لعلّ من الأكثر المفاهيم المتجددة على الدوام، النازعة أثوابها في كل عقد أو عقدين، اللابسة ثوباً جديداً لا يغيّر من جوهر الروح مطلقاً، هو مفهوم: العنف.
في الكتابات الأكاديمية، أو التوصيفات الدبلوماسية، أو التصريحات المعتدلة، يستعمل مفهوم: العنف، بشكل عمومي. لكن من الناحية السياسية الواقعية، التي تحدث بشكل حيّ وذات صلة حقيقية في التأثير على الواقع العربي والواقع الإسلامي، لا يُحبذ استعمال هذا المفهوم على نحو مجرد، بل لابد من استبداله بتسميات أخرى تتناسب مع طبيعته السياسية ومع الرسالة الأيديولوجية التي يغلّفها أو يتضمنها في طياته.
الإرهاب، الإسلام السياسيّ، الأصولية الدينية، الجهاد، الدولة الثيوقراطية، المليشيات، حركات المقاومة، كلها مفاهيم تُختزل الآن في مفهوم واحد أكثر انتشاراً واكتساباً لأهمية استراتيجية في سياسات الدول الغربية بشكل رئيس، وهو مفهوم: الإرهاب، الذي بات يَربط العنف بالإسلام على نحو تلقائي. أما دول الشرق الأوسط فانشطرت بين حاضن له لاعتبارات يطول المقام عندها، ورافض مقاوم له لاعتبارات يطول المقام عندها أيضاً، لكن بوسعنا أن نعثر على القاسم المشترك بين هذا وذاك وهو السعي للحفاظ على: نظام سياسيّ لا يتخلّى عن الاستحواذ الشمولي على السلطة واحتكارها لصالح الديمقراطية بهذه السهولة التي يفترضها الغرب المتطلع إلى شرق أوسط ديمقراطي. ومن خلف هذا التوجه السياسيّ، ثمة ثقافة إسلامية دكتاتورية بامتياز، ومفهوم الشورى هو مفهوم كاذب، غايته ذرّ الرماد في العيون، وحجب حقيقة الرغبة القوية في ممارسة الحكم المطلق، وهو أعلى مراحل الدكتاتورية وأسوأها.
ومع أن الغرب يعاني الآن اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً من العنف المتزايد في الشرق الأوسط ومن نمو الحركات الأصولية المتطرفة، إلا أنه لا يمكن تبرئة ساحته من الوقوع في جملة أخطاء ساعدت على نمو العنف وإنتاجه في هذه المنطقة من العالم، بسبب دعمها للأنظمة الشمولية الاستبدادية وعدم ضغطها لتحقيق إنجازات في مجالَيْ: الممارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومؤخراً، اكتشف الغرب السبب الحقيقي لنموّ العنف في العالمين: العربي والإسلامي، وهو غياب التجارب الديمقراطية، والقمع الذي تمارسه الأنظمة الشمولية في تضييقها على الحريات العامة، فالمحللون الغربيون يذهبون إلى أن تنظيم القاعدة هو نتاج عمليات القمع الشموليّ في البلدان العربية والإسلامية.
ومن ناحية ثانية، لا يمكن النظر إلى الغرب نظرة واحدة حول معضلة الديمقراطية في العالم العربي؛ بمعنى لا نجد تطابقاً في الرؤية السياسية بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا من جهة والدول المؤثرة في سياسات الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى. استراتيجيتان مختلفتان: الأولى، تخضع لاعتبارات تتعلق بمحاربة الإرهاب ولعب دور كبير في تأهيل الدول لتأسيس نظم سياسية جديدة تؤمن بالنظام الديمقراطي لمعالجة الآثار السلبية للنظام العسكري أو الدكتاتوري بشقيه: الملكي والجمهوري. ويأتي تبني هذه الرؤية السياسية، استناداً إلى تماسٍ حقيقي بين الإرهاب والمجتمع الأمريكي والمصالح الأمريكية في الخارج. وبسبب التحالف الاستراتيجي بين السياستين: الأمريكية والبريطانية، فقد ناصرت هذه الأخيرة كل التوجهات والحملات العسكرية لضرب مواقع الإرهاب، وناصرت الولايات المتحدة في سياستها الجديدة في الشرق الأوسط القائمة على ممارسة الضغط على الدول لإجراء إصلاحات في النظام السياسي، وتحرير الاقتصاد والتجارة من هيمنة الدولة، وبناء مؤسسات إعلامية مستقلة، وتشجيع مؤسسات المجتمع المدني.
