الوثيقة السياسية التي أعلنها السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله يوم الاثنين الموافق الثلاثين من فبراير 2009، وتقع في 32 صفحة واستغرقت قراءتها منه ساعة وربع ساعة في مؤتمر صفحي عبر شاشة كبيرة، أي دون تواصل مباشر مع الصحفيين المشاركين في مؤتمره، يمكن اعتبارها الوثيقة السياسية الثانية للحزب بعد وثيقته الأولى التي أعلنها عام 1985، التي كانت بمثابة البرنامج السياسي للحزب، وكان أبرز ما يميزها الارتباط بين الحزب والايدولوجية الايرانية الخاصة بولاية الفقيه التي لا إجماع عليها في الوسط الشيعي العربي. والمثير أن قياديي الحزب ومنظريه أكثروا آنذاك من التركيز على بيان هذه العلاقة والافتخار بها، إلى حد قول الشيخ نعيم قاسم نائب السيد نصر الله في كتابه quot; حزب الله: المنهج،التجربة،المستقبل quot;: (الحزب يلتزم القيادة الشرعية للولي الفقيه كخليفة للنبي والأمة...وأمره ونهيه نافذان)، والسيد نصر الله قال مرارا: (نحن ملزمون باتباع الولي الفقيه ولا يجوز مخالفته فولاية الفقيه كولاية النبي والامام المعصوم...والذي يرد على الولي الفقيه حكمه فإنه يرد على الله وعلى أهل البيت). وخلال ربع القرن الماضي حوّل الحزب الضاحية الجنوبية في بيروت إلى معقل خاص به تختلف في كافة مضامين حياتها وسلوكها عما يعرفه الجميع عن لبنان ومظاهر حياته. وكان كل ذلك يتم من خلال الدعم المالي الإيراني الهائل الذي جعل الرفاهية معلما من معالم الضاحية، وهي الرفاهية التي اشتكى منها السيد حسن نصر الله بعد افلاس مليونير الحزب صلاح عز الدين، ومطالبته كوادر الحزب وقيادييه بالعودة للتقشف.
هل من جديد في الوثيقة الجديدة؟
أرى أن هذه الوثيقة رغم عموميتها في أغلب الموضوعات التي تعرضت لها خاصة البند الخاص بالوضع العالمي، إلا أنها فيما يتعلق بالوضع اللبناني والإسلامي حافظت على استراتيجية الحزب المعروفة الخاصة باستمرار التميز والسيطرة الداخلية على الوضع اللبناني أيا كانت نسبة الأغلبية التي تنتجها الانتخابات التشريعية، والإعلان الصريح عن الولاء لإيران بطريقة مواربة لكنها واضحة.
في الوضع اللبناني
تقول الوثيقة الجديدة أنّ (لبنان وطن الجميع) وهذا تعريف ديمقراطي لا يختلف عليه أحد ممن يسعون لوطن ديمقراطي يتساوى فيه الجميع أيا كانت قوميتهم وطائفتهم، وفور ورود هذا التعريف الديمقراطي يلصق به (وهو الذي قدمت المقاومة من أجل تحرير أرضه أغلى الشهداء)، وأعتقد أن هذا الإلصاق يقصد منه التلويح باستمرار سلاح الحزب الذي اجتاح بيروت عسكريا في مايو 2008 مدمرا ومخربا العديد من مؤسسات مناوئيه في الأغلبية البرلمانية. وضمن نفس الرؤية الداخلية التهديدية تقول الوثيقة: (أهم الشروط لقيام لبنان، قيام دولة عادلة ونظام سياسي يمثل إرادة الشعب). وهو أيضا تعريف يرقى لمفاهيم أعرق الديمقراطيات في العالم، ولكن يتم نسف هذا المفهوم الديمقراطي بما يأتي في الوثيقة لاحقا له حيث تقول: (الديمقراطية التوافقية الصيغة الأساسية للحكم في لبنان)، فكيف تنسجم (إرادة الشعب) التي تأتي عبر الانتخابات النزيهة مع (الديمقراطية التوافقية) التي تعني توافق كافة الأحزاب على سياسة واحدة، وهذا يعني نسف الديمقراطية إذ من الصعب توافق كافة أحزاب أي دولة على نفس الرؤية في كافة القضايا، بدليل أن هذه الديمقراطية التوافقية هي التي أخرت تشكيل الحكومة اللبنانية الحالية حوالي ستة شهور بسبب عدم موافقة المعارضة التي يتزعمها حزب الله وهي الأقلية البرلمانية على رؤى الأغلبية البرلمانية التي يمثلها قوى الرابع عشر من آذار، ثم امتد الوقت سبعة عشر يوما للاتفاق فقط على صياغة البيان الوزاري للحكومة الجديدة، رغم أن الديمقراطية الحقيقية تعطي للأغلبية البرلمانية وضع برنامج حكومتها والحكم هو الشعب في الانتخابات القادمة، وما زلنا في انتظار مناقشة هذا اليان تحت قبة البرلمان لنرى ما ستسفر عنه.
