في أقصى الجنوب العراقي، بالبصرة، إذ يقف المرء محنيّ الرأس أمام قامات العلماء الذين عاشوا في هذه المدينة العظيمة وصنعوا تاريخ العرب والإسلام الثقافي والفكري، يقف وكيل وزارة الثقافة العراقية جابر الجابري لينطق بكلمات تفتقر إلى كياسة المسؤول، وتهذيب المثقف، وجوّ الديمقراطية المفترض.
ما نطق به الجابري من احتقار شخصي يعدّ خرقاً لحقوق الإنسان وتصرفاً عنصرياً يصنف الناس بحسب مزاجه إلى (نكرة) و(معرفة). يجعلك هذا التعالي الفارغ تشعر بالخجل والمرارة من هذا المنطق الهابط الذي كرّسته سنوات الدكتاتورية ولم ينقض بانقضائها، بل تسلّم الراية للأسف أشخاص فضيلتهم الولاء لطوائف أو أحزاب لا تختلف عن حزب البعث في شيء، بل هي أسوأ منه بكثير، وأفضلية السوء هنا متأتية من تحويل الاستبداد والقمع من ممارسة دكتاتورية علمانية إلى ممارسة دكتاتورية مجلببة بجلباب الدين لزيادة جرعة خديعة الناس البسطاء، وكلما مضينا بالزمن قُدُماً كلما امتلأت المدونة الاستبدادية لهذه الأحزاب أو التيارات الدينية. الجابري ينطق ويمارس لغة قمعية لا استناداً إلى منصبه في الدولة، فهو منصب بسيط، لكن استناداً إلى انضوائه تحت لواء حزب دينيّ استبدل شكل القمع فقط، وبات يصول ويجول في تخريب معالم الثقافة العراقية الأصيلة ومرتكزات المجتمع العراقي غير المتدين.
يذكرني ما نطق به الجابري من شتائم بردٍّ شهيرٍ لعلي حسن المجيد في آخر زيارة في حياته إلى لبنان قبل الاحتلال الأمريكي بأيام عندما وقف بين الصحفيين ببذلته المدنية لأول مرة ومنطقه الكيمياوي نفسه موزعاً الشتائم على الخصوم، واصفاً تساؤلات الصحفيين والخصوم معاً بـ: السخافات؛ تلك الكلمة التي كررها المجيد على رأس كل عبارة وفي ذيل كل جملة. ويذكرني أيضاً بمنطق برزان التكريتي عندما عاد من سويسرا بطلب شخصي من صدام، التقى به عدد من الصحفيين ومن بينهم سعد السيلاوي مراسل (الأم بي سي) في وقتها، إذ توجه إليه بسؤال روتينيّ، فانفلت لسان الرجل ببلاغة الشتائم بوجهه الكالح الحزين الغاضب من تصرف أخيه. ويذكرني بسوقية محمد سعيد الصحّاف وألفاظه البذيئة قبيل سقوط نظام صدام، إذ كرّس الرجل تقليداً لبذاءة المسؤول العراقي. أيّ فرقٍ إذن؟!.
لكن إذا كنا نسوّغ للكيمياوي ولبرزان سوقية منطقهما؛ لأنهما عسكريان خَشِنا الطباع بسبب مهنة البطش التي وضعهما القدر فيها، فكيف نغفر لشخص يكتب الشعر، ويطيل الخطب المنبرية في كل مناسبة، ويشذب لحيته وشاربه على نحو يكشف عن وقار دينيّ، ويتقلد منصب وكيل وزارة هي ليست وزارة الداخلية قطعاً بل وزارة الثقافة، أقول كيف يمكن أن نغفر له هذا النوع من الإهانة بحق شاعر وصحفي معروف؟.
