(تشريح بنية الوثنية السياسية)
تعتبر مأساة الشيخلي صديق صدام الحميم مأساة كاملة، كما جاءت في كتاب القصة السرية لحياة صدام (تأليف كوغلن) فقد كان هذا المثقف البعثي من أقرب اثنين لصدام بعد خاله الطلفاح، شاركه في السجن وعلى ظهر الدبابة في التآمر والاختفاء ومحاولة اغتيال القاسم؛ فلم يشفع له؛ وأنهى حياته مشردا معزولا بين سفير ومتقاعد، ثم قتل على باب البريد وهو يدفع فاتورة الهاتف، ولم يكن الوحيد؛ فقد قتل صدام تقريبا كل واحد، بمن فيهم أصهرته، فيتم أحفاده ورمل بناته..
وحين لم تبق أمة، انتخب مائة بالمائة دليلا على نهاية الأمة إلى الصفر.
ومن أعجب من قتل ناظم كزار الذي دربه على أساليب التحقيق في قصر النهاية، حيث ينتهي كل من يصل إليه، من ألذها كانت عند الكزار إطفاء السجائر في أحداق ومقل المستجوبين، وأخيرا خطط الكزار لقتل معلمه كما في قصة أبي مسلم الخراساني فنجا هو والبكر بأعجوبة وقدر..
كل ذلك قبل أن يدشن مصنع لإنتاج تماثيل صدام، وتنتشر في عالم العروبة من أقصاها إلى أقصاها، موضة عبادة الشخصية، واستبدال الجمهوريات أو ما تبقى منها بملكيات متعفنة قميئة، في تحول قميء قبيح للمجتمعات العربية، كما جاء في قصة التحول عند كافكا إلى صرصور كبير..
وينفعنا التاريخ في قراء هذا السفر الأسود من تاريخ الإنسان..
فقد جاء في كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد:
(أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحس الخوارج فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم وكانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا: شأنك. فخرج إليهم فقالوا ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا قد أجرناك. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلِّمونه أحكامهم وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم أخواننا. قال ليس ذلك لكم. قال الله تبارك وتعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) فأبلغوننا مأمننا؛ فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: ذلك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن)(1).
إن هذه القصة تحكي اختلاط الإلهي بالبشري، والتشدد بالجهل، والعنف بالمقدس.
ومن معين الخوارج تستمد حركات (الإسلام السياسي) زخمها الحالي، ولذا فإن (أبو حمزة الخارجي) ينام اليوم مستريحا في قبره فقد أعيد أحياء مذهبه من الأجداث؟
كان الناس يظنون أن الصنم هو الحجر والتمر والخشب ولكن محمد إقبال يقول أن أصنام قريش موجودة فقط تبدل ثوبها في كل مناسبة؟؟
وفي الوقت الذي تعيش حركات الإسلام السياسي خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا ولا تعرف ما هي المعاصرة وترتهن لقوة السلاح؛ فإن التاريخ ينقل لنا كوارث من التعصب تمت في أوربا، فقد اندلعت حمى مجنونة في القرن السادس عشر على مستويين الأولى قام بها البروتستانت عام 1529 م في سويسرا وهولندا وألمانيا تحت شعار: أيها الصنم إن كنت إلها كما تدعي فدافع عن نفسك؟ وإن كنت بشراً فيجب أن تنزف دماً بالتصفية الجسدية.
كل ظنهم أن الوثنية هي في التماثيل والصور كما يفعل السلفيون عندنا وفي كل دين..
ويعلق (بيتر يتسلر Peter Jezler) مدير المتحف التاريخي في (بيرن) هل كان ما فعلوه جنوناً أم إرادة الله حقاً كما يزعمون؟
وختم كلامه ( إنه سؤال للضمير في أوربا المسيحية والعالم الإسلامي)(2).
والمهم أن أعظم التحف الأثرية في الشمال الأوربي تم نسفها نسفاً، بحيث يتحسر عليها الباحثون اليوم.
وعاصر هذا المرض من التعصب الفيلسوف الإنساني (ايراسموس Erasmus von Rotterdam) ووصف تلك النزعة التدميرية: (أنها تشبه تدمير طروادة في العصرالقديم).
وأما التدمير الثاني وكان أشد هولاً وأعظم مساحة فكان لحضارات العالم القديم على يد عصابات من لصوص الأسبان حيث لا تعلم أوربا ماذا يحدث هناك.