لكن الدول الأوروبية الأخرى، حاولت أن تحافظ على خط معتدل لا يتعدى إبداء النصائح، وإجراء الحوارات المشتركة، والمساعدة في نقل الخبرات، مدفوعة بالرغبة في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في الشرق الأوسط. وقد نتج عن هذا، أنْ قَوِيَ عضد الدكتاتورية، وازدادت تجاوزاتها على حقوق الإنسان في ظل غضّ النظر من قبل بعض هذه الدول، على نحو ما جرى للأكراد من إبادة جماعية في عهد صدام حسين.
حتى نهاية القرن العشرين، كانت المعضلة السياسية والحضارية المستعصية على أي حل بالنسبة للأوروبيين، هي المعضلة (الشرق أوسطية). وظل الغرب يراقب التحولات التي تجري في بلدان الشرق الأوسط عبر مدارس أو معاهد (دراسات الشرق الأوسط) والجمعيات (الشرقية) أو عن طريق مراكز التجسس التي ترفع تقارير منتظمة بشأن ما يجري هناك، أو كشوفات الرحالة المثيرة بأوصافها لطبيعة الحياة الاجتماعية.
وأساس الاختلاف في معضلة الشرق الأوسط يكمن في دلالتها المفهومية، التي يترتب عليها انتزاع موقفين من العرب: تحديد جغرافي، وتحديد تاريخي سياسي لكيان أُنشِئ بإرادة أوروبية أصلاً، وهو إسرائيل. وظلت (الشرق أوسطية) مشروعاً أوروبياً غريباً لجعل إسرائيل جزءاً من العائلة السياسية والتاريخية لبلدان الشرق الأوسط. لكن هذا المشروع كان يصطدم بصورة مستمرة بمقاومة صلبة، تتغذي من طبيعة الثقافة الإسلامية التقليدية التي تهاجم اليهود على طول الخط، وتتغذى كذلك من الواقع السياسي نفسه، حيث الهجرة اليهودية الكثيفة إلى أرض فلسطين واغتصابها بالقوة.
هذا العامل الأخير، كان كافياً لتكوين جماعات إسلامية متطرفة تهاجم المصالح الإسرائيلية، والدول التي تساندها وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. ومع إطلالة الألفية الثالثة، استحوذ (الإسلام) على لبّ الصراع الستراتيجي بين الغرب والشرق. وحتى يستكمل هذا الصراع عدّته التاريخية، كان يتعين على طرفي النزاع أن يُجهّزا (خطاباً) مخصوصاً للنزاع المشتعل الذي لا يريد أن ينطفئ. وهكذا انبثق (خطاب الإرهاب) منقسماً من ناحية التحديد الدلالي إلى شقين: الشقّ الغربي، والشقّ الشرقي. ومثلما لم يتفق الطرفان على نقطة التقاء سياسية عبر تاريخهما، فإن خطاب الإرهاب لدى الطرفين ظل هو الآخر مختلفاً في ما يعنيه تمام الاختلاف.
بيد أن التفسيرات التي طرحت لمفهوم الإرهاب من قبل الأمريكيين والأروبيين ومن ثم الروس [ لاستثمارها في كسب النزاع في الشيشان] ثم التفسيرات الهندية [ لاستثمارها في كسب النزاع في القضية الكشميرية] ومؤخراً التفسيرات التركية [ لاستثمارها في كسب النزاع مع حسب العمال الكردي] كانت أكثر عقلانية من التفسيرات التي طرحت في الخطاب السياسي العربي، اذ أفلحت في وصم الإرهاب بالعار الأخلاقي والوجودي، بعد أن وضعت كل أعمال العنف المناوئة لها في خانة: الإرهاب. وفي مقابل ذلك، كان الخطاب العربي تسويغياً وفيلولوجياً، وأعطى وقوعه في هذا المأزق الحق لخصومه أن يكيلوا له الأوصاف غير المريحة، واتهامه بالسعي إلى كسب ودّ الشارع العربي الذي ينتقد السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
وهكذا سوف نضع أيدينا على شروحات مطولة تبحث في (الجذر اللغوي) لمفهوم الإرهاب، أو على خطابات هدفها إيجاد أساس منطقي، تاريخي لهذا المفهوم في مصادرنا الثقافية. ومن جهة أخرى، لم يكن الموقف السياسي بأقل سلبية من الموقف الثقافي، فثمة مواقف متباينة بصورة جذرية تكشف عن عدم تبني موقف استراتيجي من الإرهاب بوصفه ثقافةً أو نشاطاً عنيفاً. فالتفسيرات العربية، يحددها الهدف السياسي بالدرجة الأساس، فالاعتداءات التي يقوم بها إسلاميون متطرفون في مصر أو الأردن أو السعودية تسمى إرهاباً، لكن هذه الجماعات نفسها ترتكب أعمالاً وحشية بحق المدنيين الأبرياء في العراق من دون أن تجرأ على مقارعة القوات الأمريكية، لكنها تسمى: مقاومة، مع أن المفهوم العام للإرهاب المتفق عليه هو ممارسة العنف ضد المدنيين، أو ممارسة العنف خارج إطار القانون أو الشرعية الدولية. الفعل والمصدر واحد، لكن التفسيرات العربية اختلفت طبقاً للمصلحة السياسية لا استناداً إلى موقف مبدئي يدين الإرهاب على طول الخط، مهما كان نوعه أو مصدره.
