قبل بداية العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، انطلقت بدايات حملة مشبوهة من أطرف عربية وإقليمية للتشكيك في الجهود المصرية الرامية لرأب الصدع الفلسطيني الذي تجاوز كافة الخطوط الحمر والصفر، ثم امتدت الحملة أثناء العدوان مستغلة مسمار جحا اسمه (معبر رفح). سأحاول هنا تحري الحقيقة من وراء هذه الحملة المشبوهة من خلال معرفتي الدقيقة بالمواقف المصرية ومعايشتي للإدارة المصرية لقطاع غزة منذ عام 1948 إلى عام 1967، خاصة أن أبناء جيلي من سكان المخيمات وأبناء المدن في قطاع غزة، كانت مصر المنفذ الوحيد لهم على العالم، وكانت الجامعات المصرية دون غيرها هي التي خرّجت النسبة الأكبر من أبناء القطاع في كافة التخصصات الأدبية والعلمية، مع تسهيلات مالية من الخزينة المصرية، جعلت القطاع من أكثر الدول العربية في ميدان خريجي الجامعات، ومنهم كان ما يزيد على ستين بالمائة من المدرسين والأطباء والمهندسين والحرفيين لكافة دول الخليج العربي، وهذا ما جعل الجاليات الفلسطينية في تلك الدول هي الأكثر حضورا وعملا. وأبناء جيلي من سكان المخيمات ومنها مخيم رفح حيث نشأت وترعرعت لا يمكن أن ينسوا في أعوام الستينات المنحة المادية المصرية التي كنّا نسميها منحة (الأربعين جنيها)، تعطى لغالبية خريجي الثانوية العامة الذين يقبلون في الجامعات المصرية، وبفضل هذه المنحة تمكنت من دراسة المرحلة الجامعية الأولى (ليسانس آداب اللغة العربية) في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وكانت هذه المنحة التي تساوي أقل من عشرة دولارات اليوم، تكفيني عاما جامعيا كاملا في القاهرة، في زمن عباقرة مصر الذين تعلمنا على أيديهم ونهلنا من ثقافتهم، ويكاد المرء لا يصدق اليوم أنه جلس على مقاعد الدراسة في جامعة القاهرة يستمع لعباقرة أمثال: شوقي ضيف، شكري محمد عياد، سهير القلماوي،عبد المنعم تليمة،عبد الحميد يونس، نبيلة ابراهيم، بدوي طبانة، وغيرهم كثيرون.
استمرار الجهود المصرية
وفي السنوات الستة الماضية أي من قبل وفاة الرئيس ياسر عرفات، تقوم مصر وحدها بدور الوساطة بين الفصائل الفلسطينية، وسط عدم اهتمام أغلب الدول العربية بهذا الأمر، ربما من منطلق أن مصر هي الدولة العربية الحدودية مع قطاع غزة، وعلاقاتها جيدة بكافة الفصائل والتنظيمات الفلسطينية،لذلك كانت زيارات الفريق عمر سليمان رئيس المخابرات المصرية لقطاع غزة تكاد تكون نصف شهرية للاجتماع تحديدا مع وفدي السلطة الفلسطينية وحماس، إلى حد أن حماس قامت بانقلابها العسكري في يونيو 2007 أثناء اجتماع وفد المخابرات المصرية مع الوفدين الفلسطينيين، وكانت هذه طعنة غدر حماسية للجهود المصرية. وبعد الانقلاب تصاعد المسلسل المشبوه للطعن في مصر وحكومتها وشعبها متناسين بحقد أعمى كل ما قدمته مصر للقضية والشعب الفلسطيني. والدليل على الغيرة من الدور المصري ومحاولاته لم الصدع الفلسطيني، تكاثرت المبادرات العربية من صنعاء إلى جزر القمر والسنغال أيضا دون مزاح، والمطالبة بنقل مقر الجامعة العربية من القاهرة،وكانت الخلافات الفلسطينية الهادفة للاستئثار بالسلطة والكراسي والمال هي سبب عدم نجاح أية وساطة عربية بما فيها الوساطة السعودية التي نتج عنها اتفاق مكة، الذي وجده مسؤولو السلطة وحماس مناسبة للتظاهر بأداء مناسك العمرة، ثم عادوا متنكرين لاتفاق مكة ومناسك العمرة لأنهم يسعون للسلطة وليس تعمير بيوت شعبهم و إقامة دولته.
