شكَّلت مسألة إصلاح المنظومات السياسية في العالم العربي قضية محورية لا سيما بعدما سُلّطت الاضواء الدولية على بنية هذه الأنظمة مطلع الألفية الثالثة، وبالرغم من الحاجة الكامنة منذ ان نالت هذه الدول استقلالها وحتى الآن، وبالرغم من الضرورات الداخلية الملحة للشعوب العربية التي لا يمكن السكوت عنها بحال من الأحوال، غيران جهود الحكومات العربية لم تُسجل تحركا فعليًّا نحو الاصلاح السياسي، إلا بعد ان أشعل فتيل القضية المجتمع الدولي عقب بروز عوامل أساسية شكلت مفاصل محورية للاهتمام ببنية الانظمة واصلاحها أهمها:
العامل الأول: أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي دفعت بالمجتمع الدولي الى إعادة قراءة وتقييم بنية الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط بوصفها مصدّرة لمنظمات الارهاب والتطرف، لا سيما من قبل االأنظمة العربية التي تُعد أكثر صداقة للغرب عموما والولايات المتحدة خصوصًا.
العامل الثاني: موضوع حقوق الإنسان، حيث فضح التقرير الخاص بتطوير حقوق الإنسان في العالم العربي الصادر عام 2002 المدرج في اطار البرنامج الأول للتنمية الصادر عن الأمم المتحدة، الذي أشار الى الانتهاكات الحادة للانسان وحقوقه في الدول العربية، وهو ما جعل بعض الحكومات العربية تعيد حساباتها، خصوصًا وانها لا يمكن ان تتجاهل تقرير بهذه الأهمية لامن حيث المضمون ولا من حيث الجهة الصادر عنها.
العامل الثالث: العامل الثقافي الذي استقطب الانتباه الدولي حول استخدام quot;الاسلامويquot; كأيديولوجيا اساسية عند المنظمات التي صُنِّفت بأنها إرهابية والتي تعتبر ان الادارة الاميركية والغرب معادين لها و غير منصفين لقضاياها.
إذن المحفز الرئيسي الذي دفع بالحكومات العربية للاسراع ببعض الاصلاحات السياسية التجميلية السريعة، هو محفز خارجي بالدرجة الاولى وضغط المجتمع الدولي، علمًا ان هذه الحكومات تَجاهلت كافة المحفزات الداخلية ومطالب شعوبها المحقة نصف قرن كامل، قضت فيه على النخب الفكرية وجمدت الاوضاع وأودعت قادة الابداع السجون والمعتقلات، ودون ان يحرك المجتمع الدولي ساكن؛ لاسيما موجات القمع المنظم التي مارستها الانظمة بحق ابنائها حيث شهدت فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي انتهاكات حادة لحقوق لانسان في العالم العربي، بحيث سجل اللجوء السياسي للعرب في الدول الاوروبية واميركا أرقامًا قياسية، كان حريّ بالمجتمع الغربي وقتها أن يتوقف عند أعداد اللاجئين والمقيمين العرب على أراضيه كي يكتشف فداحة المشكل المستفحل داخل الأنظمة و مدى خطورته.
فممارسات الأنظمة خلال النصف الثاني من القرن العشرين أدى الى هجرة العقول المبدعة القادرة على صياغة رؤى مجتمعية حديثة قوامها الديموقراطيات والليبراليات و وضع اسس مؤسسات لدولة قادرة على مواجهة التحديات، كماأبقى المجتمعات بعيدة عن التنمية في ظل تحديات اقتصادية عالمية.... ومن بقي في إدارة المؤسسات الحكومية، هم إما ازلام السلطان ممن يجيدون الثناء والمديح وتمسيح الجوخ، وإما طبقة السواد الاعظم التي سلمت امرها لله وسكتت، وتحول من تبقّى من شباب غير قادر على الهجرة او على تأمين الحد الأدنى من الطموح، الى قنابل موقوتة ناقمة من جهة على النظام الداخلي بسبب قمعه المستمر و عدم تأمين العيش الكريم لمواطنيه، وناقمة على المجتمع الدولي بسبب دعمه اللامحدود لاسرائيل، وساهمت بعض الايديولجيات المتطرفة في ترجمة هذه النقمة الى quot;جهاد مقدسquot;...
