quot;طالما ظننتُ اننا نعيش في بلد ديمقراطي، انا الان على يقين اننا نعيش في زمن الدكتاتورية. وللانصاف، هذه الدكتاتورية ليست بالسوء الذي مارسه ستالين في الاتحاد السوفيتي السابق، خاصة اذا لم تكن مُعدما او امريكيا اسود او من امريكا اللاتينية او من الهنود الحمرquot; (انطون فان دير فين/ بروفيسور امريكي)

اقرّ البرلمان الاسترالي قبل فترة وباكثرية ساحقة قانون محاربة الارهاب الجديد، الذي ينص في بعض بنوده على ان للسلطات الامنية الحق في اعتقال مَن quot; ترىquot; او quot;تعتبرهquot; شخصا مشتبها بالارهاب وحبسه لمدة تتراوح بين اربعة شهور، قد تصل الى سنة، ومن دون الحاجة الى وجود تهمة محددة تـُوجّه اليه. وكان القانون القديم لا يجيز التوقيف لمدة تتجاوز اربع ساعات بدون القاء تهمة على الموقوف. وقد رصدتْ الحكومة مبلغ مليوني دولار استرالي، حصرا لاعلانات تنبّه العامة لضرورة الاتصال بالخط الساخن للإبلاغ عن حالات مشبوهة تشمل مثلا تصوير بنايات حكومية، حمل حقائب ثقيلة في القطارات المحلية، تداول نقودٍ يدا ليد، او المشي بخطوات غير واثقة او غير مطمئنة.

مر القانون بهدوء ولا مبالاة من المجتمع الاسترالي والفاعليات السياسية والثقافية، لم نسمع اعتراضا ولا تعليقا من احد الا ما فـَتـَرَ واستحيى. اماquot; صاحبة الشأنquot; الجالية الاسلامية، فقد كان تحفّظها خجولا وحذرا، ثم اعقبه تعضيد قوي وصريح لاغلب الزعامات والمنظمات الاسلامية تعلن وبشكل صريح quot; تأييدها وتفهّمهاquot; للقانون الجديد.

الحذر والخوف في مثل هذه المواقف مفهوم ومتوقع بل مبرر ايضا، لنقلْ من باب quot; التقيّةquot; وتجنب المهالك، فانت امام قانون يشرع لنفسه اختراق القانون وتجاوزه، الإحجام والصمت في مواضع حرجة كهذه حكمة وحنكة تفرضان ما يشبه الانحناء امام اعصار مدمر. ولان الحكمة والحنكة، لا تعرفان طريقا لصاحب هذه السطور، وهي بعض رحمة الهية، يقف وحيدا اعزلَ امام الاعصار.

مع القانون الجديد، يملك رجل الشرطة حقا دستوريا في ان quot;يلتقطquot; من يشاء ويصنفه بالـquot; مشتبه بالارهابquot; ويُخضعه لسرير الطب البوليسي ويمارس عليه قانون quot;الاشتباهquot; الذي يبدأ بالاعتقال والاستجوابquot; لمدة اسبوعينquot; ويتبعهما توقيف لمدة اربعة شهور اذا ارتأت السلطات الامنية ذلك، مشفوعا بمراقبة احاديث المشبوه التلفونية، تصفّح ِ بريده الورقي والالكتروني، الاطلاع على حساباته المالية، او- وهو اطرف ما في الموضوع- تعليق quot;اسوارةquot; الكترونية في معصمه تقوم بارشفة نبضات قلبه وانفاسه واماكن تواجده وطعامه وشرابه ولهاثه في السرير، مع امكان فرض الاقامة الجبرية عليه ( الحبس البيتي) لمدة سنة قابلة للتجديد. ولا يكلف امر هيّن كهذا الدولة َ عسسا ولا مخبرين بفضل نعمة التكنولوجية وتلك الاسوارة الالكترونية التي ترتبط لا سلكيا بمراكز الشرطة ليحصل لها العلم فيما اذا كان quot; المقيمquot; ما زال مقيما في بيته لم يبارح.

وفقا لذلك، سيكون في متناول اجهزة الامن سجل مكتمل للافراد وتفاصيلهم quot; لا يدع صغيرة ولا كبيرة الا احصاهاquot; وهو ما كان تنبأ به جورج اوريل في روايته 1984 حيث يرى انه لا يمكن اخضاع المجتمع والسيطرة عليه مالم يتم امتلاك سجل يحمل تفاصيل كل شخص في ذلك المجتمع. انّ وجود مثل هذا السجل اصبح امرا واقعا بفضل عبقرية الاخ الاكبر الانترنيت. انه برج المراقبة الذي وصفه ميشيل فوكو في كتابه المعروف quot; المراقبة والمعاقبةquot;. ذلك البرج الذي يتوسط سجنا دائريا يحوي الاف السجناء، برج مراقبة بسجان واحد وحيد، برج معتم لا يرى السجناء من فيه، لكن غرف السجن المضاءة كلها تواجهه بشكل دائري من حوله. هذا البرج وحده كفيل بردع جميع السجناء من فعل اي امر يخرق قانون السجن. ويضيف فوكو: ان وجود البرج بحد ذاته حتى مع انتفاء وجود الحارس فيه كفيل بردع السجناء طالما لديهم quot;اليقينquot; بان ثمة احدا ما هناك يراقبهم. وهي القفزة التي حققتها المجتمعات المدنية في quot;ضبطquot; المجتمع دون حاجة الى وسائل بدائية كالاعتقالات العشوائية والتقطيع والتحريق وسحل الجثث.

