(حيران أدور العين يا بويه، نار بدليلي النار يا بويه)
أغنية لفائزة أحمد بلحن رضا علي
كان نوري السعيد يشدد على وضع الضمة على العين في كلمة العراق، بدلا من الكسرة، باعتبار السعي إلى رفع عين العراق؟!هكذا كان الرجل يرى في الحفاظ على كرامة العراق.لكن الرجل كان يحرص على إبلاغ خادمة منزله إلى أهمية وضع بقايا الطعام في سلة المهملات، خشية أن يأكل منها الشرطيان القابعان في حراسة داره، باعتبار أن الشبع يولد الطمع؟! وكان صدام حسين يشدد على أن (الرجال خلقوا من أجل المكاون [القتال]) .باعتبار أن المقاتل يعد الضمانة لمستقبل البلاد، لكن الرجل كان أول المنسحبين من بغداد حين جاءتها دبابات الغزو الأجنبية. أما نوري المالكي، فقد استطاع أن يحصد المزيد من الإعجاب في أعقاب حادثة القصف الذي تعرض له قصر المؤتمرات، وحالة الرعب التي اجتاحت بان كي مون،فيما ظل المالكي واقفا غير مبال بقصف الهاونات، وعلى هذا أول العراقيون الحادث باعتبار أن من يصمد على الضرب بالقنابل، ربما يكون قادرا على مواجهة الآتي من المفاجآت.لكن حكومته مازالت تعاني من المحاصصة الطائفية والغياب الكامل والشامل لهيبة الدولة.
كيف يمكن تمييز العلاقة بين الذات والعالم الخارجي؟ إنه سؤال الجوهر والمظهر، ذلك الذي يحضر بقوة في الواقع العراقي. وهو المعنى الذي لا يفتأ حاضرا في العقل والوعي، وصولا إلى ترشيد وتكييف ملامح الممارسة، تلك التي تطيش ملامحها بين الاجتماعي والسياسي والثقافي. ومابين ساع إلى الحفاظ على الكرامة، وآخر متوجه نحو تركيز المراجل، وآخر متطلع نحو بث رسالة في القدرة على الصمود، تبقى صورة الوعي التاريخي في العراقي تحمل بين طياتها المزيد من التداخل والمقحمات.
يعيش العراقي لحظة التناقض حين يتلقى خبرا مفجعا، لاسيما في ما يتعلق بموت عزيز، حتى لترى العجوز منهم وقد تحول إلى صبي مفعم بالنشاط والحيوية! إنه الفقد الذي يأتي متطابقا مع مزاجه . وهي كيمياء الفجيعة تلك التي تبقى تحط على الأفئدة التي تغرم بالحزن حد الوله .وهاكم حكابة شاعر العامية الكبير (عريان السيد خلف)، الذي فجع باستشهاد أخيه خلال الحرب العراقية الإيرانية، فما إن بلغه النعي حتى ظل صامتا مبهوتا من وقع الألم، وفيما الجميع من حوله يحثه على البكاء، من أجل (غسل الروح)، بقي الرجل ساكنا مرتاعا، حتى جاءت لحظة يوم الأربعين، حين وجد شقيقته القاطنة في إحدى مدن الجنوب وقد احتضنت قبر شقيقه وهي تندب(شلونك يابعد أختك شلونك؟ بعدك حلو لو خرب لونك؟) حينها استغرق الشاعر عريان بالبكاء الهستيري المر السخين ومن دون انقطاع، إلى الحد الذي جعل من كانوا يحثونه على البكاء، يطلبون منه التماسك والتحلي بالصبر!
هكذا هو حال العراقي، يسعد بالحزن ويجد نفسه فيه، بطريقة لافتة يعز فيها التفسير والتأويل.إذ يبقى البكاء بمثابة البلسم الشافي لكل أدران الوقائع والمجريات لهذه الحياة التي لا يجد منها سوى الأحزان من دون مسرات، فيما يبقى المحرضون على البكاء يتربصون بهذا الكائن، ما بين توجيه وإعداد وتوظيب.وهكذا يأتي الشغف بالحزن واضحا جليا بأسطع ما يكون، حين يبكي العراقي في كل شيء حزنا كان أم فرحا، لقد بكى العراقيون حين انتهت الحرب العراقية الإيرانية، وبكوا حين حصلوا على بطولة أمم آسيا وقبل يومين بكوا حين انتصر الفريق العراقي لكرة القدم على أستراليا.يبكون حزنا وفرحا، غما ونشوة، وهم لا يطربون إلا للشجن والعويل، حتى أعراسهم تتحول إلى منادب وآهات، حين يعتلي مطربهم المسرح، ليندب آهات وملامات وأبو ذيات.
ما انفكت الحاجة سنية تردد مقولتها(حين وزع رب العالمين الأرزاق لم يرض أحد برزقه، ولكن حين وزه الله العقول رضي الجميع بها) وهكذا هو حال العراقيين حين يتم إلحاق الوعي التاريخي برجال المؤسسة الحاكمة، إنه الذاتي المحض الذي يتبدى ضروريا من أجل ظهور الموضوعية. وهي لحظة الصراع بين الذات والعقل. ذات تسعى نحو تدبيج ما يروج له الفاعل الرئيس باعتبار تقمصات السلطة، لتتبدى سلطة (الكرامة والرجولة والقدرة على الصمود). وعقل لا ينفك يصارع كل هذا الثقل من التقحمات التي تفرضها إرادة السلطة بحق المجتمع. إنها الممارسة التي لا تنفك تحيل عادة إلى الذهنية الجمعية، باعتبار الخشية والخواف من اللوم والتقريع والعتب، فيما زاد على كل هذا، القتل والإلغاء المباشر للخارج عن السائد والمتداول.باعتبار سيادة المقولات المجردة والشعارات الرنانة، والترويج لسردية الحزن و النحيب الذي راح يتم إلصاقه بالشخصية العراقية.
إنه التسيد للموضوع على حساب المكونات الذاتية، وإلا ما معنى أن يتم تشخيص الذات العراقية بالخبل تارة، والتجهم أو بالرغبة العارمة بالقتل و إلصاق تهمة الدموية بهذا الشعب المبتلى بحركات سياسية، لا تنتج سوى القتل والسحل والإعدامات والتصفيات والتهجير والعزل والاجتثاث.إنها القواعد التي تستنها السلطة السياسية في سبيل ترسيم معالم(السلام والقانون) الموجهين نحو توكيد حالة الخضوع لصالح الفاعل السياسي، فيما تتحول الممارسة الاجتماعية إلى مجرد عوارض طارئة أو في أحسن الأحوال ملحقة.