انتظرنا الخطاب الذي ألقاه نيتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في جامعة بار إيلان الإسرائيلية يوم الرابع عشر من حزيران، بنفس اللهفة التي انتظرنا خطاب الرئيس الأمريكي أوباما في جامعة القاهرة يوم الرابع من حزيران 2009. وإن كان خطاب أوباما فيه العديد من نقاط الأمل والتفاهم والتفهم، فإن خطاب نيتنياهو جاء صدمة لقوى السلام الفلسطينية والعربية والإسرائيلية وربما الإدارة الأمريكية أيضا، التي وعد الرئيس أوباما في خطابه بأن يعمل من أجل الوصول لحل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. فهل تحققت الظروف المناسبة لقيام الدولة الفلسطينية في خطاب نيتينياهو؟.

الجواب ألف لا كبيرة وصارخة
لأن الشروط أو المواصفات التي وضعها نيتينياهو لقيام هذه الدولة، لا ينتج عنها دولة ذات سيادة مطلقا بقدر ما هي عبارة عن مساحة من الأرض يمكن تسميتها فقط (محمية) تابعة للدولة الإسرائيلية، والدليل على ذلك من شروط ومواصفات نيتينياهو الذي اشترط :

أولا: دولة منزوعة السلاح، وهذا أبسط الشروط ويمكن التغاضي عنه أو قبوله إذا كانت الدولة تلبي طموحات الشعب الفلسطيني الوطنية، لأنه عندئذ ما لزوم السلاح وضد من سيستعمل السلاح، لأن تلك الدولة مشروطة بالتعايش مع الدولة الإسرائيلية، والفلسطينيون يقبلون بذلك منذ عام 1988 وقت انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر الذي وافق على قيام الدولة الفلسطينية ضمن حدود عام 1967 أي أربعة عشر عاما قبل توقيع اتفاقية أوسلو. وبالتالي فلا ضرورة للسلاح في هكذا دولة تلبي طموحات الشعب الفلسطينية، إذ لن تستعمله ضد الدولة الإسرائيلية الجارة أو ضد الجيران العرب.

ثانيا: الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل أي أنه دولة يهودية للشعب اليهودي وحسب تعبيره الحرفي (اعتراف فلسطيني علني ملزم وصادق بصفتها الدولة القومية للشعب اليهودي شرطا أساسيا لإنهاء النزاع). وربما يبدو هذا الشرط عاديا لا يثير النزاع طالما يعترف الفلسطينيون بالدولة الإسرائيلية، فهم أي الإسرائيليون عندئذ أحرار في تسميتها كما يريدون، دولة يهودية أو غير ذلك. إلا أن الإشكالية الخطيرة مستقبلا هي مصير ربع مليون فلسطيني يقيمون الآن داخل دولة إسرائيل منذ عام 1948 ويحملون الجنسية الإسرائيلية. فما هو مصيرهم كمواطنين غير يهود في دولة (يهودية للشعب اليهودي)؟. أليس من المحتمل جدا أن يتم ترحيلهم أو تهجيرهم في المستقبل بوسائل شتى، خاصة أن نيتينياهو قال عنهم في خطابه : (يعيش في قلب مناطق الوطن اليهودي اليوم جمهور غفير من الفلسطينيين. إننا لا نريد حكمهم أو إدارة حياتهم أو فرض رايتنا أو ثقافتنا عليهم). إن هذا الكلام خطير وملغوم، فهم يعيشون في داخل دولة إسرائيل، وهذه الدولة لا تريد حكمهم أو إدارة حياتهم. وهذا لا يفترض سوى حالتين، إما إعطاءهم حكما ذاتيا، وهذا مستبعد نهائيا في دولة يهودية الطابع، لذلك الحالة الثانية الأقرب لعقلية يهودية الدولة هو تهجيرهم ليضافوا لملايين اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948.

