كتبت بتاريخ العاشر من مايو 2009 مقالة بعنوان (دعوة عامة لتشييع جثمان الحوار الفلسطيني)، تناولت فيها بالتحليل آفاق نجاح الجولة الأخيرة من الحوار الفلسطيني التي عقدت في القاهرة بتاريخ الخامس عشر من مايو 2009، وكنت أميل إلى نتيجة الفشل الذريع لهذه الجولة التي كان طرفا الحوار (فتح و حماس) يلمحان أو يهددان بأنها ستكون جولة الحوار الأخيرة في حالة فشلها. وقد انتهت الجولة المذكورة بالفشل الصريح المعلن كغيرها من الجلسات التي من الصعب إحصاء عددها في العديد من العواصم العربية من مكة إلى صنعاء إلى القاهرة التي استضافت معظم هذه الجلسات. وكالعادة ولتخفيف وطأة الفشل ndash; الهزيمة، دوما يعلن وفد حركة فتح بأسلوب ودي ناعم أن الحوار متواصل وهناك عدة لجان تمّ الاتفاق على البدء بعملها لتذليل العقوبات. أما وفد حماس فدوما يكون إعلانه بعد الفشل ndash; الهزيمة أنه سيعود لدمشق لإطلاع قيادة حماس (خالد مشعل) على نتائج الجولة تمهيدا للجولة القادمة. وهي جولات مجرد عدد رقمي لا تحقق على أرض الواقع أية نتيجة ملموسة أو مجرد إبداء نية طيبة من أي من الطرفين. ويخطىء من يظن أن الخلاف بين حركتي فتح وحماس أساسه البرنامج السياسي أو متطلبات مواجهة الاحتلال والاستيطان، فهكذا برامج لا تستدعي هذه المواجهات العسكرية بين الحركتين حيث أبديا من الصمود والشجاعة ما لم يتمكنا من إبدائه أمام الاحتلال والمستوطنين.
مواجهات و جرائم قلقيلية،
كانت القشة التي قصمت ظهر بعير الحوار الفلسطيني المتآكلة أساسا منذ انقلاب حماس العسكري وسيطرتها على القطاع في يونيو 2007، وهو الانقلاب الذي مسح بقايا خط أحمر اسمه (الدم الفلسطيني)، ويتحمل القائمون على هذا الانقلاب مسؤولية كافة التداعيات الإجرامية التي حدثت خلال العامين الماضيين دوم تغييب مسؤولية حركة فتح في هذا الميدان التي لا تقل عن مسؤولية حركة حماس في كافة التداعيات والتطورات. كانت الأوضاع الفلسطينية قبل الانقلاب تميل إلى التهدئة واستخدام العقل قدر ألإمكان خاصة بعد الاعتراف بفوز حماس بأغلبية المجلس التشريعي الفلسطيني وتشكيلها الحكومة برئاسة إسماعيل هنية، مما جعل حماس تشيد بديمقراطية ونزاهة الرئيس محمود عباس واعتباره حسب حماس أكبر ديمقراطي في الشرق الأوسط.
هل فكرت حماس في نتائج انقلابها؟
من الواضح حسب النتائج الكارثية التي يعيشها سكان قطاع غزة خلال العامين الماضيين، أنّ حماس لم تكن يعنيها سوى الاستيلاء على السلطة كاملة بدلا من ازدواجية السلطة بينها وبين فتح خاصة في مجال الأمن والقوى الأمنية، إذ رغم تشكيل حماس للحكومة إلا أن حركة فتح وأجهزتها الأمنية تحديدا ظلت تتنازع السلطة مع الحكومة الرسمية محاولة سلبها كل الصلاحيات لتبقى مجرد حكومة كرتونية في يد حماس، بينما الحكومة الحقيقية في يد فتح وأجهزتها. وكان تشكيل القوة التنفيذية المسلحة كجهاز أمن وشرطة خاصين بحماس، بداية رفض حماس لازدواجية السلطة مع حركة فتح، وما هي إلا أسابيع حتى قامت بانقلابها الذي أعقبه ما لا يمكن تسميته سوى (تطهير فتحاوي) في عموم قطاع غزة، يقابله (تطهير حمساوي) في عموم الضفة الغربية. ورغم شبق الاستئثار بالسلطة كعادة وتراث عربي،إلا أن حماس لم تكن تعي النتائج الكارثية التي ستعقب هذه الانقلاب، فهل كانت تعرف أنها ستتحمل مسؤولية:
1. اقتحام المقرات الأمنية ومطاردة عناصر فتح والشرطة الفلسطينية، مما أوقع في ألأسبوع الأول للانقلاب فقط حسب مصادر حقوقية فلسطينية مستقلة ما لا يقل عن أربعمائة وخمسين قتيلا... قتيلا لأنهم في عرف حماس لا تنطبق عليهم مواصفات ومقاييس الاستشهاد!!. وحوالي ألف وثمانمائة جريح نسبة عالية منهم جراحهم خطيرة تهدد بإعاقات دائمة.
2. ازدياد معدلات البطالة التي وصلت لحدود 60 % بينما حوالي 90 % من الشعب في القطاع يعيشون تحت خط الفقر، وهي أعلى نسبة عاشها القطاع في الستين عاما الماضية، سواء في زمن الاحتلال المباشر أو بعد عودة السلطة الفلسطينية للقطاع بعد توقيع اتفاقية أوسلو.