مسمار جحا اسمه معبر رفح
أثناء الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة في يناير الماضي، كانت مسألة فتح معبر رفح من الجانب المصري بشكل منفرد أهم الموضوعات التي كان طرحها يكاد مستمرا لدى كافة التنظيمات والفصائل الفلسطينية والعديد من الدول العربية التي استطاب لها أن يطلق عليها أسم (محور الممانعة)، ولا أدري أية ممانعة هذه وقيادة هذه الممانعة في سوريا،تقيم تحالفا مع إيران المحتلة لأراض عربية تزيد مساحتها على مساحة فلسطين المحتلة، وتهدد بشكل دائم بإعادة احتلال البحرين وتهديد دائم لدول الخليج العربي.
وكان النظام الاحتلالي الطائفي الإيراني أشد الأنظمة مزايدة في طرح موضوع معبر رفح من جانب مصر بشكل منفرد، متناسين هم ومحور ممانعتهم الكاذب أن مصر فتحت المعبر للمساعدات الإنسانية و الطواقم الطبية طوال فترة الاجتياح الإسرائيلي...فماذا بقي مما يمكن إدخاله في هكذا حالة؟ السلاح والصواريخ الإيرانية؟ لماذا لم يستعمل نظام الملالي هذه الصواريخ من داخل إيران وهو الذي يهدد رئيس وزرائه أحمدي نجاد منذ سنوات بمحو إسرائيل، وأن صواريخه قادرة على الوصول لكل المدن الإسرائيلية؟. هذه المزايدات انكشفت من خلال اكتفاء الممانعين وأسيادهم الإيرانيين بالكلام الخطابي لدغدغة عواطف الجماهير، وهم يعلمون أنهم غير قادرين على رمي حجر عبر الحدود الإسرائيلية، بدليل أن الملا علي خامئني نصح بعض المحتشدين الإيرانيين بالهدوء والعودة لبيوتهم لأنه لا يستطيع دعم شعب القطاع بأي شكل عسكري.
النظام السوري وحزب الله مثالا
الذين كانوا يطالبون مصر بفتح حدودها لتوصيل السلاح للمقاتلين الفلسطينيين، لماذا لم يفعلوا ذلك أنفسهم؟ لماذا لم يفتح النظام السوري حدوده مع إسرائيل من ناحية جولانه المحتل، كي تعبر الجماهير السورية تلك الحدود مشتبكة مع الجيش الإسرائيلي لتخفيف الضغط على قطاع غزة؟ لماذا لم يطلق النظام السوري صواريخة ويرسل طائرته ليدعم القطاع؟ لماذا لم يطلق رصاصة واحدة منذ عام 1967 لتحرير جولانه المحتل؟ لماذا كان منذ عام 1965 وما يزال يمنع أي فلسطيني من أي تنظيم بإطلاق رصاصة واحدة على إسرائيل من الحدود السورية؟ بينما يرسل جماهيره لتطلق الحجارة على السفارة المصرية في دمشق. وأين صواريخ حزب الله؟ و أين تهديدات السيد حسن نصر الله بالصواريخ التي تتجاوز مدينة حيفا؟ لماذا لم يطلق ولو عدة رصاصات رمزية للتضامن مع قطاع غزة؟ و لماذا سكت بعد النصر الإلهي عام 2006 وتوقف عن الرد على كل الاختراقات الإسرائيلية، ومزارع شبعا اللبنانية ما زالت محتلة؟
وحماس أيضا،
شاركت قيادتها المقيمة في دمشق في الحملة المشبوهة على مصر، مكررة بأن مصر غير محايدة في وساطتها بين التنظيمات الفلسطينية، متناسين أن السياسة المصرية دوما مع رأب الصدع الفلسطيني تحت مظلة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وقد اعترف خالد مشعل رسميا وعلنيا بأن القيادة السورية (نصحته) برفض المبادرة المصرية؟ لمصلحة من هذا الرفض طالما القيادة السورية لا تقوم بأية محاولة وساطة وجمع شمل، وتحرص على التفريق والشرذمة التي كان آخرها دعوة خالد مشعل الدمشقية قبل أيام قليلة بإقامة قيادة بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، متناسيا هو ومن ينصحونه بأن هناك اعترافا دوليا بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، وان كافة سفارات فلسطين في الخارج مفتوحة باسم (ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية)، فلمصلحة من هذه الدعوة المشعلية المشبوهة، وقد كانت قيادة حركة الجهاد الإسلامي والقيادي في حماس الدكتور غازي حمد أول من رفضوها.