بيد أن أخطر الدلالات التي نُسبتْ للإرهاب، هي الدلالة التي يأخذ بها الأصوليون والمتطرفون عموماً في الإسلام السياسيّ، إذ كانوا يبحثون على الدوام عن جذر لغوي إيجابي لهذا المفهوم في مصادر التشريع الإسلامي، وفي طليعتها القرآن الكريم. وهؤلاء ينشدون من وراء ذلك أن يشرعنوا الإرهاب ويسوغوه من دون أن يلتفتوا أو يبالوا بخطر هذه الشرعنة المفترضة التي اعتمدوا في تخريجها على (استنطاق) النص القرآني: ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم... واذا كانت هذه الجماعات من الأصوليين الذين لا يميلون بمزاجهم التقليدي إلى التأويل أو الاستنطاق أو الاجتهاد، فإنهم أجازوا لأنفسهم هنا ممارسة التأويل والاستنطاق، وكانت تلك مفارقة عجيبة.
لا شك في أن الدلالة السياقية لمفهوم الإرهاب التي وردت في الآية لا تتطابق تماماً مع ما ذهب إليه هؤلاء، فكلمة (يرهبون) لا ترقى إلى الدلالة الاصطلاحية المتداولة للإرهاب في هذه الأيام، ومن ناحية أخرى فهي مقترنة بوضع تاريخي خاص ذي مزايا زمانية ومكانية، لا يمكن القفز عليها في أية مقاربة لهذا المفهوم. وعلى الرغم من أن ابن منظور، المعجميّ الشهير، يعرّف الإرهاب بأنه: إرهاب العدو ليرتدع عن قصد الرعية وإيذائهم فيأمنوا بمكانة من الشر، إلا أن إشارة ابن منظور الخاصة بعدو مباشر مدجج بالسلاح، لم تدرج في أي تفسير لغوي للإرهاب، وهكذا وجدت عبارة الخليل بن أحمد في معجم (العين): رهبوت خير من رحموت أي أن ترهب خير من أن ترحم، ترحيباً واسعاً في التفسيرات المتطرفة.
وفي إحدى المقابلات التلفزيونية مع ادوارد سعيد، اعترض بشدة على التفسيرات التي صاحبت أول عملية انتحارية لامراة فلسطينية، التي سُوّغت بأن القرآن والشريعة تجيز هذا العمل، وأبدى انزعاجاً واسعاً من هذا التفسير الذي يعرّض الإسلام والثقافة العربية عموماً إلى تهمة الوحشية أو اللاإنسانية. وعلى أثر ذلك، اتسع المجال الدلالي للإرهاب، من تفسيرات لغوية صرفة، إلى تفسيرات علاماتية، اذ اقترن الإرهاب بطائفة من (العلامات) الخاصة بالزي الإسلامي، وبالهندام كإطالة اللحي وحلق الشوارب وقصر الثياب واستعمال المسبحة، والجبة والعمامة والقفطان، وإلى ما هناك من أمور أصبحت علامات فارقة للإرهاب في نظر الأوروبيين.
وبغية البحث عن مرجعيات دينية ثقافية أراد الإسلاميون أن يعقدوا صلة دلالية بين معنى (الجهاد) و (الإرهاب) فما يسميه الغرب إرهاباً يسميه الإسلاميون جهاداً. وهكذا وقع الملتقي لخطاب الإرهاب في إشكالية (اللبس اللغوي) للمفهوم، وتحول الصراع من صراع سياسي إلى صراع لغوي وتفسيري فانقلب مفهوم الجهاد رأساً على عقب، من عنف (مقدس) إلى عنف مدان.