3. توقف غالبية مشاريع تنمية البنية التحتية بما فيها بعض مشاريع وكالة الغوث (الأونروا) التي كان يعتمد عليها حوالي 120 ألف فلسطيني، وإغلاق ألاف المؤسسات والمشاريع في كافة ميادين الحياة، بسبب نقص المواد الأولية وغلاء الأسعار الجنوني، مما أدى لفقدان ما لا يقل عن سبعين ألف فلسطيني لوظائفهم وأعمالهم ليضافوا لنسبة ممن يعيشون تحت خط الفقر.
4. تصاعد المعاناة النفسية والحياتية بسبب الإغلاق شبه الدائم للمعابر بما فيها معبر رفح، مما حوّل القطاع إلى سجن كبير بموافقة وحراسة حماس طالما هذه السجن تحت سيطرتها وتحكمها.
5. تبني شبكات التهريب عبر الأنفاق بشكل يكاد يكون أن يكون رسميا تحت إشراف وموافقة حماس حسب شهادات كتاب ومواطنين فلسطينيين، مما أوجد طبقة جديدة من الأثرياء يطلقون عليها في القطاع (أثرياء الأنفاق)، وربما يجد البعض التبرير لذلك نتيجة الحصار الخانق الذي يعيشه القطاع، إلا أن هذا لا ينفي أنها تجارة تتم على حساب الفقراء الذين يزدادون يوميا.
5. وجود واقعي علني لحكومتين ودويلتين كرتونيتين على الورق، دويلة حماس في غزة ودويلة فتح في رام الله، وكل من الدويلتين ينشد رضا الاحتلال أكثر من راحة ومستقبل شعبه، ويكفي للتدليل على ذلك بأن حماس على طريق ما أسمته التهدئة مع الطرف الإسرائيلي مارست قمعا وقتلا بحق مقاومين فلسطينيين، وكذلك حركة فتح ارتكبت من الجرائم في أحداث قلقيلية مما لا يختلف عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
لذلك حماس أبلغت مصر رسميا تجميد
الحوار الفلسطيني الذي ما عاد ممكنا أن يحقق أية نتائج مهما خضع الطرفان للضغوط المصرية التي تأمل أن ينتهي بالتوافق والوحدة في يوليو القادم، وسيذهب الطرفان للقاهرة في حال إصرار مصر، مع استمرار اللف والدوران والمماطلة حرصا على المكاسب الرخيصة لحماس في القطاع وفتح في الضفة، مما بدأ يعني منذ عامين قسمة حقيقية واقعية بين صفوف شعب واحد ليصبح (غزاوي) في القطاع و (ضفاوي) في الضفة بشكل يذكرنا بالانقسام القبرصي عام 1974 الذي كان الجميع يعتقدون أنه لأسابيع أو شهور، فإذا به اليوم يدخل عامه الخامس والثلاثين مكرسا القسمة بين (قبرصي شمالي من أصول تركية) و (قبرصي جنوبي من أصول يونانية)، رغم الحدود المشتركة بين القسمين، إلا أنه في الوضع الفلسطيني لا حدود مشتركة بين القطاع والضفة مما يعني ازدياد وتعمق الانقسام، خاصة أن له جذوره النفسية بسبب الانقطاع الجغرافي أيضا منذ عام 1948 حيث كان القطاع يخضع للإدارة العسكرية والمناهج التربوية المصرية بينما الضفة الغربية جزء من المملكة الأردنية الهاشمية حتى قرار فك الارتباط الذي اتخذه المرحوم الملك حسين عام 1988.
ويعزز الفشل في عقد مؤتمر حركة فتح،
هذا الانقسام غير الوطني والمخجل، لأن حركة تفشل حواراتها الداخلية منذ أكثر من عامين في الوصول لأسس عقد مؤتمرها التنظيمي الداخلي الذي لم يعقد منذ عام 1989، لن تنجح في وضع أسس تفاهمات مع حركة حماس، خاصة أن الصراع حول آليات عقد المؤتمر يدور بين ما لا يزيد عن عشرة أشخاص من بقايا قيادة فتح التاريخية، لكل منهم أجندته المصلحية الخاصة التي لا علاقة لها بالعمل الوطني والقضية الفلسطينية بقدر ما هي مرتبطة بالمال والنفوذ والمناصب.
لذلك يجب أن لا نخجل من الاعتراف بهذا الواقع المخزي، لأن عدم الاعتراف به لا يعني أنه غير قائم وأن أمور الشعب الفلسطيني على ما يرام، وأن الدولة الفلسطينية المستقلة على الأبواب، فهذا الواقع يستدعي الإعلان رسميا عن تشييع جثمان الحوار الفلسطيني، ونقول للشعب الفلسطيني: عظّم الله أجركم والبقاء فقط لقيادتي حماس وفتح استمرارا في السلطة والنفوذ والحفاظ على المصالح التنظيمية الضيقة، وهذا يعزز التحليل القائل أنه في كافة المراحل، كانت مشكلة الشعب الفلسطيني في قياداته وليس في الاحتلال فقط.
[email protected]
التعليقات