لسنا بالطبع ضد اي قانون يوفر لنا الامن، شرط الحياة الاساس، ولكنّ اغلبنا يدرك ان الدكتاتورية تبدأ حين تـُمنح السلطات التنفيذية ( الشرطة) صراحيات مطلقة وبلا مرجعية قانونية، بلداننا التي هربنا منها مثال نموذجي، حيث بامكان اي شرطي ان يسحلك الى مكان ما لتمكث فيه حتى حين بتهمة الاشتباه. ثم تغادره بعد ان تلاشت قواك العقلية والنفسية كلها او نصفها على الاقل. فما كان صحيحا وعاديا هناك، في بلاد الرعب، يصبح صحيحا وعاديا هنا. الفرق الوحيد هو انها تمارس في بلداننا ارتجالا تحت دثار الظلام، اما هنا فتحت قبعة القانون وبشكل شرعي تحت الشمس.

اذا كنا في حاجة ملحة فعلا الى قوانين صارمة لمحاربة الارهاب، فعليها ان تكون متسمة بوضوح شديد حتى يعرف كلٌّ منا اين يضع يده او قدمه واين يضع كلامه. لسنا في حاجة الى قوانين بلهاء يستند امكان تنفيذها الوحيد على انطباعات رجل الامن. نريد قوانين توضح لنا حدود القول وحدود الفعل وحدود الاشتباه، فنتحاشى بذلك ما يُودي الى المهالك. نريد قوانين تبين لنا الخيط الابيض من الاسود من الارهاب واخواته ومشتبهاته.

ولكي نذكر مثالا بسيطا على ما يمكن ان يخلقه قانون الاشتباه الجديد من فوضى والتباس، وربما سنشهد امثلة عديدة في الايام التالية مشابهة له، ما عرضه تلفزيزن الـ اس بي اس قبل ايام - واظنّ ان اكثر اهل استراليا شاهدَه - عن طالب جامعي يقوم باستعارة كتب ونشرات وزيارة بعض المواقع الارهابية، لغرض تجميع مواد اولية يحتاجها لكتابة اطروحتة للدكتوراه عن الارهاب ومنابعه واسبابه وايديولوجيته. وقعَ الرجل تحت عيون الشرطة فاعتـُقل وأُشتبه به اوquot; شُبّه لهم quot; انه مرتبط بجماعات ارهابية، ثم أُفرج عنه بعدها بايام، ربما شفعتْ له سحنة وجهه ولون عينيه، ولعله لو كان ذا سحنة مشرقية لمكثَ في السجن الى يوم يبعثون، او غادره وفي يده تلك الاسوارة الالكترونية المضيئة.

لم يوضح لنا- وهو ركن مهم- القانون الجديد ضد الارهاب، كيف تتفق المؤسسات الامنية، على تعريف مانع وجامع لكلمة quot;الاشتباهquot;، هل هو استدلال عقلي مثلا، انطباعات لا شعورية، خلجات إلهامية، والى اي مدى يمكن للفراسة والاحساس الغريزي والتخمين والتوجس وهسهسة الخواطر وملامح المشتبه ان تسهم في تحديد شخص ما بأنه quot; مشتبه بالارهابquot;. وماذا عن المشتغلين في المجال الثقافي او الاعلامي، ماذا لو أراد احد ما، بعد هذا القانون، ان يقوم مثلا باستطلاع ميداني لاماكن في باكستان او افغانستان او للضفة الغربية في فلسطين او للضاحية الجنوبية في بيروت ومقابلة اشخاص يتبين بعدها انهم quot;اقطاب رحىquot; او اسماك كبيرة في بحيرة الارهاب، الا يكون التفكير في امر كهذا بعد اليوم من لدُن ذوي السحنة المشرقية ضربا من التهور والجنون، ومن يجرؤ؟.

في تعليقه على غزوة مانهاتن، قال امبرتو ايكو، ان هذا الحدث لم يغير اساليب حياتنا فقط بل انه غير معه الدلالة اللفظية لكلمة quot;حربquot;. موضحاً، أنكَ حين تعلن حربا على احد ما يعني ان تهدده بقتله كي تردعه، اما هؤلاء المقاتلون الجدد، وهدفهم الاساس والوحيد من الحرب هو ان quot; يموتواquot;، فلم يتركوا للخصم من فرصة لمنع اندلاع الحرب او لشروط يمليها المنتصرعلى الخاسر فيها، ولا من فرصة لسلام يعقبها كما جرت العادة في جميع الحروب على مدى التاريخ البشري، ذلك التاريخ الذي لا معنى له ولا موردَ لاستمراره الا بالحرب.

لم يغير الارهاب حياتنا ويجعلنا هائمين نتجول في القواميس بحثا عن تعريف جديد شامل وكامل لمعنى كلمة quot; حربquot; وحسب، بل بدأ يغيّر قوانينا.
وهاهي الضحية تتلبس روح جلاديها.

سدني
[email protected]