حرية اتخاذ القرار، على أنه داعية حرية، فهذا وحده لا يكفي لإدراجه ضمن هذا التصنيف، فإذا ما كان ليس له نصيب من الحرية إلا الشكل، فإنه يكون قد توقف بعد خطوة البداية، والتي لابد أن ننتقل بعدها لتبين طبيعة ما يدعو إليه، فقد تكون الدعوة الحرة من حيث الشكل دعوة مخادعة، لتسويق عبوة مكتوب عليها حرية، لنفاجأ عند فتحها بمحتوى (أي مضمون) مختلف تماماً عما يعدنا به الغلاف.
العلاقة بين الشكل والمضمون أكثر تعقيداً من عرضنا السابق، الذي راعينا فيه التبسيط قدر الإمكان، فهناك من يرى أن الشكل يفرض مضمونه، والمضمون يستدعي شكله، وقد نجد أمثلة عملية قاد فيها الشكل إلى عكس المضمون المرتبط بذلك الشكل، حين يقودنا إلى مضمون آخر كان مضمراً بالأساس، فتجربة ديكتاتورية كمال أتاتورك كانت دكتاتورية من حيث الشكل، وديموقراطية حرة من حيث المضمون، وأثمرت لنا تجربة حرة وديموقراطية، لا تحتاج لشهادة أكثر من سماحها لحزب العدالة والتنمية الديني المرجعية بالوصول إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، وليس عبر القتل والتفجيرات، و هو الأسلوب المفضل لمثل هذه الاتجاهات، ثم هاهي ديموقراطية الشكل والمضمون التركية، التي أعقبت مرحلة أتاتورك الدكتاتورية التمهيدية، تكاد تتحول على يد حزب العدالة والتنمية إلى هيمنة دينية سالبة للحرية، لولا وقوف دكتاتورية العسكر العلمانية لها بالمرصاد.
هذا التعقيد إذن في علاقة الشكل بالمضمون يؤدي بنا إلى نتيجة يقينية واحدة، هو أن لا نكتفي بتقييم الحالة محل البحث من جانب واحد من الجانبين المتداخلين والمرتبطين، أي الشكل والمضمون، بل نضع الأمرين معاً نصب أعيننا، حتى لا نفاجأ بأننا قد وصلنا إلى حيث لم نكن نعتقد أو نحب أن نصل.
[email protected]