وسلاح الحزب لتخويف الداخل فقط
عند الحديث عن بناء الدولة اللبنانية أصرّت الوثيقة على الاحتفاظ بسلاح حزب الله عبر صيغة مواربة حيث قالت: quot; التهديد الإسرائيلي الدائم للبنان يفرض تكريس صيغة دفاعية تقوم على المزاوجة بين المقاومة الشعبية التي تساهم في الدفاع عن الوطن في وجه أي غزو إسرائيلي، وجيش يحمي الوطن ويثبت أمنه واستقراره في عملية تكامل). إن هذه الصيغة المطاطة تعني حق حزب الله وحده في الاحتفاظ بسلاحه تحت صيغة ضبابية اسمها (سلاح المقاومة)، رغم أن هذا السلاح لم يستعمل منذ يوليو 2006 بعد الانتصار الإلهي ضد الاحتلال الإسرائيلي رغم خروقاته وطلعاته الجوية شبه اليومية، وذلك احتراما من الحزب وخوفا من تبعات خرق القرار الدولي رقم 1701. والمرة الوحيدة التي استعمل فيها الحزب ما يسمى سلاح المقاومة، كانت في اجتياحه العسكري لبيروت في مايو 2008. لذلك فإن استمرار الحزب وحده في الاحتفاظ بسلاحه لا يعني سوى تهديد لديمقراطية الأغلبية التي تنتج عن الانتخابات البرلمانية، لتكريس ما أطلق عليه الحزب quot;الديمقراطية التوافقيةquot; أي لا تمرير لأية رؤية وتوجه حكومي إلا بموافقته، وهذا يعني نسف الديمقراطية والاحتكام للسلاح الذي هو في يد الحزب فقط، خاصة أن طبيعة تشكيل الجيش اللبناني لا تسمح بمصادرة هذا السلاح بالقوة، وبالتالي فالنتيجة هي استمرار هيمنة هذا السلاح على الوضع الداخلي اللبناني، و فرض رؤى الحزب ومواقفه السياسية أو تعطيل الحياة البرلمانية والحكومية مما يعني فراغا نيابيا وحكوميا كما حدث في الشهور الماضية.
في العلاقة مع إيران
تتحدث الوثيقة في بندها السادس (لبنان والعلاقات الإسلامية) عن إيران ودورها ومكانتها بتفصيل ينسجم مع ما أوردناه في مطلع المقالة عن تأكيدات قادة الحزب منذ ربع قرن عن الانتماء لإيران وتلقي الأوامر من فقيهها. ويكفي ذكر ما قالته الوثيقة عن إيران حيث لم تحظ دولة إسلامية مثل تركيا بكلمة واحدة رغم تشابه بعض مواقفها مع الموقف الإيراني الذي تشيد به الوثيقة. تقول الوثيقة:
quot; الدعم الإيراني مستمر للعالم العربي حتى يومنا هذا quot;. فكيف ينسجم ادعاء الدعم هذا مع احتلال الأحواز العربية منذ عام 1925 والجزر الإماراتية الثلاث منذ عام 1971، واستمرار التهديد بضم مملكة البحرين، وضرب دول الخليج العربي إن تعرضت إيران لأي تهديد خارجي.
quot; يعتبر حزب الله إيران دولة مركزية مهمة في العالم الإسلامي، فهي التي أسقطت بثورتها نظام الشاه ومشاريعه الصهيونية الأمريكية، ودعمت حركات المقاومة في منطقتنا، ووقفت بشجاعة وتصميم إلى جانب القضايا العربية والإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطنية quot;. إن هذا التثمين من حزب الله للدور الإيراني مبالغ فيه، ويقفز على خلفية هذه السياسة التي تستعمل هذا الدعم الخطابي للفت أنظار العالم عن ملفاتها العالقة دوليا، خاصة تصريحات أحمدي نجاد العنترية التي أكسبت إسرائيل تضامنا دوليا لم تكن تحلم به حسب اعترافات مسؤولين إسرائيليين. أما محاولات إيران التخريبية في العديد من الأقطار العربية، فلم تعد خافية على أحد من اعتقال خلية الحزب في مصر إلى قطع المغرب علاقاته الدبلوماسية معها. لذلك فإن هذه الوثيقة تؤكد من جديد بطريقة التفافية عن استمرار ارتباط الحزب بإيران، ووجوده في المنطقة العربية كامتداد إيراني قبل أن يكون حزبا لبنانيا، وذلك يشبه امتدادات إيران الأخرى في بعض دول الخليج العربي وبنفس التسميات (حزب الله في...).
وكنتيجة فإن هذه الوثيقة الجديدة،
تؤكد استمرار حزب الله ليس (حزبا سياسيا) في دولة بقدر ما هو (دويلة داخل دولة)، وبالتالي فهو قادر على التفجير الداخلي المسلح في أية لحظة لا تنسجم سياسة ومواقف الأغلبية البرلمانية مع سياسته ومواقفه التي تسعى للانسجام مع دولة الولي الولي الفقيه في إيران قبل توافقها مع الأغلبية البرلمانية المنتخبة من الشعب اللبناني، لذلك فالقادم المخفي أعظم.
[email protected]
التعليقات