quot;مخافة الرب كراهة الشرquot; (سفر الامثال 8- 12)
حين صارت المسيحية دولة مع الملك قسطنطين عام 321 ميلادي، فقدتْ الكثير من بريقها اللاهوتي الناسك القائم على التجرد من شهوات الجسد وشروره وتوابعه. اتخذتْ هيئة مؤسسة دنيوية، كان منبع جهدها يقوم على الحفاظ على هذا الكيان الذي لا يتقوم الا بمصالحه الدنيوية، مثل كل مؤسسة دنيوية اخرى. ولا بد في حال كهذه من ان يتوفر لها مقومان اساسان يعتمد الاول على تكافل الاتباع المنتمين اليها والثاني على خلق عدو شرير يكون الحافز لذلك التكافل والتلاحم وفرز العالم الى فريقين، فريق الناجين وفريق الهالكين. فكانت اليهودية هي ذلك العدو، قتلة المسيح المخلص الرب الذي هبط الى الارض كي يمحو عن الانسان خطيئته المتمثلة في كونه بشرا. دفعَ اليهود ثمرة هذا الكيان المسيحي مذابح جماعية كان اخرها الهولوكوست الالماني .
لكن مشاهد المذابح المتواصلة تلك قد انهكتْ آخر الامر الضمير اليسوعي لسلطة الفاتيكان المتمثلة بالبابا بيوس الثاني عشر وترتيبه 360 في السلم البابوي، والذي عُرف بمحبته وتعاطفه مع اليهود حيث انقذ كثيرين منهم إمّا بمنحهم شهادات تعميد مسيحية او فيزاً للهروب من المحرقة وفي سنة 1936، في ليلة شفيفة، بينما كان البابا يتقلب على فراشه الماً وحزناً على فداحة وثقل المذابح التي مورستْ بحق اليهود جيلاً بعد جيل تجلـّى له الرب المسيح وهو يعانق صالبيه مردداً كلماته الاخيرة، اغفرْ لهم يا ربّ انهم لا يعرفون ما يفعلون، فنهض الباب النحيف، الذي جَبَله الله من عشبة طرية في ليلة صيف لطيفة، من سريره وهو يفيض عرقا ودمعا، ثم تناول قلما وورقة وكتبَ التالي: اليهود، ابناء يعقوب واسحاق وابراهيم، اخوتنا في الدين واباؤنا في المعرفة وكتابهم التوراة وحي من الله وليس مجرد هرطقات افروتستنطية كما وصفها من سبقنا من ارباب الكنيسة، بل هي ظل للعهد الجديد وتحمل بشارات مجيء الرب وعلينا كأتباع مخلصين للمسيح انْ نضع كتابهم وكتابنا بين دفتي مجلد واحد. وبذلك أُوصِدَ بابُ العداء المزمن واُحكِم اغلاقه باقفال من حجر وصارتْ اليهودية والمسيحية توأمين، سكنا في.. وخرجا من رحم واحدة.
وحين ظهر الاسلام في القرن السادس الميلادي، وتحوّل الى مؤسسة كما هي الحال مع المسيحة، اعادتْ دولة الخلافة الدنيوية كما يصفها علي عبد الرازق الذي حوكم بالردة واحرق كتابهquot; الاسلام واصول الحكمquot; استنساخ سلوك الكنيسة السابق لعهد بيوس الثاني عشر، فكان للفتوحات الاسلامية انْ تتوغل في بلاد المسيح وبلاد الكفر الاخرى، فغُزيتْ البلاد وخُربتْ الكنائس ونُهبت الكنوز وجيء بالفتيات من بني الاصفر والاسمر من الاندلس وخراسان سبايا وجواري للملك الاسلامي وحاشيته وقادته العسكريين، او معروضات في سوق النخاسة للبيع لكل من هو قادر على ان يدفع ويشتري بضعة فتيات يبعثن في عظام شيخوخته الدفء، ولم يوفروا، اجدادنا المؤمنين، حتى عوائل الملوك وبناته، الامر الذي لم يسبق اليه غاز في تاريخ البشرية الا في عهود البربرية الاولى وهو تاريخ ما زلنا لليوم نفتخر به ونحتضن احدنا الاخر شكرا وحمدا لله الذي مكننا من اكتاف اعدائه وافخاذ نسائهم. واستمرت الحروب سجالا وبلغتْ اوجها مع الفترة الصليبية التي كانت، اذا جاز القول، بشكل او باخر غضبة ثار وردة فعل لما فعله اجدادنا البواسل في فتوحاتهم في بلاد الصليب.