ووصف الفيلسوف والمؤرخ الألماني شبنجلر ما حدث بهذه الأسطر المأساوية:
(فحضارة المايا لم تمت جوعاً بل قتلت قتلا وهي في أوج ازدهارها، ودمرت كما تدمر زهرة عباد الشمس إذا ما قطع أحد المارة تاجها؛ فكل دول الازتيك بما فيها من قوة عالمية وأكثر من اتحاد، وبما لها من حجم موارد أضخم بكثير من موارد الدول الإغريقية والرومانية في زمن هانيبال، ونظام مالي أعد بعناية، وتشريع بلغ درجة رفيعة من التطور، وأنظمة إدارية لم يحلم بها حتى وزراء شارل الخامس، وثراء عريض في الآداب واللغات، ومدن عظمى ذات مجتمعات متأدبة ولامعة ذهنية، مجتمعات لا يستطيع الغرب أن يقدم مجتمعا واحدا يضارع هاتيك.
أقول كل هذه الدول وبكل مالها من أرصدة حضارية لم تندثر نتيجة لحرب يائسة، بل إنما جرفتها خلال سنوات قليلة، عصابة ضئيلة العدد من اللصوص، ودمرتها تدميرا جعل الآثار التي خلفها السكان بلهاء لا تحتفظ حتى بأي ذكرى عن تلك الحضارة؛ فمن المدينة العملاقة (تينو شتتلان) لم يبق حجر واحد لم يغيبه الثرى في أحشائه!!
وأذعنت العناقيد من مدن المايا العظيمة التي شيدت في غابات يوكاتان العذراء لهجمات نبات الأرض، واستسلمت لها استسلام من فترت همته وخارت عزيمته.
وهكذا ترانا اليوم لا نعرف اسم مدينة من تلك المدن، ولم تعف يد الدمار إلا عن ثلاثة من كتبهم، لكنها كتب لم يتمكن أحد حتى الآن من قراءتها.
أما أشد مظاهر هذه المأساة إيلاماً للنفس وترويعاً لها كون هذا التدمير الساحق الماحق يتنافى وأبسط ضرورات الحضارة الغربية.
وقد جاء وليد نزوات خاصة فاضت بها نفوس أولئك المغامرين، ولم يترام إلى مسامع ألمانيا وفرنسا أو انكلترا أي نبأ عما يدور في المكسيك ويحدث.
وهذا المثال لدليل قاطع ما بعده دليل على أن تاريخ الإنسانية لا يمتلك أي معنى كان، وعلى أن المغزى العميق إنما يكمن ويثوي في مجرى حياة كل حضارة على حدة؛ فالعلاقات المشتركة بين الحضارات هي من بنات الصدف ودون أهمية.
ولقد بلغت الصدفة في هذه الحال درجة من القسوة والتفاهة والشذوذ والغباء بحيث لا يجوز لنا أبداً أن نبدي أي نوع من التسامح نحوها؛ فعدد قليل من المدافع والبنادق بدأ هذه المأساة وأنهاها)(3).
وقصة الوثنية السياسية في عالم العروبة اليوم تفتح النقاش حول مفهوم الصنم فما هو؟
قد يكون الصنم حجراً أو بشراً أو (إيديولوجية). ولكنه يتظاهر دوماً بأنه متعالي ما فوق بشري، يملك صفات خارقة ويتلون حسب العصور، ويفرض على العقل الإنساني الانصياع والرهبة، أمام (سيطرته)!!
لذا وصف الفيلسوف (محمد إقبال) أن الصنم (مناة) تحافظ على شبابها عبر الأزمنة:
(تبدل في كل حال مناة... شاب بنو الدهر وهي فتاة).
ولم تهدأ معركة (الصنم) و(الفكرة) عبر التاريخ، فقد يكون الصنم (تمثالاً) لامعاً يمنح البركات، يطوف حوله بشر مغفلون، يزعمون أنه يشفي العلل، ويقيم المشلولين، وتحبل العقيم بلمسة منه. أو (بشراً) متعالياً فوق النقد والخطأ، كلماته حكم خالدة، وألفاظه شعارات تعلق في كل الشوارع، وصوره مرفوعة بكل الألوان والأحجام واللقطات، حيثما قلب المرء وجهه.
أو قد يكون الصنم (إيديولوجية) لا تقبل المراجعة، فرضها كهان يتمتمون ويرطنون بمصطلحات لا يفهمها المواطن أكثر من فهم فلاح رياضيات التفاضل والتكامل؟ كما في زمع الكهان ونفث السحرة، الذين ترتبط مصالحهم بالوثن الذي رفعوه، وتتعلق كل امتيازاتهم بهذه المراهنة الحمقاء، فيبنون لأنفسهم مجدا على حساب قتل الأمة، ثم بدورهم يقتلون.
