في طور احدى تجارب التحضير لعقاقير الاكتآب تردُ الحكاية التالية: قام فريق من العلماء بحجز مجموعة من القرود في بيت مغلق لمدة ثلاثة شهور، وعلقوا في جدران البيت صُور قرود من فصيلة معادية. وبعد عدة ايام ظهرتْ على القرود تصرفات غريبة تمثلتْ بسلوكيات معادية ضد بعضها بعضا وفي غضون شهرين بلغتْ حالة العداء حدّ الاقتتال الدموي. فسّر العلماء هذه الظاهرة بأن الكائن الحي الذي يتعرض الى... او يتم قسره على النظر الى مشاهد مهيمنة ومفروضة عليه ولا يرغب فيها، تـتهيج لديه نزعة الكراهية والعدوانية لكل ما حوله وحتى ضد نفسه. وتستمر حالة الاقتتال حتى بعد زوال المصدر المُسبِّب، اي صُور القرود المعادية من الجدران.
ثم بدأ العلماء بتجريب عقاقير الاكتآب على هذه الكائنات التعيسة، بعد إزالة المصدر المُسبَّب، وفي بضعة شهور بدأت حالتها بالتحسن وعادت الى حالة التعايش الاجتماعي السلمي. وعلّق رئيس فريق العلماء- في لحظة الهام خاطف- بأن حالة القرود هذه شبيه الى درجة كبيرة بحالة الشعوب التي تـُمارس ضدها سلوكيات الكراهية وخاصة منطقة الشرق الاوسط وامريكا اللاتينية ودول الشيوعية وانظمة الحزب الواحد وكل الشعوب المنكوبة بانظمة دكتاتورية تتفق جميعها على quot;ضرورةquot; تعليق صور quot; قوّادهاquot; ذات الطلعة البهية على جدران المؤسسات التي يعملون فيها وفي المدارس وفي البيوت.. واضاف عالم الاكتآب بأن تلك الشعوب هي بأمس الحاجة الى خطوتين لازالة ظاهرة التوحش والعداء والاقتتال الاهلي الذي تعيشه منذ اول دولة اسّستها على الارض: الاولى تتمثل بازالة مصدر الكآبة (الصور) والثانية بحجزهم في مصحات عقلية وتزويدهم بجرعات مفرطة من عقاقير الاكتآب.
انّ نظرة سريعة على احوال بلداننا اليوم وخاصة العراق ترينا مثالا واضحا على مصاديق هذه الظاهرة، ففي عهد النظام السابق حيث السنوات الطوال من الحروب (وهي ممارسات مفروضة قسرا) وهيمنة صور القائد الميمون في كل مؤسسة وفي كل عمود كهرباء وأنىّ التفتَ يمينا او شمالا تباغتكَ صورته بابتسامته الملائكية التي عهدناها، ما يوحي بأن تصريحات ذلك الطبيب لم تكن مجرد دعاية ترويجية لعقاقير الاكتآب ولكنها تحمل الكثير من المستندات العلمية والمنطقية.

وحين اقرّ البرلمان الاسترالي ارسال بضع مئات من الجنود للمشاركة في الاطاحة بحكومة العراق السابقة شرّع في الوقت نفسه قانونا ينص على تأسيس مراكز بحوث ودراسات نفسية واجتماعية ورُصدتْ مبالغ طائلة لهذه المراكز التي ستتولى مهمة quot; اعادة تأهيل المحاربينquot; بعد عودتهم من ارض الحرب ليكونوا افرادا صالحين للعيش في المجتمع المدني لغرض الحصول على وظيفة quot;مدنيةquot; او الاحالة على التقاعد اذا وصل الامر حالة الاستعصاء المستديم.