وبعد هدأة من الزمن المتصالح بين هذه الاديان، نشهد اليوم مع ما يسمى بالصحوة الاسلامية عودة شرسة للحروب الدينية تلك، لكن هذه المرة بين الاسلام من جهة وبين المسيحية واليهودية في الجهة الاخرى، وهي حرب تشير جميع الوقائع والدلائل الى ان المسلمين هم الخاسر الوحيد فيها. وهم في الحقيقة وبلا مواربة او بلاغات مجعجعة، اذا سمحنا لانفسنا بالتكاشف والتنازل عن ان تأخذنا العزة بالنفس، اوّل من اشعل فتيلها نتيجة بركات فقهاؤنا الذين تحتشد فتاويهم بتكفير كل من هو غير مسلم واباحة دمه وامواله ونسائه. والتي تجلتْ بشكلها الرهيب في غزوة مانتهاتن الشهيرة.
ومن يذهب الى غُرف الدردشة على البول تولك يدرك بسهولة كم انّ القلوب مثخنة بالكراهية وانّ كل امة تلعن اختها وقد شغلتنا هذه الحرب كثيرا وألهتـْنا عن امور كان الاجدر بنا كبشر ان نتفرغ اليها وان نجد فيها مساحة للحب الذي هو عقارنا الشافي من المحن على حد تعبير حمزاتوف.
وادناه مقترح بسيط قد نجد فيه محاولة لا ندعي انها ام الحلول بل خطوة صغيرة لمشوار طويل. وهو ان تجتمع طوائف المسلمين كلها مع ممثلين رسميين عن اليهودية والمسيحية، ولا يُستثني المتشددون منهم وليكن عليهم وزر الامتناع، وهم سيفعلون دون ريب، وان نهتدي بالخطوة الالهية الرحيمة التي هبطت على البابا بيوس الثاني عشر، وان يبحثوا امكانية اضافة القران الى العهدين السابقين التوراة والانجيل في مجلد واحد كي يكتمل الثالوث المقدس لورثة ابراهيم وquot;لعنته التوحيديةquot; التي ربما، نقول ربما، كانت الارض الخصبة التي اثمرتْ كل هذا الخراب الرميم الذي نراه.
وهو اقتراح له ما يبرره حيث ان الاديان الكتابية الثلاثة تقوم على مبدأ واحد متماثل ومتشابه وهو ان الانسان ابن الخطيئة وانه لا نجاة له الا بحفظ العهد بينه وبين الرب كما في اليهودية او بالايمان بابن الانسان او ابن الرب المسيح الذي حرر البشرية من وزر الخطيئة الاولى بدمه او بالايمان بالنبي محمد كما في الاسلام وهو- الاسلام- موضع الحديث هاهنا حيث امتاز عن اخويه بانه اوصى بالايمان بكل انبياء الله الذين سبقوا النبي محمد quot;لا نفرق بين احد منهم quot; الكتاب.
وثمة من الجانب الاسلامي مقومات كثيرة تبرر مثل هذا الجمع الاخوي نجد شواهدها في القران زاخرة وفي احاديث الرسول الكريم . ففي القرآن نقرأ مثلا: quot; قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا انْ لانعبد الا الله ولا نشرك به شيئاquot; .quot; الذين يومنون بك وبما انزل من قبلك وبالاخرة هم موقنون quot; quot; ان الذين امنوا والذين هادوا والنصارى والصابئون من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنونquot;
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ). النساء: 136.
(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْل ُهـُدىً لِلنَّاسِ) آل عمران.
(لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ... إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعَقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً)
(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هـُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ (التوراة والإنجيل). فاطر 35:31.
اما من يذهبون الى تعكير هذا التسامح الديني الذي جاء به الاسلام بقولهم بالناسخ والمنسوخ وعضّهم بالنواجذ والمخالب على الاية رقم خمسة من سورة التوبة الغضوب فلهم ان يرقدوا نياما ويختم الله على قلوبهم في كهوف تورا بورا الى يوم يبعثون. فعلى فقهاء الاسلام وعلمائه وفلاسفته تقع امانة ان يكون لهم دور فعلي في تحييد هذا النفر المسكون بالكراهية والشر والذين quot; يخرّون على ايات الله صما وعمياناquot; ولا يتدبورن القرآن اذ quot;على قلوب اقفالهاquot;.