[email protected]
في الكتابات الأكاديمية، أو التوصيفات الدبلوماسية، أو التصريحات المعتدلة، يستعمل مفهوم: العنف، بشكل عمومي. لكن من الناحية السياسية الواقعية، التي تحدث بشكل حيّ وذات صلة حقيقية في التأثير على الواقع العربي والواقع الإسلامي، لا يُحبذ استعمال هذا المفهوم على نحو مجرد، بل لابد من استبداله بتسميات أخرى تتناسب مع طبيعته السياسية ومع الرسالة الأيديولوجية التي يغلّفها أو يتضمنها في طياته.
الإرهاب، الإسلام السياسيّ، الأصولية الدينية، الجهاد، الدولة الثيوقراطية، المليشيات، حركات المقاومة، كلها مفاهيم تُختزل الآن في مفهوم واحد أكثر انتشاراً واكتساباً لأهمية استراتيجية في سياسات الدول الغربية بشكل رئيس، وهو مفهوم: الإرهاب، الذي بات يَربط العنف بالإسلام على نحو تلقائي. أما دول الشرق الأوسط فانشطرت بين حاضن له لاعتبارات يطول المقام عندها، ورافض مقاوم له لاعتبارات يطول المقام عندها أيضاً، لكن بوسعنا أن نعثر على القاسم المشترك بين هذا وذاك وهو السعي للحفاظ على: نظام سياسيّ لا يتخلّى عن الاستحواذ الشمولي على السلطة واحتكارها لصالح الديمقراطية بهذه السهولة التي يفترضها الغرب المتطلع إلى شرق أوسط ديمقراطي. ومن خلف هذا التوجه السياسيّ، ثمة ثقافة إسلامية دكتاتورية بامتياز، ومفهوم الشورى هو مفهوم كاذب، غايته ذرّ الرماد في العيون، وحجب حقيقة الرغبة القوية في ممارسة الحكم المطلق، وهو أعلى مراحل الدكتاتورية وأسوأها.
ومع أن الغرب يعاني الآن اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً من العنف المتزايد في الشرق الأوسط ومن نمو الحركات الأصولية المتطرفة، إلا أنه لا يمكن تبرئة ساحته من الوقوع في جملة أخطاء ساعدت على نمو العنف وإنتاجه في هذه المنطقة من العالم، بسبب دعمها للأنظمة الشمولية الاستبدادية وعدم ضغطها لتحقيق إنجازات في مجالَيْ: الممارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومؤخراً، اكتشف الغرب السبب الحقيقي لنموّ العنف في العالمين: العربي والإسلامي، وهو غياب التجارب الديمقراطية، والقمع الذي تمارسه الأنظمة الشمولية في تضييقها على الحريات العامة، فالمحللون الغربيون يذهبون إلى أن تنظيم القاعدة هو نتاج عمليات القمع الشموليّ في البلدان العربية والإسلامية.
ومن ناحية ثانية، لا يمكن النظر إلى الغرب نظرة واحدة حول معضلة الديمقراطية في العالم العربي؛ بمعنى لا نجد تطابقاً في الرؤية السياسية بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا من جهة والدول المؤثرة في سياسات الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى. استراتيجيتان مختلفتان: الأولى، تخضع لاعتبارات تتعلق بمحاربة الإرهاب ولعب دور كبير في تأهيل الدول لتأسيس نظم سياسية جديدة تؤمن بالنظام الديمقراطي لمعالجة الآثار السلبية للنظام العسكري أو الدكتاتوري بشقيه: الملكي والجمهوري. ويأتي تبني هذه الرؤية السياسية، استناداً إلى تماسٍ حقيقي بين الإرهاب والمجتمع الأمريكي والمصالح الأمريكية في الخارج. وبسبب التحالف الاستراتيجي بين السياستين: الأمريكية والبريطانية، فقد ناصرت هذه الأخيرة كل التوجهات والحملات العسكرية لضرب مواقع الإرهاب، وناصرت الولايات المتحدة في سياستها الجديدة في الشرق الأوسط القائمة على ممارسة الضغط على الدول لإجراء إصلاحات في النظام السياسي، وتحرير الاقتصاد والتجارة من هيمنة الدولة، وبناء مؤسسات إعلامية مستقلة، وتشجيع مؤسسات المجتمع المدني.