وأبسط الأصنام ما نحت من الحجر لظهوره، وأعقدها الإيديولوجية، لاختفائها خلف الشعارات في كلمات ما أنزل الله بها من سلطان.
وقد يمتزج الاثنان في صورة القائد البطل الملهم؛ فترفع له الأصنام على شكل تماثيل شاهقة، يطل بها من علٍ بوجه مكفهر، ويد ممدودة إلى جماهير مطحونة، تعيش كي لا تعيش، مغموسة بالذل لقمتها، ليس عندها قوت يومها، غير آمنة على نفسها، مطوقة بالقلة والقذارة والفوضى، وإذا تنفست كان الجو عابقاً بجزيئات (رجال الأمن).
لقد عبد أهل الجاهلية الأوثان؛ فأقاموا نصب الَّلات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وظن العرب أنهم نجوا من موبقة الوثنية، ولكن (الصنم) عاد فبزغ من جديد، بنسخ مستحدثة، عندما غربت شمس (الفكرة).
وأقيمت التماثيل العملاقة للينين وستالين وماوتسي تونغ وبول بوت وحافظ الأسد والقذافي وشمس الواعظين وقرة المتقين وصدام المصدوم، ومن لم يرفع تمثاله علت صوره في كل المطارات، وأعيد إحياء مركب الأقانيم المسيحي السري؛ الآب والابن والروح القدس في معظم مطارات بلاد العروبة أوطاني؟؟
وفرضت إيديولوجيات بنسخ مزورة بقوة السلاح وسطوة رجال الأمن.
ويخطئ من يظن أن (الصنم) مرتبط بالتمثال من حجر، كما يخطئ من يعتقد أن المشركين كانوا ينكرون وجود الله، كذلك يقع في الوهم من يتصور أن معركة الأنبياء التاريخية كانت (تيولوجية) تتناحر في الجدل اللاهوتي، وتدور في حلقات نقاش حول مكان الله.
كما يخطئ من يظن أن فرعون المذكور في القرآن هو (بيبي الثاني) الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد.
لو كان (التمثال) صنماً لما عملت الجن لنبي الله (سليمان) عليه السلام محاريب و(تماثيل) وجفان كالجواب، وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا، وقليل من عبادي الشكور، فالعبرة ليست في الشكل ولكن لماذا صنع الشكل؟ وما وظيفته سواء ركب ظهر الدين أو الشيطان؟.
وكان البدوي يتحدث بكل بساطة عن وجود الخالق:
(إن البعرة لتدل على البعير وإن الأثر ليدل على المسير. سماء ذات أبراج. وأرض ذات فجاج. وبحار ذات أمواج. ألا تدل على وجود اللطيف الخبير).
واختصر القرآن ذلك في نصف آية فقال:(ولئن سألتهم من خلقهم ليقولُّن الله فأنى يؤفكون).
كما أن معركة التوحيد التي خاضها الأنبياء في التاريخ لم تكن في السماء بل في الأرض. لم تكن تيولوجية غيبية جدلية لفظية، تستخدم أدوات (علم الكلام) و (المنطق)، بل كانت اجتماعية سياسية، تدور حول السلطة والمال والنفوذ والمرجعية والجنس.
تأمل قصة شعيب الاقتصادية ولوط الجنسية وفرعون السياسية فكلها من رحم الشيطان خرجت!! ولها جاء الأنبياء ليصلحوا المجتمع في الاقتصاد وهلوسات الجنس وحبال السياسيين الكذابين.
ولذلك كانت طاحنة قاسية، هُدِّد فيها الأنبياء بالرجم والهجر والإخراج، ودفع البعض منهم حياتهم ثمناً لذلك...
وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب. كذلك يمكن لأي مجتمع أن يتحول إلى فرعوني بلبس مسوحه والتحلي بأخلاقه، عندما يتشقق المجتمع إلى طبقات وتحول أهله شيعاً.
إنه لا يهم أن يكون الصنم من حجر أو تمر أو شعار أو حزب أو عائلة بل نظرتنا إليه. ونحن من نشحنه بالمعنى.
