في التاسع من ايار الحالي، وقف حزب الله في ساحة الحرب وحده، وحده دون ان يجد مبارزا يقف امامه. وقف وحده طالبا حربا فلم يجد من مُحارب في الخندق الآخر. لكنه واصلَ هجومه وسجل هدفا في مرمى الدولة اللبنانية ظنّ انه هدف الفوز، لكنّ صافرة الحَكَم الدولي معضّدة براية الحكم الجانبي وهو من جنسية اقليمية، عربية بالتحديد، تعلن الغاء الهدف لانه جاء من وضع quot;تسللquot; اوف سايد. فصارَ لزاما على الحزب ان يكتم ابتهاجه بالهدف غير الشرعي، وان يعاود اللعب في المباراة التي مازالت منذ ثمانية عشر شهرا في حال تعادل سلبي.
مباراة حزب الله مع الدولة اللبنانية - والسياسة مباراة بامتياز- مفتوحة دون وقت محدد، فهي تحظى بتمديدات لانهائية. يعلم الحزب ان هذه التمديدات اللانهائية تصب في مصلحته نظرا للياقة البدنية العالية التي يتمع بها اعضاء فريقه المكتملين عدة وعتادا، والمدعومين بمشجّعين اشداء، وفي الطرف الآخر المعادي ما يوازيهم شدة او يضاهيها، مغمورين، كلا الطرفين، باهازيج ساخنة وجاهزين للانقضاض على ارض الملعب وتحويله الى ساحة حرب لا الى مباراة قانونية.
كان في امكان الحزب الالهي ان لا يعترف بصافرة الحَكَم، وان يتمرد على الغاء الهدف وان يعلن فوزه من طرف واحد ويطوي الدولة تحت جبته الالهية، مما يعطي اشارة خضراء لذلك الجمهور الساخن باحتلال الملعب، وان يسكـّت الحكام ويكتسح الجمهور المنافس وحكومته الضعيفة في السراي. لكنه، آثر ان يعود الى الموضع الذي عاد اليه من سبقه من قبل فيما يعرف لبنانيا بحالة quot;اللاغالب واللامغلوبquot;، ربما لادراكه بعدم حلول الوقت المناسب، او لأنّ الحاضنين له لم يشاؤوا وفقا للمصالح والتوازنات وقوانين المناورة، او لأنّ الحزب يدرك يقينا انّ بامكانه الاستيلاء على الحكومة لكنه غير قادر على الاستيلاء على الدولة. وربما هي بقايا رحمة الهية، تفقـّدها الامين العام فوجدها ماتزال متوهجة في قلبه، ولاتريد لهذا البلد المنهك، الرهيف مثل سنبلة قمح طرية، ان يتهشم على صخرة حرب اهلية جديدة.
قوة الفريق الالهي في لبنان تنبع من روافد ثلاثة، قاعدته الشيعية العريضة التي ينشّطها الشعور بالغبن والحرمان مثل كل الاقليات الاخرى في العالم الاسلامي وهي بعض تركات الامبراطورية العثمانية التي ورثتْ الهيمنة السنية على الدولة الاسلامية منذ تاسيسها في القرن الاول الهجري. ورافدها الثاني، الدعم اللوجستي والسياسي والعقائدي الذي يتلقاه من حاضنتيه، دولة الحرس القديم في مرتبة ثانوية ودولة الحرس الثوري الاسلامي في المرتبة الاولى.

ورافد قوته الثالث، وهو الاوفر والاهم، السنوات الطوال من المقاومة ضد اسرائيل التي تكللتْ بانسجاب الاخيرة من الشريط اللبناني المحتل في الجنوب. ولعل التفويض المطلق الذي حصل عليه الحزب من الدولة اللبنانية بحرية التنظيم وامتلاك السلاح واقامة المعاهدات مع اطراف خارجية لخوض quot;مباريات دمويةquot; بالنيابة عنها ضد فريق الدولة المعادية اسرائيل، كان الخطأ المبدئي الذي سمح للفريق ان ينمو بسرعة فلكية، وان يمتلك قوة، والقوة مغرية ومفسدة، تزيّن له الخروج على الشرعية اللبنانية، وان يكون دولة اكبر من الدولة الام، اصلب بنيانا واشد عودا. دولة تمتلك quot;جيشاquot; اشبه بتنين نائم لا يبقيه في كهفه نائما ويحقنه بجرعات منومة سوى مشيئة الحاضنين. تنين نائم لكنه رهن الاستيقاظ في اية لحظة لحرق الارض ومن عليها.