واذ نلجأ الى مقارنة بسيطة بين اجراءات دولة ديمقراطية ومتحضرة كاستراليا وبين العقود الخمسة العجاف التي عاشها العراقيون منذ انقلاب تموز الجمهوري في غمرة الحروب والاعدامات والصور المهيمنة فوق رؤوسنا، نصل الى استنتاج مفاده ان أسّ الاولويات الذي كان واجبا على الحكومة العراقية الجديدة القيام به، بعد زوال صدام، هو تأسيس مصحات عقلية مغلقة تتولى مهمة اعادة تأهيل العراقيين - ممن كانت وظيفتهم الوحيدة القتال، سواءً من المحاربين او رجال الامن او رجال حماية الرئيس السابق وفدائييه - كي يعودوا قادرين على التحاور والمفاوضة وتقبل الاسلوب المدني للعيش، وهو ما اغفـَلتـْه سلطة التحالف ولم يقترحه احد من الحكومة العراقية إمّا لضعف في القريحة العلمية او لعجز في امكاناتها او لانشغالها في المحاصصات الكونية. ولكنه امر لا بد من وضعه على اجندة الاولويات وإنْ بعد عمر طويل، وذلك عبر فتح مصحات عقلية مغلقة للمحاربين القدامى وخاصة لاولئك الذين تورطوا وما زالوا.. باعمال الميليشيات وجرائم القتل الطائفي وغيره وفتح ابواب العلاج لغرض اعادة تأهيلهم للحياة المدنية ومعاملتهم كحالات مَرضية خارجة عن ارادتهم واعفائهم لاسباب سايكولوجية من الملاحقة القانونية الا تحت منصة محاكم يديرها فريق من اطباء الامراض النفسية والعقلية، بشرط ان يخضعوا لمراقبة دائمة بعد خروجهم من تلك المصحات اذا ما ظهرتْ عليهم علامات الشفاء حيث لا quot;ضمانات علمية اكيدةquot; لزوال المرض نهائيا، فالمدمن يبقى عرضة للانتكاس في اية لحظة، الامر الذي يهدد حياة الاخرين وحياة المريض نفسه. وربما كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لان تتخلى هذه الميليشيات عن اسلحتها، اذ انّ المليشياويين انفسهم وجدوا انهم محاصرون بين نارين، نار الدولة التي تطالب بالقصاص ونار المنظمات السرية التي يعملون فيها، حيث أنّ هذه المنظمات لها امكانات الدولة لجهة اقامة محاكم فعلية واصدار قرارات اعدام بحق من ينسحب منها.
ونجد مثالا آخر مشابها لنا في جنود quot;حزب اللهquot; اللبناني فما انْ وضعتْ الحرب اوزارها بينهم وبين اسرائيل حتى وجدوا انفسهم فريسة لادمان الحرب وصوت القذائف، وهاهم اليوم يحوّلون البلد الى خندق حربي عبر توجيه سلاحهم ضد الدولة اللبنانية شعبا وحكومة، لا لسبب يمكن لاحدٍ من البشر فهمه الا اللهم تخديرا لآلام ذلك الادمان الغريب.
فاليد التي تمارس السلاح ردحا من الزمن، والقلب الذي يغيب لحظة القتل، والعين التي تغشوها غمامة سوداء قبل لحظة الضغط على الزناد، يستولي عليها سلطان الادمان ولن تعود تستسيغ شيئا من اسباب الحياة الطبيعية. يصبح حوار الرصاص لديها هو الحوار العفوي الغريزي مع الواقع المحيط بها بدلَ الحوار السلمي القائم على تقبل الآخر كشريك حياة وليس كعدو في الخندق الآخر يتوجب عليك قتله والا بادرَ هو الى قتلك. وقد وصَف هذه الظاهرة سول الينسكي الناشط السلمي المعروف بقوله: quot; ان الشعب الذي يتعود على مشهد الدم لوقت طويل لا يمكنه بعد ذلك الحوارُ الا بالدم.
فلابد لكل محارب عائد من الحرب من سبات شتوي طويل يريح فيه نفسه وانفسنا، ويبزغ بعده ثانية كـ quot;فراشة غضةquot; وقد خلع عنه جلده العسكري وتنقـّى دمه كاملا من هيروئين رجيم اسمه.. ادمان السلاح.