من كان سيضمن عودتهم؟
وفي السياق هناك ملاحظة مهمة تحتاج لتمعن موضوعي بعيدا عن التهييج العاطفي. وهي في حالة فتح معبر رفح والحدود المصرية بشكل حر وكامل مع قطاع غزة أثناء القصف الإسرائيلي لكل متر في القطاع، كم مئات ألالاف من سكان القطاع الذين كانوا سيغادرونه باتجاه الأراضي المصرية هربا من القذائف والقصف الإسرائيلي الذي لم يستثني الحجر والبشر؟. عندما دمرت حركة حماس جزءا من معبر رفح في يناير عام 2008، دخل الحدود المصرية باتجاه مدينة العريش خلال يومين ما يزيد على سبعمائة ألف فلسطيني، ولأن مصر أبقت المعبر مفتوحا، عاد غالبية هؤلاء المقتحمين بعد جهود مضنية من الأمن المصري، لأن بقاءهم في العريش وصولا للقاهرة والمدن المصرية ألأخرى أكبر خدمة يتم تقديمها للاحتلال لإخلاء القطاع من نسبة عالية من سكانه. وقياسا على ذلك لو فتحت مصر حدودها كاملة مع القطاع مع حرية العبور والسفر لمن يريد، هل كان سيعبر الحدود المصرية طوال 22 يوما من القصف الإسرائيلي أقل من مليون فلسطيني؟. وماذا كان سيحصل لهم إن أقدمت إسرائيل بناء على اتفاقية عام 2005 الخاصة بإدارة المعابر على إقفال المعبر والحدود مع القطاع وبدعم وموافقة أوربية؟ أليس عندئذ بقاء هذا المليون فلسطيني هائما مشردا في شوارع ومدن مصر أكبر خدمة تقدم للاحتلال الإسرائيلي؟
لذلك وبناءا على هذه المعطيات، فإن مصر أثناء الاجتياح الإسرائيلي تصرفت كدولة مرتبطة باتفاقيات دولية ومنها اتفاقية إدارة المعابر التي تنص على وجود السلطة الفلسطينية والمراقبين الأوربيين والجانب الإسرائيلي على هذه المعابر. ما كان بإمكان مصر أن تتصرف كعصابة أو تنظيم حماس، والذين يطالبونها بذلك من دمشق ويتهجمون عليها بوقاحة، فليتفضلوا ويعبروا الحدود السورية ويحاربوا إسرائيل. ليت خالد مشعل يجيبنا على سؤال: لماذا يلوم مصر على ما يسكت عليه مع النظام السوري؟. إنها حملة ضد مصر حكومة وشعبا، تتناسى مكانة مصر وموقعها في العالمين العربي والإسلامي، وذلك خدمة لأنظمة مزايدة بالكلام والخطب خاصة في دمشق وطهران..ولله في خلقه شؤون أكثرها استغلالا ومزايدة الشؤون الفلسطينية.
[email protected]