لا نحتاج الى ان نلتمس الاذن، دائماً، في التساؤل حول الماضي وعن كونه كتلة واحدة، ولكنّنا نبحث مجددا عن جدوى التعرّف على الماضي والذهاب الى اعادة تعريفه، فالكلّ ملتبّس، بدرجة من الدرجات، بالماضي، سواء بالمحاولات المستحيلةلاسترداده، او بردود الفعل المتباينة تجاهه، ومن الواضح انّ السياسة وآثارها المباشرة الطاغية قد اخذت منّا كلّ ماخذ، حتى لم تعد الحياة اليومية إلا صورة مشوّشة او جليّة للسياسة التي تحت اليد من حيث التداول اللغوي اليوميّ او التحليل المتقطع الذي يمر عليه الناس. انّ الاثر اللاسياسي للسياسة صار اكثر انطباعا من الاثار السياسية المقصودة. انّ ذلك شئ واقعيّ، ولكنه مرهق اذا تحولت الاتجاهات نحو قناة واحدة، تزدحم فيها التيارات وتبقى في زنزانتها. وحين يتحدّث بعض المفكرين عن بناء المؤسسات وصولا الى دولة ما، فانما يقصدون اعطاء الناس صورة، مطلقة، عن الواجبات المحددة للسلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية، فتاخذ الحياة اليومية انذاك طريقها الذي يشق فيه الافراد مسيرتهم مكوّنين مايسمى تاريخا متواصلا، من دون ان يصير ذلك التاريخ زمنا دبقا تلتصق به متعلقات متطايرة متفاوتة القيمة: نفعا او ضررا، او طمسا للمعالم، مما يمكن تسميته: القصور الذاتي بعد تراكمه الثقيل الذي لم يتخفف بالتعويض.
والى الان، فان افكار هيغل او ماركس او ماكس فيبر حول الدولة الحديثة هي ذات قيمة تداولية معترف بها على نطاق واسع من الناحيتين النظرية والعملية، وبالخصوص الاخير منهم وفي صدد البيروقراطية، كما ان تفصيلات النقد الذي دشنه ابن خلدون في quot; المقدمة quot; للنفوذ والذي اطلق عليه لقب quot; النِّصاب quot; واعطاه اطارا يناسب تماما النفوذ من حيث كونه مفهوما اجرائيا وواقع حال ايضا، تفرزه سلطة المؤسسة ويترعرع فيها ثم يعشعش في الدول الحديثة، اذا اردنا المقارنة التقريبية كما فعل الاستاذ عبدالله العروي، تلك التفصيلات يمكن ان تلقي ضوءا للاستمرار في رؤية واقع الحال الذي يبدو انه ممنوع عليه الاستجابة للتغيير مما يدفع الى نفاد الصبر في اقل الاحوال سوءا واللجوء الى الانقلابات العسكرية التي لم تسمح بانشاء دولة عربية حديثة، هي من النواحي الموضوعية ممكنة.
انّ اللحظة التي اريد الاشارة اليها، كانت ومن دون شك مثار نقد وامتعاض لكثير من العرب، هي انّ الانقلابات العربية الجمهورية لم تكن تملك تصورات جمهورية، بل زاولت سلوكا مغايرا، استمر مع الوقت لياخذ اشكالا تشريعية ودستورية وعُرفية، ومن الممكن القول، على نحو من الانحاء، انّ الامبراطورية العثمانية في اواخر عهدها والملكيات التي اعقبتها في البلدان التي كانت خاضعة لها قبل الحرب الاولى، كانت اقرب الى التوصل الى حلول لمشكلاتها الداخلية من الاوضاع التي حصلت فيما بعد. فما زال الطابع الانتقالي سائدا في بلدان العرب، حتى في تلك التي لم تنلها الانقلابات، مما يقرّب الى الاذهان التحليل الاصيل الذي قام به بولنتزاس حول استبدادية الحكومات الانتقالية، ومن السهل علينا نحن العرب توسيع مفهوم الاستبداد ليشمل المجتمع بوحداته الصغيرة.
ومن اللافت للانتباه، على الاقلّ في بلدي: العراق، انّ الحياة اليومية كانت اكثر تقدما من مؤسسات الحكم الجمهوري، واستمرت هكذا سنوات الى ان استولت عليها الادلجة الحزبية ثم عسكرة المجتمع. فمنذ عهد فيصل الاول، مع كونه مزيجا من كآبة ملكية واقعية يحدوها امل مشوبٌ بشك غير قليل، كان التعليم والادارة العامة يتقدمان، ثم مع الثروة النفطية اخذت الدولة تلجأ الى التشدّد في المرحلة الاقتصادية الانتقالية نهاية اربعينيات القرن الماضي (مع بدايات الحرب الباردة بين القطبين و مشاريع مجلس الاعمار الذي تاسس في 1950)، لكنّ الحياة اليومية للمواطنين بشكل عام لم تتعرض الى انتكاسة كما حصل في العهد الجمهوري، اذْ كان المنعطف يتزايد حدة فيشتد الاحتكاك بالحياة اليومية، وكان تصاعد ذلك واضحا في اثناء الحرب العراقية الايرانية واستمر، ثم ظهرت مضاعفات جديدة بعد الاحتلال عام 2003 وقد سبقت ذلك الاستحقاقاتُ التي قام الحصار الاقتصادي بالتمهيد لها يضاف الى ذلك العالمُ المغلقُ الذي استمرأه الحكم الثاني للبعث. انّ الطابع الذي يسبق المرحلة الانتقالية، والذي نعيشه اليوم، سيكون له ثمن اخر، لحين الوصول الى المرحلة الانتقالية مرة اخرى، فالاحتلال، الذي هو في نهاية المطاف حالة مفتعلة، قد انزلنا درجة قبل المرحلة الانتقالية، وستبقى الحياة اليومية في انتظار يقظتها لتكشف قواعد اللعبة وليرى الامبراطور حقيقة ثيابه، ثم تعود تلك الحياة الى تمثيل قواها القياسية والى دفع التخوم.
في مثل هذه السطور قد يلجأ الكاتب والقارئ الى نوع من المزايدات السياسية والاخلاقية، ولكنني اسير، والقارئ ليس بعيدا عني، في طريق ملئ بالتاويلات المتخالفة، حيث نؤدي نحن الكتاب الواجب، كما قال وايلد، اعني الطريق الى الماضي، والطريق من الماضي، والطريق في الماضي. والطريق على الماضي، والطريق بالماضي ( بكل احرف الجر هذه لن يكون المجرور الا واحدا وهو نفسه الجارّ المعنوي ايضا الذي يسبق الجارّ النحوي فالطريق هو الذي يجرنا في الدورة التي لا تفتأ تستدير الى ان ياخذ كل شئ مكانه ووظيفته ووعده العام وهذا عائدٌ عظيم يستحقُ كل المدفوعات الباهظة المتوقعة وكاني بلسان حال زعيم الوطنيين الديمقراطيين العراقيين المغفور له كامل الجادرجي يقول: كل الاثمان السياسية حتى تلك التي ذهبت هدرا فالديمقراطية اثمن منها... لو تحققت ). المهم ان نعرف الطريق لنتعلم الخروج الفعليّ من متاهته التي تراكَبْنا فيها مع الاحتلال تراكبا اقل ما يقال عنه الان انه مؤسف، ثم النجاة بالتالي من الخيبة التي يسببها لبُّ المتاهة الفارغة دون ان انسى اخوية النكبة المشتركة بين المنتصر والمهزوم كما خاطب سارتر مثقفي اليابان حول النتائج التي يعرفها الجميع للحرب الثانية.