لكن الدول الأوروبية الأخرى، حاولت أن تحافظ على خط معتدل لا يتعدى إبداء النصائح، وإجراء الحوارات المشتركة، والمساعدة في نقل الخبرات، مدفوعة بالرغبة في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في الشرق الأوسط. وقد نتج عن هذا، أنْ قَوِيَ عضد الدكتاتورية، وازدادت تجاوزاتها على حقوق الإنسان في ظل غضّ النظر من قبل بعض هذه الدول، على نحو ما جرى للأكراد من إبادة جماعية في عهد صدام حسين.
حتى نهاية القرن العشرين، كانت المعضلة السياسية والحضارية المستعصية على أي حل بالنسبة للأوروبيين، هي المعضلة (الشرق أوسطية). وظل الغرب يراقب التحولات التي تجري في بلدان الشرق الأوسط عبر مدارس أو معاهد (دراسات الشرق الأوسط) والجمعيات (الشرقية) أو عن طريق مراكز التجسس التي ترفع تقارير منتظمة بشأن ما يجري هناك، أو كشوفات الرحالة المثيرة بأوصافها لطبيعة الحياة الاجتماعية.
وأساس الاختلاف في معضلة الشرق الأوسط يكمن في دلالتها المفهومية، التي يترتب عليها انتزاع موقفين من العرب: تحديد جغرافي، وتحديد تاريخي سياسي لكيان أُنشِئ بإرادة أوروبية أصلاً، وهو إسرائيل. وظلت (الشرق أوسطية) مشروعاً أوروبياً غريباً لجعل إسرائيل جزءاً من العائلة السياسية والتاريخية لبلدان الشرق الأوسط. لكن هذا المشروع كان يصطدم بصورة مستمرة بمقاومة صلبة، تتغذي من طبيعة الثقافة الإسلامية التقليدية التي تهاجم اليهود على طول الخط، وتتغذى كذلك من الواقع السياسي نفسه، حيث الهجرة اليهودية الكثيفة إلى أرض فلسطين واغتصابها بالقوة.
هذا العامل الأخير، كان كافياً لتكوين جماعات إسلامية متطرفة تهاجم المصالح الإسرائيلية، والدول التي تساندها وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. ومع إطلالة الألفية الثالثة، استحوذ (الإسلام) على لبّ الصراع الستراتيجي بين الغرب والشرق. وحتى يستكمل هذا الصراع عدّته التاريخية، كان يتعين على طرفي النزاع أن يُجهّزا (خطاباً) مخصوصاً للنزاع المشتعل الذي لا يريد أن ينطفئ. وهكذا انبثق (خطاب الإرهاب) منقسماً من ناحية التحديد الدلالي إلى شقين: الشقّ الغربي، والشقّ الشرقي. ومثلما لم يتفق الطرفان على نقطة التقاء سياسية عبر تاريخهما، فإن خطاب الإرهاب لدى الطرفين ظل هو الآخر مختلفاً في ما يعنيه تمام الاختلاف.
بيد أن التفسيرات التي طرحت لمفهوم الإرهاب من قبل الأمريكيين والأروبيين ومن ثم الروس [ لاستثمارها في كسب النزاع في الشيشان] ثم التفسيرات الهندية [ لاستثمارها في كسب النزاع في القضية الكشميرية] ومؤخراً التفسيرات التركية [ لاستثمارها في كسب النزاع مع حسب العمال الكردي] كانت أكثر عقلانية من التفسيرات التي طرحت في الخطاب السياسي العربي، اذ أفلحت في وصم الإرهاب بالعار الأخلاقي والوجودي، بعد أن وضعت كل أعمال العنف المناوئة لها في خانة: الإرهاب. وفي مقابل ذلك، كان الخطاب العربي تسويغياً وفيلولوجياً، وأعطى وقوعه في هذا المأزق الحق لخصومه أن يكيلوا له الأوصاف غير المريحة، واتهامه بالسعي إلى كسب ودّ الشارع العربي الذي ينتقد السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
وهكذا سوف نضع أيدينا على شروحات مطولة تبحث في (الجذر اللغوي) لمفهوم الإرهاب، أو على خطابات هدفها إيجاد أساس منطقي، تاريخي لهذا المفهوم في مصادرنا الثقافية. ومن جهة أخرى، لم يكن الموقف السياسي بأقل سلبية من الموقف الثقافي، فثمة مواقف متباينة بصورة جذرية تكشف عن عدم تبني موقف استراتيجي من الإرهاب بوصفه ثقافةً أو نشاطاً عنيفاً. فالتفسيرات العربية، يحددها الهدف السياسي بالدرجة الأساس، فالاعتداءات التي يقوم بها إسلاميون متطرفون في مصر أو الأردن أو السعودية تسمى إرهاباً، لكن هذه الجماعات نفسها ترتكب أعمالاً وحشية بحق المدنيين الأبرياء في العراق من دون أن تجرأ على مقارعة القوات الأمريكية، لكنها تسمى: مقاومة، مع أن المفهوم العام للإرهاب المتفق عليه هو ممارسة العنف ضد المدنيين، أو ممارسة العنف خارج إطار القانون أو الشرعية الدولية. الفعل والمصدر واحد، لكن التفسيرات العربية اختلفت طبقاً للمصلحة السياسية لا استناداً إلى موقف مبدئي يدين الإرهاب على طول الخط، مهما كان نوعه أو مصدره.