فما هو مصير الاصلاح أمام المعطيات الآنفة الذكر؟ و كيف تبدو الصورة بالنسبة للاطراف المعنية؟
بالنسبة للحكومات العربية: لا شك في أن موضوع الديموقراطيات والحريات واصلاح الدساتير والقوانيين يقلقها بشكل بالغ لاسباب عديدة أهمها اثنين:
السبب الاول: الاصلاحات ستطيح بالانظمة القائمة لامحالة وأقطاب الحكم يحاولون تخدير الأزمة أطول ما يمكن.
السبب الثاني:خوف السلطات من وصول quot;الاسلامويينquot; الى سدّة الحكم، لانهم في واقع الامر يشكلون قاعدة جماهيرية عريضة لا يمكن اغفالها، فسياسات نصف قرن من القمع أفرزت بطبيعة الحال قاعدة شعبية تبنت خيارات حركات الاسلام السياسي على حساب خيارات الأحزاب العلمانية الأخرى.
بالنسبة للمجتمع الدولي: فهو حائر، فمن جهة يطمح لان يتعاطى مع دول تحترم التعددية الحزبية وتنوع الاديان ويسعى لان ينشر رؤاه الانسانية، ومن جهة أخرى يعي حقيقة ان وجود حكومات مطيعة تساير مصالحه الاقليمية والاقتصادية أفضل له من وصول فئة ربما تناصبه العداء او تعرقل له نفذوه وتحركه.
لذلك نلحظ ازدواجية المعايير او تباين المواقف حول هذه النقطة، فالمنظمات الانسانية العالمية المعنية بحقوق الانسان والحريات، تدين انتهاكات الحكومات العربية وممارساتها، والحكومات الغربية الرسمية تغض الطرف ساعة تشاء وترفع الغطاء ساعة تشاء بما يتلاءم مع الاوضاع الدولية الراهنة.
بالنسبة لبعض الشرائح النخبوية العربية: فهي طالما أكدت على حاجة البلدان العربية الى إصلاح سياسي إلا أنها ترفض أن يكون هذا الاصلاح على يد الادارة الاميركية، التي تُخبئ مصالحها الاستعمارية خلف ورقة الاصلاح لتمرير أجندة سياسية في الشرق الاوسط، تحت مسمى quot;اجندة الديموقراطية والليبراليةquot; التي اطلقها بوش، وهم لا يرحبون بالنموذج الاميركي بالعراق بحال من الأحوال.

ويبقى للإنسان الحرّالذي يوصف بأنه عربي ثمة تساؤلات:
أليس حكامنا العرب دون استثناء هم من عطّل الابداع وهجر العقول النيرة؟
أليسوا هم من أدخل البلاد في حالة سبات في ثلاجة التاريخ؟
أليسوا هم أنفسهم من أدخلوا شعوبهم في ايديولوجيات عقائدية ومعتقلات فكرية تشبه الى حد بعيد زنازينهم ليسلم كرسيهم؟
أليسوا هم من عطل الفكر والنقد وسجن كل من سولت له نفسه ان ينتقد او يفكر؟
أليسوا هم من ساهم بشكل مباشر وغير مباشر الى دفع الشباب العربي لتبني خيارات التطرف؟ في ظل مهرجان الفرجة العربي على الحروب الاهلية الدامية وانتهكات حقوق الانسان في العراق وفلسطين والسودان والصومال...؟
امام المشهد السالف الذكر نشعر وكأننا ندور في حلقة مغلقة؛ فهل حلقة الاصلاح السياسي والتغييرالحضاري في عالمنا العربي مغلقة فعلا؟ واين حلم الانسان الحر؟
ينطلق الانسان الحرّ، عندما يفك قيد عقله واسر الايديولوجيات، فيتجاوب مع التحديات العالمية، فالمجتمع الدولي سئم من مشاكلنا وخنوعنا ونحيبنا، فهو ينتظر منا حلولا لأزماتنا بأنفسنا، فلابد لنا من الخروج من دوامة اللطم الى دائرة الفعل الحضاري، و الانتقال من quot;حضارة الجعجعة quot; الى quot;حضارة البناءquot;.
نعم الحلقة المغلقة لابد وان تُكسر! إذا حكمّنا عقلنا الحر ونشرنا الوعي والفكر التحليلي الحر ومهارات الفردانية التي وهبها الله للكائن الانساني، وذلك من خلال نهضة فكرية رؤيوية تهز الوعي تبدأ وقبل كل شيئ بنقد ما اعتقدناه لقرون انه من المسلمات!
فهل سنربح حريتنا؟ ونبني دولا تبني حضارة لا تستجدي تاريخًا!
كاتبة لبنانية
[email protected]
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com