والأهم من هذا السدنة الذين يقفون خلفه، يوحون إلى الجماهير زخرف القول غرورا، أنه يضر وينفع. ويضع ويرفع. ويعتقل ويطلق. ويمنح الوظائف ويمنع. ويغدق المال ويقتر في الرزق.ويستحق الرهبة. ويتوجب له التعظيم ومراسيم الزلفى، ومواكب الكذب، وخطابات التبجيل والتغني شعرا بأوصافه البهية.
فهذه هي مجتمعات الوثنية ومقابلاتها من مجتمعات التوحيد، وتحت هذا التصنيف فإن المجتمعات العربية حلت ضيفا مبجلا في خانات الوثنية منذ زمن بعيد، مع كثرة الطقوس، لأنها محنطة ميتة لا تؤدي وظيفتها من أيام كافور الأخشيدي.
بل والتقدم إلى الصنم بالقرابين البشرية في الحروب، عندما يأمر الزعيم الجيوش بالزحف المبين فيزحفون إلى الموت وهم لا يعقلون.
إنها مشكلة اعتقال العقل بالوهم المبين... واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم.
إن هذا هو الذي اختلط على (عدي بن حاتم) عندما جاء وهو (مسيحي) فدخل المسجد وصليب معلق في رقبته، والرسول (ص) يقرأ الآية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).
إن عدي استفظع الموضوع، كيف يتحول الحبر والراهب بضربة واحدة إلى رب؟
فشرح له (ص):
(إنهم حرَّموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فذلك عبادتهم إياهم)(4).
وعندما وجه رسول الله (ص) رسله إلى الأرض طالب بكلمة السواء أن لا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا، وهو ما وصلت إليه الديمقراطية الحديثة، أي أن يكون للجميع نفس الحقوق والواجبات في مجتمع أفقي؛ فنرى الرئيس الأمريكي (ترومان) يأكل مع الجنود ويحمل طعامه بيده وهو يعلن ضرب اليابان بالسلاح النووي قبل خمسين عاماً.
أو نرى حفيده (كلينتون) وهو يساق إلى المحكمة للتأديب أمام شاشات التلفزيون يراها المليارات من البشر لأنه انحرف يحتاج للتقويم، أما عندنا في بلاد الخوف فقد تحول الحاكم إلى رب يقذف بالحمم من قمم جبال الألب..
إنها ليست رواية عن العهد الراشدي والصحابة. إنها واقعة رأيناها بأعيننا. ولكننا نبصر العالم بأعين الموتى.
لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها.
أين الأصنام إذاً هل هي حقاً في أفغانستان حيث تم تدمير تماثيل بوذا المسكين الوديع، وهو لا يدافع، حتى جاءتهم طيور أبابيل من قاذفات 52 فدافعت عنه بعد أن تحول إلى رميم.؟
هل هي أصنام بوذا العملاقة أم سدنة السياسة؟
إن اختلاط هذا المفهوم وعدم تحرير العقل منه يجعل الإنسان في ضباب كثيف، وعطالة في التحرر من الوثنية الفعلية.
ومع استيلاد الوثنية وسطوتها ورسوخ شجرة الاستبداد تموت الحياة ويستل منها رمق الحياة. ويعاني العقل من الاختناق بنقص الأكسجين، وتسبِّح الأمة بحمد الجبارين جهراً وتلعنهم سرا لتنشأ ظاهرة النفاق.
وإذا منحت أي حق هو لها، كان منحة رائعة من يد عليا!!
ظلمات بعضها فوق بعض أذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله نورا فماله من نور.
إننا نضرب في المكان الخطأ، كما ينطح الثور الاسباني خرقة المصارع، وهو يظن انه يحسن صنعا. إننا في العالم الإسلامي نفعل كما يقول مالك بن نبي بالتورط في نوع من مصارعة الثيران يؤدي فيها الغرب دور المصارع الرشيق صاحب السيف القاتل ونؤدي فيها نحن رقصة الموت (دور الثور الأخرق الذي يبدأ دوماً بالهجوم لكي يموت بعد ذلك أمام جمهور يصفق بحرارة وهي صورة تعالجها وسائل الإعلام الرأسمالي بقليل من النزاهة رغم إلمامها بتفاصيل الصورة الحقيقية في استعراض علني لمدى الدجل الذي يستطيع الإعلام الرأسمالي أن يذهب إليه قبل أن يعرف أنه الدجال)(5).
إن من السهل إزعاج الآخرين ولا يحتاج كسر قلوب عشرين شخصاً أكثر من عشرين إهانة في عشرين دقيقة. ولا حاجة لأن تستعدي عليك العالم أكثر من التعرض لمقدساته.
ولكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. ولعل (صامويل هنتجتون) يفرك يديه في قبره فرحاً الآن بتحليل صدام الحضارات عندما يقوم المتشددون بالمهمة مجاناً بصدم العالم الإسلامي بالعالم.
إنه مع الوثنية يعلن الحداد عن وفاة الأمة. أو كما يقول مونتسكيو:(موقف الطاغية هو ذلك الذي يقطع الشجرة كي يقطف ثمرة)(6).
أو كما يقول (لورد اكتون):( كل سلطة مفسدة وقليل من السلطة قليل من الفساد والسلطة المطلقة فساد مطلق).
لا يمكن لأي سيارة أن تمشي بدون فرامل وإلا كانت في طريقها إلى الكارثة. وسيارات العالم العربي اليوم كلها تمشي بدون فرامل، ولا رائحة للمعارضة في حالة أكبر من الكارثة.
أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم.
إن وجود المعارضة فرامل تقي سيارة المجتمع من الحوادث وتحافظ على الجميع.
لماذا كانت الوثنية سيئة إلى هذا الحد؟ وكان التوحيد القضية الجوهرية التي جاء من أجلها الأنبياء وعليه مات بعضهم والآمرين بالقسط من الناس أو طوردوا إلى حافة الصلب فرفعه الله إليه؟ وكما يقول جودت سعيد:
(إن البشر حين يعظّمون إنسانا يتحول إلى طاغوت وإلا فلماذا ترسخت الطاغوتية في العالم من أمريكا إلى أصغر ديكتاتور... ولفهم الطاغوت قصَّ الله علينا قصة أكبر طاغوت في التاريخ، الذي ترك الأهرامات أكبر الآثار في الدنيا، كل منها قبر لشخص واحد بهذا الحجم. والفراعنة لم يبنوا هذه القبور كفراً بالله ولكن لينجوا في اليوم الآخر. وقصة فرعون مع موسى من أطول قصص القرآن وأكثرها تكرارا حتى لا يبقى شيء من أمر فرعون خفيا.. ذكر القرآن اسم فرعون أكثر من سبعين مرة وذكر اسم موسى أكثر من مائة مرة، وكيف دربه على الذهاب لمقابلة فرعون وكيف خاف موسى. إنها تفاصيل دقيقة مهمة يمكن تحليلها. خطابه الشعوري واللاشعوري وما وراء الكلمات من مسلمات وأسس يبني عليها وهي ليست ظاهرة بل خفية تحت الأبنية التي أقيمت عليها. وسيكون هذا موضوعاً شيقاً للدراسة والمقارنة ومعرفة طبيعة الإنسان)(7).
ولكن من الغريب أن المسلمين يلعنون فرعوناً خمس مرات في صلاتهم اليومية ولكن الأوضاع السياسية في قسم كبير من العالم الإسلامي تذكر بأيام فرعون (بيبي الثاني)، في شاهد صاعق عما تفعله الثقافة في تعطيل أقدس النصوص، وأن معظم المسلمين يمرون على الآيات وهم عنها معرضون.
مما جعل مفكرا مثل (إمام عبد الفتاح إمام) يسجل مثل هذه الفقرات الحزينة المشحونة بالتشاؤم في كتابه (الطاغية):
(وعندما أجلت البصر وأمعنت النظر في مجتمعنا العربي بصفة عامة بدت لي نظم الحكم بالغة السوء فعدت إلى التاريخ فلم اصطدم إلا بنظم أشد سوءاً وكلما أوغلت في الماضي البعيد لم تقع العين إلا على ما يسوء حتى وصلت إلى البدايات الأولى عند البابليين والفراعنة. دون أن أجد مرحلة استطاع فيها المواطن أن يقول بملء الفم هذه بلادي وأنا أنعم فيها بإنسانيتي وكرامتي وأتمتع بجميع حقوقي وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير والمشاركة في الحكم وصنع القرار السياسي)..
لينتهي إلى فقرة أشد تشاؤماً:
(إننا نتقهقر.. ومن هنا فلا تزال الرؤية حتى الآن معتمة والضباب كثيفا واليأس قاتلاً والنفس حزينة حتى الموت)(8).
وأنا كنت أتأمل دعاء الفجر (إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت) فعرفت سر الذل الذي يصب على العالم الإسلامي مع كل شروق شمس، لان الوثنية احتضنته فهي تتمتع بحصانة عندنا وخفاء، في الوقت الذي تخلص الغرب من أوثان السياسية واقترب درجة أكثر من التوحيد فرفعه الله.