بيد أن أخطر الدلالات التي نُسبتْ للإرهاب، هي الدلالة التي يأخذ بها الأصوليون والمتطرفون عموماً في الإسلام السياسيّ، إذ كانوا يبحثون على الدوام عن جذر لغوي إيجابي لهذا المفهوم في مصادر التشريع الإسلامي، وفي طليعتها القرآن الكريم. وهؤلاء ينشدون من وراء ذلك أن يشرعنوا الإرهاب ويسوغوه من دون أن يلتفتوا أو يبالوا بخطر هذه الشرعنة المفترضة التي اعتمدوا في تخريجها على (استنطاق) النص القرآني: ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم... واذا كانت هذه الجماعات من الأصوليين الذين لا يميلون بمزاجهم التقليدي إلى التأويل أو الاستنطاق أو الاجتهاد، فإنهم أجازوا لأنفسهم هنا ممارسة التأويل والاستنطاق، وكانت تلك مفارقة عجيبة.
لا شك في أن الدلالة السياقية لمفهوم الإرهاب التي وردت في الآية لا تتطابق تماماً مع ما ذهب إليه هؤلاء، فكلمة (يرهبون) لا ترقى إلى الدلالة الاصطلاحية المتداولة للإرهاب في هذه الأيام، ومن ناحية أخرى فهي مقترنة بوضع تاريخي خاص ذي مزايا زمانية ومكانية، لا يمكن القفز عليها في أية مقاربة لهذا المفهوم. وعلى الرغم من أن ابن منظور، المعجميّ الشهير، يعرّف الإرهاب بأنه: إرهاب العدو ليرتدع عن قصد الرعية وإيذائهم فيأمنوا بمكانة من الشر، إلا أن إشارة ابن منظور الخاصة بعدو مباشر مدجج بالسلاح، لم تدرج في أي تفسير لغوي للإرهاب، وهكذا وجدت عبارة الخليل بن أحمد في معجم (العين): رهبوت خير من رحموت أي أن ترهب خير من أن ترحم، ترحيباً واسعاً في التفسيرات المتطرفة.
وفي إحدى المقابلات التلفزيونية مع ادوارد سعيد، اعترض بشدة على التفسيرات التي صاحبت أول عملية انتحارية لامراة فلسطينية، التي سُوّغت بأن القرآن والشريعة تجيز هذا العمل، وأبدى انزعاجاً واسعاً من هذا التفسير الذي يعرّض الإسلام والثقافة العربية عموماً إلى تهمة الوحشية أو اللاإنسانية. وعلى أثر ذلك، اتسع المجال الدلالي للإرهاب، من تفسيرات لغوية صرفة، إلى تفسيرات علاماتية، اذ اقترن الإرهاب بطائفة من (العلامات) الخاصة بالزي الإسلامي، وبالهندام كإطالة اللحي وحلق الشوارب وقصر الثياب واستعمال المسبحة، والجبة والعمامة والقفطان، وإلى ما هناك من أمور أصبحت علامات فارقة للإرهاب في نظر الأوروبيين.
وبغية البحث عن مرجعيات دينية ثقافية أراد الإسلاميون أن يعقدوا صلة دلالية بين معنى (الجهاد) و (الإرهاب) فما يسميه الغرب إرهاباً يسميه الإسلاميون جهاداً. وهكذا وقع الملتقي لخطاب الإرهاب في إشكالية (اللبس اللغوي) للمفهوم، وتحول الصراع من صراع سياسي إلى صراع لغوي وتفسيري فانقلب مفهوم الجهاد رأساً على عقب، من عنف (مقدس) إلى عنف مدان.
[email protected]
التعليقات