ماذا حدث في جنوب العراق بتاريخ 11/5/2008 أثناء الجلسة الختامية لمهرجان المربد. صفاء ذياب 1975 (صفاء العيسى) صحفي شاب طموح ونشيط، يعمل مراسلاً لراديو (سوا) ومديراً لتحرير مجلة (مسارات) ومراسلاً سابقاً لموقع إيلاف، وهو شاعر من جيل التسعينيات له ثلاث مجموعات شعرية، وطالب ماجستير في طور إنجاز أطروحة في السرد تحت عنوان: تمثلات العجائبي في السيرة الشعبية العربية. أراد أن ينقل وقائع اختتام مهرجان المربد، منعه حراس الجابري من دخول القاعة مستعملين تعابير مهينة باللهجة العراقية من قبيل: جُرْ منّاه؛ وهي صيغة طرد غير مهذبة ومشبعة بالاحتقار، وعندما أصرّ على الدخول بوصفه صحفياً يحمل هوية خاصة بذلك اعتدوا عليه بالضرب في وجهه ورقبته واقتادوه إلى محتجز صغير رموه فيه بعد أن كبّلوا يديه وهدّدوه بوضع الكيس الأسود في رأسه، وهو كيس يستعمل عادة للمجرمين الخطرين. وبدلاً من أن يتصرف الجابري بحكمة تليق به، ارتكب جرماً أكبر من فعلة حراسه الشخصيين بعد أن ألقى بالتهمة على حراس وزير العدل، إذ وصف الصحفيين عموماً بـ: النكرات، واللؤماء، والمتطفلين على الصحافة والصحفيين، والبعثيين إذ أطلق على جمعية حقوق الصحفيين تسمية: جمعية حقوق البعثيين، ووصف صفاء ذياب شخصياً بـ: النكرة والمتطفل والمغرور والنزق والمتجاوز للحدود الأخلاقية.
لاحظوا، أن ما قام به الجابري هنا ليس إهانة جسدية، بل إهانة تتعلق بكرامة مواطن يحمل الجنسية العراقية، ولا يتردد معظم المسؤولين أو الموظفين الأمنيين عن ارتكابها بحقّ العراقيين. وهو اعتداء يفترض أن تُطوى صفحته مع نهاية الدكتاتورية، لكن المؤسف أن تصرفات بعض المسؤولين الجدد أكثر بشاعة من تصرفات مسؤولي النظام السابق. هذا يجعلنا ننظر بأسف عميق إلى الطريقة التي اغتصبت بها الديمقراطية في هذا البلد على أيدي أشخاص لا يقلون دموية ودكتاتورية من صدام وأجهزته الأمنية التي روعت العراقيين، ولا يقيمون اعتباراً لتضحيات هذا الشعب الذي وضعه القدر في مواجهة قوى دكتاتورية داخلية وقوى إقليمية ودولية تريد أن تبتلعه وثرواته، وقوى دجالة تعتمر عمامة الدين وجبته وقفطانه كذباً وبهتاناً بغية الفوز بالكرسي اللعين.
استعمل الجابري مجموعةً من كلمات الاستخفاف، مُكرِّراً ومعجباً بتكراره، ولاسيما تعبير: هؤلاء نكرات، أو تعبير: فَدْ واحد نكرة. أو تعبير: ما يستاهلون. أو التعبير الذي يدل على التعالي والاستخفاف معاً: حضرات جنابهم. هذه التعابير، هي نوع من ترهيب العُزّل الذين لا يملكون سوى الكاميرا والقلم. أتساءل: ألم يكن من الأجدى لوزارة الثقافة أن تبني مركزاً ثقافياً بدلاً من الملايين التي تُسرق تحت ذريعة مهرجان فاشل بكل المقاييس؟ وكنت قد لبّيت دعوة في العام 2005 ورأيت بأم عيني تصرفات يندى لها الجبين. ولم أشترك فيه في العام 2006، ذلك العام الذي وقف فيه عقيل المندلاوي (مدير العلاقات الثقافية العامة في الوزارة) منتقصاً من قيمة الثقافة العراقية قائلاً بالحرف الواحد: إن الأدباء غير راضين عن أداء الوزارة، لكنهم حين يتسلمون الدنانير سيتغير موقفهم. أتساءل ثانية: هل العراق الآن بحاجة إلى المهرجانات أم البناء؟. بناء منزل لعائلة منكوبة أم إقامة مهرجان شعري؟. فتح مدرسة أم إقامة ولائم مهرجانية؟. إنقاذ التراث الثقافي العراقي من الاندثار والضياع والسرقة أم طباعة مدائح جديدة لكاريزمات جديدة؟.