وعندما يحلل (مالك بن نبي) دور الوثنية في اغتيال النهضة في الجزائر يرى أن هناك جدلية متعاكسة بين الفكرة والصنم:
(وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية فإن الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يغرس أفكارا بل ينصب أصناماً ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح) ورأى أن الوثنية غيرت لونها فاستبدلت (الدروشة الجديدة التمائم والحروز بأوراق الانتخابات)
ونظرة بسيطة لانتخابات تونس في خريف 2009م نعرف أن العالم العربي في خريف العمر حقا يعيش حياة الدروشة والاستلاب السياسي والنفاق الاجتماعي أشبه بالجثة التي تلعب فيه الجراثيم من كل صنف..
كما رأى مالك بن نبي أن من مظاهر الوثنية (المطالبة بالحقوق بدل القيام بالواجبات، وعدم فهم (الظاهرة السياسية) ومعنى (صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي) وبأن:
( الحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه. فإذا كان الوسط نظيفا فلا تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه. وإذا كان الوسط متسما بالقابلية للاستعمار فلابد أن تكون حكومته استعمارية).
ولذا فإن ما حصل كان سقوطاً:(في أحضان الوثنية مرة أخرى كأن الإصلاح حطم الزوايا والقباب من دون الوثن.. لقد ورث المكروب السياسي مكروب الدروشة. فبعد أن كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز أصبح يقتني الأصوات والمقاعد الانتخابية)(9).
ويبقى السؤال لماذا استطاع الطغاة اعتلاء ظهور شعوب بأكملها وسوقها إلى الحروب والكوارث من كل صنف؟
يبدو أن هذا يكمن في طبيعة التحول الاجتماعي، عندما يذكر القرآن أن عبد الطاغوت يقتربون في أشكالهم من القردة والخنازير.
والتحول هنا ثقافي وليس جينياً بيولوجياً.
أذاعت محطة بريطانية في 31 مارس من عام 1846 م أنه سيكون في الأول من ابريل معرض هام وكبير لكل أنواع الحمير في صالة عرض فخمة؟!!
وفعلاً جاء الناس وهرعوا إلى المعرض زرافات ووحدانا حتى امتلأت بهم القاعة وأخذوا في الانتظار وهم يمنون النفس برؤية هذا الحيوان المشهور بآذانه الطويلة وغباءه المعهود فلما امتد الوقت لم يظهر أحد ولم يكن هناك في القاعة إلا من حضر، عند ذلك ضحكوا على أنفسهم إلى درجة الإغماء لأنهم عرفوا إن كان هناك حمير في القاعة فلن يكونوا سوى من حضر.
لقد كان اليوم الأول من ابريل المترافق بكذبة نيسان(10)
هل نعيش كذبة نيسان كل يوم من تونس إلى كردستان ومن حلكو إلى تزنيت ومن حلايب إلى نواكشوط؟

مراجع وهوامش
(1) كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد ج 2 ص 122 نقلاً عن كتاب (أدب الاختلاف) تأليف (طه جابر العلواني) المعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ الطبعة الخامسة 1992 م ص 12

(2) مجلة در شبيجل الألمانية ـ العدد 11 تاريخ 12 \ 3 \ 2001 م ص 223 عنوان المقالة هل أنت اله إذن دافع عن نفسك؟

(3) أفول الغرب ـ تأليف أوسفالد شبنجلر ـ ترجمة أحمد الشيباني ـ دار مكتبة الحياة بيروت ـ الجزء الثاني ص 285

(4) يراجع في هذا كتاب (المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم ـ أبو الأعلى المودودي ـ فصل الإله

(5) كتاب (صوت الناس ـ محنة ثقافة مزورة) ـ تأليف الصادق النيهوم ـ نشر رياض الريس ـ ص 236

(6) كتاب (الطاغية) الدكتور إمام عبد الفتاح إمام وهذه الفقرة والتي بعدها للورد اكتون من نفس الكتاب نشر مدبولي ص 49

(7) جودت سعيد ـ مجلة المجلة ـ العدد 1102 ص 76

(8) كتاب الطاغية ـ تأليف أ. د. إمام عبد الفتاح إمام ـ الناشر مدبولي ـ ص 27

(9) مالك بن نبي ـ شروط النهضة ـ ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين ـ دار الفكر ـ ص 36

(10) كتاب (فلسفة الكذب) ـ محمد مهدي علام ـ مكتبة التراث الإسلامي ـ ص 69.