كان اغلب المراقبين للوضع اللبناني ينتظر من الحزب الالهي بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب ان يعود الى الاهداف الاولى التي تأسستْ عليها مجمل الحركات الشيعية في لبنان، النهوض بواقع الشيعة وتخليصهم من الحرمان والغبن، الاهداف التي اخلصتْ لها الثلة الرهبانية من القيادات الاولى في التنظيمات الشيعية متمثلة بالامام المغيّب موسى الصدر والامام الراحل محمد علي شمس الدين، وراهنا بالشيخ محمد الحاج حسن الذي اسس - اعتراضا على سياسة قيادات الحزب الراهنة - quot;حركة التيار الشيعي الحرquot; مدعوما بالامين العام الاسبق صبحي الطفيلي صاحب مسيرة الجياع التي انطلقت في عام 1997، والتي تسعى جاهدة الى العودة الى الاهداف الاولى للحزب متمثلة بالنهوض بـquot; المحرومينquot; واعتبارهم حجرا اساسا لا هامشيا في البيت اللبناني اسوة باخوتهم من الطوائف الاخرى.
لكن القيادة الجديدة المهتدية بصلابة احمدي نجاد وإلهاماته، والمتحمّسة لاهداف كونية كمحو اسرائيل من الخريطة واقامة دولة الله على الارض. تعيدنا الى الزمن الاول، زمن ماقبل التكوين وتقوّض هباءً ما انجزته القيادات الحكيمة الاولى من بنيان ومكانة للطائفة المحرومة. وخيّب للاسف الشديد آمال كثيرين من السواد الاعظم للطائفة ذاتها حيث وضعهم في موضع المريب الذي يسعى لالتهام الدولة كاملة والذي لا يمكن الوثوق به بعد ايقاظه التنين النائم في التاسع من ايار. الامر الذي يمثل موضع ألم ووجع كبيرين لجميع الحرصاء على واقع الشيعة في لبنان واولهم الامام موسى الصدر الذي خلقَ غيابه فراغا كبيرا أثمرَ عنه انحراف القيادات الشيعية اللاحقة عن هدف النهوض بواقع هذه الطائفة quot;المنبوذةquot;. قلبي عليك ايها الامام الحبيب، في اي ارض انت الآن، وكيف شرابك وطعامك ومنامك.
وماذا بعد الدوحة؟ هل يمكن بلسمة الجراح وشفاؤها. امْ انّ هذا اليوم سيقسم التاريخ اللبناني الى ماقبله وما بعده، وهل تمحو القـُبل والمصافحات الدمَ الذي أهدِر في لحظة غضب ثوري؟ وهل يعود الحزب الى منزلته ذاتها التي كان عليها في لبنان قبل ذلك اليوم الاليم، ام سيجد الحزب انه انحدر الى موقف حرج يفرض عليه اذا اراد العودة الى المشاركة فيquot;الدوري اللبنانيquot; ان يكسب ثقة واطمئنان بقية الفرق الاخرى عبر تقديم ضمانات قوية من الالتزام بقوانين اللعبة، وهو ما لا يمكن تحقيقه الا عبر تنازلات كثيرة اههمها الاعتراف بالخطأ الفادح الذي ارتكبه في التاسع من ايار مصحوبا باعتذارات ندم عن لحظة الغضب، والغضب بلاء وشر، وايضا بفتح ِ ابواب المحبة وشبابيكها، ومناشدة الذين اصابهم لهب التنين بالغفران والمسامحة والعودة الى العشاء على طاولة واحدة، اسمها لبنان، بلد الارز العظيم.
وختاما، نتمنى من السيد الامين العام، أنْ يقفَ لحظة صفاء وصلاة امام المرآة اللبنانية، علـّه يتلمّس، وهو صاحب ورع وتقشف، الجانب الرحماني في مرآة نفسه، وانْ يرحم الامة ويرحم نفسه من quot;الطموحات الكبرىquot;، وأنْ لا يغيب عن باله بانّ المبارة التي يخوضها في لبنان هي ضد فـُرَق ٍ شقيقة وشريكة في الحياة والارض، وليست ضد اسرائيل، وأنّ له، اذا أراد ان يحرز فوزا، الالتزام بلعبة السياسة لا الحرب، وبانّ تحقيق هدف من موضع quot;التسللquot; اوف سايد، لا يعني بالضرورة سهولة وضمانة تسجيل هدف في الهجمة التالية، وانْ يواجه العباءة الحاضنة انّه ليس لها ان تذهب بعيدا في بسط ظلالها على الحزب. وانْ يبرهن بالفعل لا بالقول على تصريحاته الكثيرة التي يعلن فيها بوضوح ان الحزب يملك ارادته المستقلة في صنع القرارات لجهة مصلحة لبنان اولا. بلد الثمانية عشر لونا لا اللون الواحد الوحيد.
وسلام على لبنان، على الجبل والبحر والسهل. على بلد النور الذي يضيء اكثر كلما اشتدتْ الظلمات من حوله.