ومن الادلة من الحديث النبوي الشريف، لكي لا نذكر الا مثالا واحدا:
عن أبي هريرة أن أهل الكتاب كانوا يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإسلام، فقال رسول الله: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم، ولكن (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) (سورة البقرة 2:136) (مشكاة المصابيح حديث 155 - رواه البخاري).
وعن الامام علي قوله المعروف quot;لو ثنيتْ لي الوسادة لحكّمتْ أهل التوراة بتوراتهم واهل الانجيل بانجيلهمquot;. وهناك شواهد كثيرة وادلة بينات في الحديث النبوي تشير جميعها الى ان انه لا يكتمل اسلام احد ما حتى يؤمن بالرسل جميعا وان لا يفرق بين احد منهم. ومن ارادها فليس منالها ببعيد، وهي بعض بركات quot;إلهنا الشخصيquot; الانترنيت، وعجائب العفريت المارد غوغل المقدس الذي ياتيك بالمعرفة ودلائلها قبل ان يرتد اليك طرفك .
لا نريد بالطبع ان يلجأ احد الى خلط الامورمن اخوتنا في الاسلام والعروبة واتهامنا بالصهيونية او التغافل عن القتل البشع الذي يتعرض له الفلسطيني كل يوم وهي جرائم بقدر ما ندين حكومة اسرائل فيها ندين اولئك الذين يوقدون نيرانها من فقهاء النضال الفلسطيني الذين لا يتصورون حلا للقضية الا بذبح اليهودي ورميه في البحر. فلا بد من التفريق لكل ذي عقل بين اليهودية كدين تقاسمنا واياها الحياة والارض والارث المعرفي ولها فضل الاسبقية بالقول بالتوحيد الابراهيمي وحفظتْ لنا التوراة اغلب ارث الشرق الاوسط حيث من المعروف ان ثلثي التوراة قد تم تدوينه في ارض العراق مبنيا على الارث العراقي القديم. بينما يحرم معظم منظري الحداثة القومية الاسلاموية العروبوية حق العودة لهم الى العراق حين تم تشريدهم من ارض اجدادهم على خلفية الصراع العربي الاسرائيلي في ابشع تهجير لا يختلف كثيرا عن تشريد ملايين العراقيين من الاكراد الفيلية او الشيعة ومقابرهم الجماعية.
مجرد اقتراح، ظل يجول في خاطرنا منذ وقت طويل ولم تسنح لنا لحظة صفاء لتدوينه، كي نؤالف بين قلوب الاخوة الثلاثة ولعلها خطوة اذا كتب الله لها التوفيق، ويخالجني شعور غريب من انها ستتحقق وان ليس عاجلا، بل ربما في بضعة قرون، يكون لها ما يتبعها من خطوة اخرى، ربما quot;اشد هولاquot; لدى البعض، تقوم على جمع الكتب الدينية كلها، وكل كتب الاديان هي سماوية في راينا المتواضع من كونفشيوسية وتاوية ومانوية ودرافتية وسيخية وبوذية على حد قوله تعالى quot; وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومهquot; او كما يقول شيخ الملوية جلال الدين الرومي quot; كلها عبادة وتقوى وكلها صحيحة وانّ الله لا يستمع الى الكلمات بل ينظر عميقا في خشوع القلبquot; وبذلك يصبح الدين، هذه الظاهرة التي لولا حقيقة الموت، الحقيقة الوحيدة في الكون، لما كان لها وجود على الارض، سببا للمحبة والتآخيٍ لا سببا للحروب والبغضاء وان تتفرغ البشرية الى مشاكل اخرى تهدد الكوكب اكثر خطورة واجدر بان نتنازع عليها ... الامراض، الفقر، البلادة البشرية، الكآبة، الاغتراب، الضوضاء، حوادث السيارات انقراض بعض فصائل الحيوانات، الروائح الكريهة في الجواريب او نمو الشعر في غير موضعه المحبب في الجسد البشري وغيرها كثير .
على اية حال، مجرد اقتراح، ولعله، محض هسيس صمت يحلم بأنْ يكون مجرد فجوة غير مرئية في هباء الكلام.
وله الامر من قبل ومن بعد.