ما المشكلة العويصة التي تدفع الجابري إلى هذا التهور والتعالي في كيل الشتائم واحتقار الصحفيين؟. لماذا انتحل صفة القاضي وأصدر حكمه على القضية قبل أن ترفع إلى السلطات المختصة بشكل متحضر يتناسب مع زي الديمقراطية، إذ ينصّ القانون العراقي على أن هذا النوع من القضايا من اختصاص القضاة لا المسؤولين السياسيين، فإذا كان لا يقيم حدوداً بين القاضي والسياسي فما معنى تغيير صدام ونظامه؟ ما معنى الديمقراطية؟ ما معنى حرية التعبير والوصول إلى الحقيقة؟ ما معنى أن يمارس الإعلام دور الرقيب على أداء الحكومة؟ هل وظيفة الجابري تنحصر في إمضاء الأوراق وتدبيج الخطب المنبرية والقصائد العمودية من دون أن يعير اهتماماً للجوهر الذي يفترض أن تقوم عليه مؤسسات المجتمع المدني؟.
في وسط هذه الاعتداءات والإهانات المتكررة، هل قُدِّرَ للثقافة العراقية أن تكون محروسة على نحو دوريّ من قبل ثلّة من خارج الجسم الثقافي العراقي؟. لطيف نصيف جاسم، حامد يوسف حمادي، نوري الراوي، وأسعد كمال الهاشمي، ليسوا وزراء من أجل الثقافة إنما هم حرّاس عليها لكي تتعلم كيف تحني رأسها أمام الطواغيت والأفكار المتخلفة؟. قد نجد عذراً لصدام في أن (لطيف نصيف جاسم وحامد يوسف حمادي) رجلا بوليس وظيفتهما مراقبة هذا القطّاع في جمهورية الخوف، لكن كيف نعتذر للحكومة العراقية الحالية التي يفترض أنها آمنت بالديمقراطية لكنها صمّت آذانها من الاستماع إلى رغبة المثقفين والكتّاب العراقيين في تنصيب وزير من الوسط الثقافي نفسه، يعرف مشكلاته ويعمل على تكريس حرية التعبير فيه؟.
وهكذا، يأتي الجابري إلى وزارة الثقافة بقيافة بوليسية جديدة محروسة بقوة زعامة دينية هي أبعد ما تكون عن منح الثقافة في العراق حق التعبير الحرّ، وممارسة التفكير العقلاني، ونقد الواقع بطريقة شفافة. خطاب الجابري، ومزاجه، وطريقته الإدارية تصلح للعهد الماضي لا للعهد الذي جاد فيه العراقيون بأرواحهم قرباناً للحرية والانعتاق من الاستبداد، وعندئذٍ هم قطعاً ليسوا نكرات بل النكرة كل من يتعالى عليهم ولا يرقى إلى قاماتهم المرصعة بدم التضحية.
أليس من حق كل الصحفيين الذي أهينت كراماتهم أن يقيموا دعوة ضد وكيل الوزارة؟. بقي لدي سؤال محيِّر: هل يتوجب على المرء أن يكون وكيلَ وزارةٍ حتى يتحول من نكرة إلى معرفة؟ أو يكتسب الشروط التي تؤهله لأن يكون إنساناً يتحسس آدميته التي تؤهله ليكون بمستوى السيد جابر الجابري؟.
مفهوم النكرة لدى الجابري مفهوم غريب حقاً، فهو لا يستند إلى مقاييس واعتبارات مهنيةٍ [العمل] أو أخلاقيةٍ [كرامة الإنسان] أو ثقافيةٍ [العطاء الثقافي] بل يستند إلى اعتبارات (الحرس الشخصيين) واعتبارات (المنصب الرسمي) وهكذا يتوجب على سكان العراق جميعاً أن يتقلدوا منصب (وكيل وزارة) حتى يتخلصوا من كونهم نكرات بحسب معيار جابر الجابري.