ثالثا: ديمومة الاستيطان والمستوطنات بشكل واضح جلي رغم محاولته التلاعب باللغة إذ قال (لا للمستوطنات الجديدة ولا لمصادرة مزيد من الأراضي) وفي الوقت نفسه يؤكد على (أن المستوطنات القائمة لن يتم إزالتها ويفضل توسيعها ضمن ما يسميه النمو الطبيعي للمستوطنات)، و هل يختلف توسيع المستوطنات القائمة فعلا عن إقامة مستوطنات جديدة؟ خاصة أن المستوطنات بوضعها الحالي في الضفة الغربية وجوارها، تقطع أوصال الضفة وتجعل تنقل الفلسطينيين صعبا بشكل لا يتخيله إنسان عاقل وطبيعي، فكيف سيصبح الحال بعد توسيع هذه المستوطنات الذي يشدد عليه نيتينياهو؟؟. والخطير في أمر توسيع المستوطنات القائمة في الضفة الغربية أنه يتم مترافقا مع عقلية توسعية تعتبر الضفة الغربية هي (يهودا والسامرة) كأرض يهودية، إذ ورد في خطاب نيتينياهو حرفيا : (إن مناطق يهودا والسامرة (أي الضفة الغربية) حيث سار وتمشى كل من أبراهام ويتسحاق ويعقوب وديفيد وشلومو وإشعيا وإرميا ليست بالغريبة علينا بل هي أرض الأباء والأجداد). وهذه العقلية التوسعية الاستيطانية هي التي تصر على بقاء المستوطنات وتوسيعها في الضفة الغربية عند الفلسطينيين ويهودا والسامرة عند اليهود.

رابعا : رفض الاعتراف بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة حسب القرار الدولي 194 وطرح توطينهم علنا. وكذلك رفض تقسيم القدس، وحسب قوله (إن أورشليم القدس عاصمة إسرائيل ستبقى موحدة).

ما هي هذه الدويلة إذن؟
ضمن شروط واشتراطات نيتينياهو الصريحة الواضحة هذه، فإن المعروض على الفلسطينيين هو مجرد (محمية) لا تزيد مساحتها عن ستين بالمائة من مجموع مساحة الضفة الغربية التي هي أساسا 5860 كيلو متر مربع، وهي مع قطاع غزة (360 كم) لا تزيد مساحتهما عن 21 % من مجموع مساحة فلسطين التاريخية، وذلك لأن المستوطنات وجدار الفصل العنصري يستوليان على ما لا يقل عن أربعين بالمائة من مجموع مساحة الضفة الغربية. لذلك فما يطرحه نيتينياهو على الشعب الفلسطيني لا علاقة له بأية مواصفات لأية دولة في التاريخ القديم أو الحديث. فهي مجرد محمية خاضعة لشروط الاحتلال ومزاجه ورغباته التوسعية.

وهذه المحمية المسخ،
لن يقبل بها أي فلسطيني أو عربي، لأن هذا يعني أن الخطوط الحمر الفلسطينية العادلة تتناقض تماما مع الخطوط الحمر الإسرائيلية العدوانية الظالمة، مما يعني أنه لا سلام للشعبين في ظل هذه العقلية التوسعية التي وردت في خطاب نينينياهو، ولاقت تأييدا واسعا في أوساط اليمين الإسرائيلي المسيطر الآن على مقاليد السلطة والحكم. ورغم الظلم الوارد في خطابه إلا أن مجلس حاخامات يهودا والسامرة (ألاسم اليهودي للضفة الغربية) يرفض إعطاء الفلسطينيين هذه المحمية المسخ، ووصف خطاب نيتينياهو بأنه (نية لتسليم قطع من أرض إسرائيل إلى أيدي القتلة وإعطاء القتلة دولة)، وحث أنصاره على التوجه إلى قمم التلال في الضفة الغربية لبناء مستوطنات جديدة. لذلك فإن الصراع سيظل مفتوحا على كل الاحتمالات، وأي ويل ينتج عنه سيصيب الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، فهكذا عنف متوقع لن يسلم منه أحد.

إن هذا التحدي موجه أيضا
للإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة الرئيس أوباما الذي وعد في خطابه بالعمل من أجل قيام دولتين تعيشان في سلام، ولا أعتقد أن الرئيس أوباما يمكن أن يسمي هذه المحمية المسخ بأنها دولة أو دويلة، فماذا عسى الإدارة الأمريكية أن تفعل إزاء هذا الوضع الخطير الذي يعني استمرار الصراع والعنف؟.
[email protected]